«سيكون العراقيون أهون على الله من بعوض المستنقعات إذا سمحوا لتركيا بتصحير العراق وإزالة الرافدين، دجلة الفرات، من الوجود!» ــ الراحل هادي العلويتحقق أخيراً ما كنا حذرنا منه مراراً، وتوقفنا عند بعض تفاصيله في مناسبات عديدة، كانت آخرها ما كتبناه في «الأخبار» (العدد 3378)؛ وها هو العراق يدخل اليوم مرحلة جديدة من تاريخه القديم والحديث، ويلج طوراً خطيراً من الكارثة المائية التي حذّرنا منها منذ أكثر من ربع قرن. وها هي الصور المرعبة عن جفاف نهر دجلة وانخفاض مناسيب سدّ الموصل بشكل صاعق تنتشر في الفضاء الإعلامي العالمي. وها هو الوجود الجغرافي العراقي المؤسس، والقائم، والمعتمد على وجود الرافدين العظيمين دجلة والفرات يدخل طور التلاشي والزوال. وها هو العراق الأخضر والألفيّ عمراً، يتحول أمام أنظارنا إلى صحراء قاحلة.
فبعد أن خسر العراق طوال العقود الثلاثة الماضية، أكثر من نصف مياه نهر الفرات، يخسر هذه الأيام كلَّ مياه نهر دجلة، ويتحول أمام أعين العراقيين والعالم إلى قاع صفصف ومستنقع طويل فارغ من المياه. إنَّ سبب هذه الكارثة قائم ومعترف به، وهو العدوان التركي العلني، وقطع مياه النهر وتحويلها الى البحيرة الاصطناعية خلف سد أليسو العملاق. كما أنَّ التواطؤ المشفوع بسوء إدارة هذا الملف من قبل الحكومة ووزارتها للموارد المائية واضح وموثق بالأدلة طوال السنوات الماضية. وكمواطن عراقي بسيط، بُحَّ صوته من الصراخ مع قلة من الكتاب والمتخصصين وغير المتخصصين في شؤون «هايدروليكا» المياه، أكرر طرح هذه المقترحات لمواجهة الكارثة والتقليل من أضرارها والحد من فواجعها كحد أدنى. وأذكِّر، قبل ذلك، مجدداً بتقرير «يونسيف» الصادر بتاريخ 22 آذار 2011، عشية اليوم العالمي للمياه، والذي حذرتْ فيه هذه الهيئة الدولية من احتمال الزوال الكلي لنهري دجلة والفرات بحدود عام 2040.
أطرح هذه التصورات والمقترحات الأولية أمام العراقيين، والدولة العراقية التابعة وناقصة الاستقلال، وأمام الرأي العام العراقي والعربي والعالمي، شهادة ومساهمة شخصية في وضع خطة طوارئ لمعالجة كارثة وطنية حقيقية قيد الحدوث، مسجلاً في الوقت نفسه، أن النظام السياسي القائم في العراق اليوم، ليس جديراً ولا هو كُفؤ يعوّل عليه للقيام بمهمة الدفاع عن الرافدين والتصدي للعدوان التركي الجاري، بل هو كان سبباً في مفاقمة الكارثة. ولأن الوقت الآن، لم يعد وقت جدالات فارغة حول اسم وهوية المسؤول عن إشعال النار، وحول أحسن الطرق للاتصال بالمطافئ فيما الدار تحترق، أطرح هذه المقترحات لإجراءات فورية تنفذ على المدى القصير وأخرى على المدى المتوسط وثالثة على المدى الاستراتيجي والبعيد، فعلى المدى الفوري والقصير، ينبغي على أية حكومة وطنية وديموقراطية عراقية القيام بالإجراءات التالية:
ــ إعفاء وزير الموارد المائية الحالي حسن الجنابي من منصبه، بعد أن ثبت سوء إدارته لهذا الملف، واعتماده استراتيجية شحاذين أو متواطئين، لا أصحاب حق تاريخي وجغرافي في أنهار العراق. ولأنه يتحمل مسؤولية مباشرة عن تمادي دولة تركيا في عدوانها، بل ولأنه لا يعترف أصلاً بوجود هذا العدوان، ويحاول تبريره بكل الأساليب والصور ويطرح حلولاً ترقيعية ومشبوهة منها ترويج الدعوة إلى الاستفادة من التجربة الصهيونية في دولة الكيان «إسرائيل» في مجال توفير المياه. إن هذا الإجراء لا يعني تبرئة الحكومة ومؤسسات الدولة جميعاً من مسؤوليتها الجسيمة، ولكننا نأخذ بنظر الاعتبار أن الحكومة العراقية الحالية هي حكومة تصريف أعمال ستنتهي مهمتها خلال بضعة أشهر.
ــ تكليف شخصية وطنية مستقلة وذات تخصص وكفاءة مشهودة في ميدان «هايدروليكا» المياه، بإدارة الوزارة وفق برنامج طوارئ معلن وجذري وفعال بالتعاون مع الوزارات الأخرى.
ــ تشكيل مجلس طوارئ لإنقاذ الرافدين من السلطات الثلاث، التشريعية (مجلس النواب) والتنفيذية (الحكومة) والقضائية (مجلس القضاء الأعلى)، والفعاليات المجتمعية العراقية، يتخذ ــ هذا المجلس ــ إجراءات سريعة وعاجلة، كفيلة بمواجهة العدوان التركي، ويشرف على تنفيذها.
ــ يبادر «مجلس الطوارئ لإنقاذ الرافدين» إلى وقف تصدير النفط العراقي إلى الخارج عبر الأراضي التركية فوراً ونهائياً، وتفعيل وإعادة تأهيل خطوط تصدير النفط القائمة عبر المملكة السعودية وسوريا واستكمال خط التصدير المزمع إنشاؤه عبر الأردن.
ــ وقف وإنهاء المشاريع التركية الاقتصادية في العراق فوراً ونهائياً، وفي المقدمة ينبغي وقف استيراد البضائع والخدمات التركية، وتصفية وإنهاء المشاريع والاتفاقيات الاقتصادية والأمنية، ومنها الاتفاقية الأمنية والتي تسمح لتركيا بالتوغل العسكري داخل حدود العراق لمسافة 30 كليومتراً.
ــ طرد القوات التركية الموجودة في منطقة بعشيقة، شمالي العراق، فوراً وبجميع الوسائل المتاحة.
ــ سحب السفير العراقي من أنقرة وإبعاد السفير التركي ضمن سلسلة من الإجراءات الديبلوماسية المتصاعدة، مع تصاعد وتفاقم خطر الكارثة وجفاف نهر دجلة وصولاً إلى قطع العلاقات بالكامل والدفاع عن حقوق العراق في أنهاره بكل الوسائل المتاحة.
ــ المبادرة الى إطلاق عملية تدويل ديبلوماسية وقانونية ومعلوماتية سريعة ومتقنة لهذا الملف، يشرف عليها ويقودها خبراء متخصصون، وتشارك فيها جميع الوزرات العراقية ذات العلاقة، وفق خطة وطنية مفصلة ومحددة الفقرات والأهداف. وتأخذ خطة تدويل هذا الملف الخاص بمأساة الرافدين طريقين هما:
الأول، هو بدء عملية مقاضاة تركيا في محكمة العدل الدولية، وفي حال رفضت تركيا عملية التحكيم والتقاضي، يأخذ العراق مسار التقاضي من طرف واحد بموجب الاختصاص الاستشاري للمحكمة، وصولاً إلى عقد جلسة سرّية والحصول على قرار أو حكم استشاري. ثمَّ يقدم العراق طلباً رسمياً لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لاستصدار قرار لإزالة الأضرار التي لحقت به نتيجة السياسات المائية للدولتين. إنَّ أحكام محكمة العدل تشترط، لتكون ملزمة موافقة الطرفين المتقاضيين أمامها على الحكم والقضية. والحقيقة، لن يكون رأيها أو حكمها ملزماً، إذا لم يرد نص صريح على ذلك، كما يشاهد فعلاً في بعض الاتفاقات الدولية التي تعقدها المراجع المخولة إبداء الرأي إلى المحكمة. هذا من الوجهة القانونية الصرفة، أما من الناحية الأدبية والمعنوية فإنَّ لهذا الرأي دائماً وأبداً وزنه الدولي الذي يفرض، على المرجع الذي استفتى المحكمة، وعلى كل الدول المعنية بالأمر، ضرورة مراعاته. هذا بخصوص خيار محكمة العدل الدولية، فماذا بخصوص المحكمة الجنائية الدولية وماذا عن صلاحياتها وشروطها؟
يجب إعفاء وزير الموارد المائية من منصبه بعدما ثبت سوء إدارته


أما الثاني، فهو أن يتخذ العراق الإجراءات اللازمة لوضع خطة عملية مع تفاقم الأزمة واحتمال حصول وفيات بين صفوف العراقيين بسبب جفاف نهر دجلة الكلي أو الجزئي، وخروج حالة التجفيف عن السيطرة لمقاضاة المسؤولين الأتراك في المحكمة الجنائية الدولية. هذا الأمر يوجب على الحكومة العراقية الانضمام بسرعة إلى ميثاق روما والمحكمة الجنائية الدولية بالسرعة اللازمة، والذي سبق لحكومة علاوي المؤقتة وبأمر من الحاكم الأميركي بول بريمر، أن تراجعت عنه. وبهذا الصدد نقول إن المحكمة الجنائية الدولية قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء، وهي تختلف عن محكمة العدل الدولية لأنها لا تشترط وجود موافقة مسبقة من قبل الطرف المدعى عليه، بل يكفي أنْ ترفع جهة في الدولة المدعية أو محكمة فيها الدعوى. ومن الطبيعي أن تدخل جريمة تجفيف نهري دجلة والفرات، وحجز مياههما خلف السدود العملاقة واحتمال انهيار تلك السدود المقامة في منطقة ناشطة زلزالياً وحدوث فيضانات مرعبة، ستحول سوريا والعراق إلى مستنقع شاسع، وما سيترتب على الجفاف أو الفيضانات من أضرار فادحة وإبادة عامة وغير مسبوقة للبشر والحيوان والنبات، ضمن باب جرائم الاعتداء التي يتحمل مسؤوليتها الأفراد الحاكمون وأصحاب القرار في الحكومتين التركية والإيرانية.
صحيح أنَّ جريمة الاعتداء الواردة في القانون الأساسي للمحكمة غير واضحة أو محددة، ولهذا، فهي يمكن أنْ تشمل تشكيلة واسعة، كما يبدو، من نماذج الاعتداءات كقطع المياه عن دول المصب بواسطة السدود الضخمة أو تهديد سلامة الشعوب بفعل ذلك، أو بفعل تداعيات إقامة تلك السدود والبحيرات الاصطناعية، كانهيارها المفاجئ بسبب الزلازل أو أعمال العنف، ما يؤدي حتماً إلى إحداث طوفان مدمّر يضرب بلدان المنطقة وشعوبها، وعندها سيكون من العدل المطالبة بتقديم الزعماء والقيادات السيادية في الدولة التي تسببت بذلك الى المحكمة الجنائية الدولية.
تعمل هذه المحكمة على إتمام عمل الأجهزة القضائية الموجودة، فهي لا تستطيع أنْ تقوم بدورها القضائي ما لم تُبْدِ المحاكم الوطنية رغبتها في ذلك، أو تعلن أنها غير قادرة على التحقيق أو الادعاء ضد تلك القضايا، فهي بذلك تمثل المآل الأخير. فالمسؤولية الأولية تتجه إلى الدول نفسها، كما تقتصر قدرة المحكمة على النظر في الجرائم المرتكبة بعد 1 تموز 2002، وهو تاريخ إنشائها، عندما دخل قانون روما للمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ. ويشترط الخبير القانوني الدولي فانسون شيتا، لعمل المحكمة أنْ تتسلم طلباً رسمياً، إما من قبل بلد عضو في ميثاق روما، أو من قبل مجلس الأمن الدولي، أو بمبادرة من المدعي العام للمحكمة الذي له الحق في طرح الموضوع أمام المحكمة إذا ما توفرت الشروط اللازمة. النقطة الأخرى التي أثارها الخبير القانوني، تخص الشروط التي يجب توفرها لفتح تحقيق من قبل المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية وهي ثلاثة شروط: أولاً، توفر دلائل تثبت حدوث الجرائم المراد النظر فيها. وثانياً، توفر الشروط لتقبل الشكوى والتي تتمثل في خطورة طبيعة الجريمة، وأن القضية ليست مطروحة أمام المحاكم الوطنية. وثالثاً، أنْ تكون المحاكمة في صالح العدالة. ويعتبر شيتا أن توفر هذه الشروط، هو الذي يسمح للمدعي العام بقبول فتح تحقيق في قضية أمام المحكمة الجنائية الدولية. وبمراجعة النظام الأساسي للمحكمة، نتعرف إلى مفهوم ومصطلح جريمة الإبادة الجماعية، فهي تعني أياً من الأفعال الخمسة المعرَّفة فيها، إذا ارتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه، إهلاكا كلياً أو جزئياً: ونذكر منها الفعلين الثاني والثالث حصراً، وهما، إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة، وإخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية بقصد إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً. ويمكن بكل تأكيد اعتبار جريمة تجفيف دجلة والفرات وتصحير العراق وتدمير الزراعة وإحداث مجاعة أو فيضانات فيه، ضمن مشمولات البند الثالث. كما يمكن اعتبارها ضمن مشمولات البند العاشر من الأفعال التي يشملها مفهوم ومصطلح «الجرائم ضد الإنسانية» أيضاً، ويقول النص الحرفي لهذا البند: «الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمداً في معاناة شديدة أو أي أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية».
ونعود إلى طرح الاقتراحات:
ــ دعوة الأمم المتحدة للمشاركة والإشراف عملياً على مراكز ومحطات لقياس الوارد المائي للرافدين من تركيا ولروافد دجلة من إيران من حيث الكميات والنوعية وتنظيم أرشيف رسمي وموثق بنتائج عمل هذه المحطات يومياً. وينبغي أن تقام هذه المحطات على النهرين عند الحدود الدولية للعراق فوراً ودون إبطاء.
ــ وضع خطط تفصيلية، أولاها عاجلة للمدى القريب وأخرى للمدى المتوسط وثالثة للمدى البعيد لإدارة المتوفر من المياه وصيانة الرافدين وروافدهما ورواضعهما وللبحيرات (الأهوار) التي تتغذى منهما وبما يؤدي إلى تنفيذ الأهداف التالية: ــ تختص الخطة ذات المدى القريب بإعطاء الأولوية لتوفير مياه الشرب. إلى جانب صيانة إصلاح محطات معالجة المياه ونقل بعضها من الرواضع والروافد البعيدة إلى النهر الرئيس. كذلك منع التجاوزات بين المحافظات والمدن العراقية بحسم وردع مرتكبيها. والتثقيف الواسع والكثيف بخطورة الوضع من دون مبالغات إو إثارة للذعر وتحريض المبادرات الشعبية لتوفير المياه ومنع الهدر وتوضيح الأطراف المتسببة بهذه الأزمة وهما الدولتان الجارتان. كما البدء الفوري بكري مجريي دجلة والفرات والروافد إليهما والرواضع منهما، والبدء أولاً بعمود نهر دجلة الأوسط انطلاقاً من مركز محافظة بغداد. واستيراد معامل تحلية مياه واستعمالها لتوفير مياه الشرب على شط العرب وساحل الخليج العربي قرب الفاو. وإذا صح ما قاله وزير الموارد المائية الحالي حسن الجنابي، عن إمكانية استخدام مياه بحيرة الثرثار بواسطة مضخات عملاقة لرفد الرصيد المائي العراقي من الخزين الميت فيجب المباشرة باستيراد هذه المضخات. مع أن البعض يقول إن مياه البحيرة عالية الملوحة ولا تصلح للاستعمال البشري والحيواني. وفي حال صحت حكاية نسبة الملوحة العالية فهذا يعني أن وزير الموارد المائية العراقية لا يعرف حتى الفرق بين المياه العذبة والمالحة وهذه كارثة أخرى وأقرب الى الكوميديا السوداء.
ــ وضع خطة عاجلة لبدء عملية استكمال بناء سد بخمة، المعطل من قبل قيادة «الحزب الديموقراطي الكردستاني» ووضع ميزانية مالية طارئة له.
ــ حسم ملف مشروع منخفض الثرثار وتقرير ما إذا كان قابلاً للتحلية أو لا والبحث عن بديل له.
* كاتب عراقي