لم يكن ألكسيس دو توكفيل يتخيّل أنّ أميركا «البيوريتانيّة»، التي حللها ببراعة في كتابه الشهير «الديموقراطيّة في أميركا»، ستنتخب يوماً رئيساً مثل دونالد ترامب يحبّ المظاهر والملذّات الشهوانيّة المدانة من قبل الأخلاق المسيحيّة التي يتماهى معها جزء كبير من قاعدته الانتخابيّة. في 25 آذار/ مارس، شاهد أكثر من 20 مليون متفرّج، بذهول، حلقة برنامج «60 دقيقة» على قناة «سي بي اس» التي تحدثت فيها ممثّلة أفلام إباحيّة عن حفلات السمر الجسديّ مع من سيصير الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة.تناولت الممثّلة بتفصيل دقيق عيوبه الجسديّة، وكيف صفعته على ردفه بواسطة مجلّة يحوي غلافها صورته هو وعائلته! ورغم المئة والثلاثين ألف دولار التي تلقتها لتبقي على صمتها، كشفت ستورمي دانيالز مغامراتها في ليلة ساخنة مع الرئيس المستقبلي، بينما كانت زوجته بصدد ولادة ابنهما الوحيد. وقد قال جايمس كومي، رئيس مكتب التحقيقات الفيدراليّ حتى أيار/ ماي 2017، إنّ ترامب «يعتبر النساء قطعة لحم»، مقتفياً في ذلك آثار زعماء المافيا النيويوركيّة (مقابلة مع «سي ان ان» بتاريخ 18 نيسان/ أفريل 2018). نحن بعيدون هنا عن أميركا الغرب الأوسط العميقة التي تعتبر الملذات الجسديّة خطيئة يعاقب عليها الربّ. مع ذلك، تلك هي أميركا التي اجتذبها المرشّح ترامب الذي وعد بـ«جعل أميركا عظيمة مرّة أخرى»، أي العودة إلى سنوات «الكلو كلوكس كلان» الكئيبة حين كان السود الأميركيّون يتوارون للذهاب إلى العمل كخدم في منازل البيض.
يوماً بعد يوم، ينشر الصحافيّون والكتّاب معلومات جديدة حول الرئيس الذي يعشق البذخ ويحتقر الفقراء والضعفاء. ترامب الذي جنى ثروة في قطاع العقارات بنيويورك، التي عُرف فيها بأنّه محتال، هو نقيض الزعيم الصناعيّ للرأسماليّة الأميركيّة في صناعة الحديد، الكيميائيات أو الآليات خلال النصف الأوّل من القرن العشرين. آل كارنيغي (صناعة الصلب)، روكفلر (البترول)، فاندربلت (السكك الحديد)، فورد (السيارات) إلخ، كانوا أناساً تجتذبهم مراكمة الرساميل أكثر من الملذات الدنيويّة التي يملكونها. ويصل الأمر ببعض الصحافيّين إلى القول إنّ ترامب رجل أعمال رديء لأنّه أفلس أكثر من مرّة بعد عمليّات مضاربة مدينيّة، هي بالكاد قانونيّة، وخلف الأبراج البرّاقة التي يملكها، تكمن إدارة تسعى إلى سدّ عجز بقيمة تسعة مليارات من الدولارات. من هنا تتولّد الشكوك حول رغبته في استخدام وظيفته الرئاسيّة لإنقاذ أعماله، من خلال توظيف بلطجيّة على غرار محاميه مايكل كوهين الذي يجمع المال من شركات ترغب في إقامة ارتباط مباشر مع البيت الأبيض.
وتظهر عدّة سير له، نُشرت في الأشهر الأخيرة، شخصاً سوقيّاً عديم الضمير، مستعد للدوس على جثّة والدته للحصول على ما يريد. غادر عشرات من معاونيه البيت الأبيض، سواء لأنّه طردهم لضعف طاعتهم له، أو استقالوا للحفاظ على ماء وجههم. كتاب مايكل وولف «النار والغضب: داخل بيت ترامب الأبيض» (نيويورك، كانون الثاني/ جانفي 2018)، الذي باع أكثر من مليون نسخة، يسرد طرائف حول الجو المقيت داخل البيت الأبيض، حيث لا يكنّ الموظفون احتراماً كبيراً للرئيس الذي يبدأ يوم عمله في الساعة الحادية عشرة! ريكس تيلرسون، وزير الخارجيّة السابق، وصف ترامب بأنّه أحمق، وقال عنه جون كيلي، الرئيس الحالي لموظفي البيت الأبيض، إنّه أبله، وفق ما نقل صحافيّون.
خلف الرأسماليّة الريعيّة، «بيوريتانيّة» تعبد إلهين: ربّ الإنجيل والدولار


منذ انتخابه، تصدّر ترامب بشكل يوميّ عناوين الإعلام الذي يعلّق على أفعال وحركات وتغريدات رئيس كان 35 طبيب أمراض عقليّة قد قدّروا في رسالة نشرتها جريدة «نيويورك تايمز» بتاريخ 13 شباط/ فيفري 2017، أنّه غير مؤهل للقيام بوظائفه بسبب مشاكل مرتبطة بصحّته العقليّة، ورأى الأطباء أنّ نرجسيته الواضحة تمنعه من تقدير المصلحة العامة وترؤّس الأميركيّين. ووفقاً لزاوية فحص الحقائق في جريدة «واشنطن بوست» في بداية أيار/ ماي 2018، كذب الرئيس 3001 مرّة في 466 يوماً، أي بمعدّل 6.5 كذبات في اليوم. رغم ذلك، فإنّه لا يزال يحظى بشعبيّة لدى قاعدته، تزن بين 30 و40 بالمئة من الناخبين، ويواصل حتى اليوم تنظيم تجمّعات جماهيريّة ضدّ المهاجرين، واعداً بتشييد جدار حدوديّ مع المكسيك يتعذّر اجتيازه لحماية أمّته الفاضلة، البيضاء، البروتستانتيّة، الأنكلوسكسونيّة، التي يهددها مهاجرو بلدان الجنوب.
يحفّز ترامب قاعدته من خلال هذه الهجمات البغيضة التي تنال إعجاب المسيحيّين الإنجيليّين الذين يغلقون أعينهم عن تعدّد الزوجات، الاعتداءات الجنسيّة وانتهاكات أخرى للأخلاق المسيحيّة والأخلاق بصفة عامّة. بعض هؤلاء الإنجيليّين يعلنون علناً مساندتهم ترامب الذي يعتبرونه بالتأكيد آثماً، لكنهم يتكئون على أمثلة من الإنجيل، إذ اختار الربّ في بعض الأحيان شخصاً آثماً لنشر الخير. ألم يعيّن في المحكمة العليا قضاة محافظين يستلهمون أخلاق المسيح؟ أليس معارضاً لتقنين الإجهاض؟ تحمل المؤسسة الجمهوريّة هذه النظرة نفسها، في السّر يُقال إنّ الجمهوريّين لا يقدّرون ترامب، لكنه ما دام يُخفض الضرائب على أرباح الأثرياء، ويستهدف المساعدات الاجتماعيّة، ويُلغي التغطية الصحيّة (أوباما كير)، ويعارض الهجرة، ويحمي اليمين الإسرائيليّ، ولا يعارض الأسلحة، ولا يعتقد في التغيّر المناخيّ، فإنّهم يدعمونه رغم هجماته اليوميّة على الصحافة ووزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدراليّ، وهي ثلاث مؤسسات يلومها ترامب لعدم ولائها لشخصه. يريد ترامب أن يكون على شاكلة الملك أوبو (في مسرحية ألفريد جاري) على حافة نهر بوتوماك.
ما يكشفه هذا الوجه غير اللامع لأميركا الذي صار روتينيّاً هو أنّ «البيوريتانيّة الأميركيّة» ضحّت بالأخلاق البروتستانتيّة لمصلحة رأسماليّة ريعيّة سطت على المؤسسات. تعبد هذه «البيوريتانيّة» إلهين: ربّ الإنجيل والدولار. في زمن توكفيل، كانت مراكمة الدولار وإنفاقه تتم تحت أنظار الراعي؛ اليوم، صار الراعي في خدمة الدولار. لا يزال يوجد غلاف من الورع الدينيّ، لكنّه متخلّف عن الواقع إلى درجة أنّه يخدم فقط لإضفاء شعور من الرضا على أميركا موسومة بعنصريّة متفشية وانعدام مساواة اجتماعيّة عميقة. يعود ذلك إلى ترافق التزمّت البيوريتانيّ مع نظام جماعات الضغط التي تموّل الحملات الانتخابيّة لمرشحي مجلس الشيوخ الذين يصوّتون على قوانين ترعاها شركات تسطو على المستهلكين بشكل قانونيّ. في المدة الأخيرة، قام بول رايان، وهو رئيس مجلس النواب الأميركيّ، بطرد قسّيس المجلس لأنّه أشار، في صلاة الصباح، إلى قانون خفض الضرائب، حيث قال بصوت منخفض: «لقد منحتم الأغنياء، فكّروا في الفقراء» («نيويورك تايمز» بتاريخ 8 أيار/ ماي 2018).
الرأسماليّة الريعيّة، وبول رايان أحد ممثّليها، أقلّ كرماً من الرأسماليّة الصناعيّة، فالأخيرة تخلق ثروات عبر استغلال العمّال التي تعطيهم أجراً لإعادة إنتاج قوّة عملهم؛ أما الأولى فتحتكر ثروات وتعطي منها فُتاتاً للفقراء ليبقوا على قيد الحياة. عدوّ هذه الرأسماليّة الضارية هي معاشات الفقراء والمساعدات الاجتماعيّة التي تعتبرها عالية جداً، لذلك دفعت لتفكيك صناعات ولايات «حزام الصدأ» التي تشمل ميشيغان، وسكنسن، إنديانا، إيلينوي، أوهايو وبنسلفانيا، ونقلها إلى الصين والمكسيك وإندونيسيا إلخ، حيث المعاشات أدنى. حلم هذه الرأسماليّة هو تصدير الطبقة العاملة لتصير أميركا نادياً للأغنياء لا تفسد الحياة اليوميّة فيه بشكاوى المُعدمين.
مالت ولايات «حزام الصدأ» التي تصوّت عادةً للحزب الديموقراطيّ، نحو الحزب الجمهوريّ لأنّ المرشّح ترامب وعدهم بإعادة المصانع التي أغلقت. لكن تلك ليست أكثر من وعود انتخابيّة لن تُنفّذ، لأنّ تفكيك الصناعات صار أمراً محتوماً مع تطوّر الرأسماليّة الأميركيّة التي تنتقل إلى الأماكن التي تكون فيها المعاشات متدنّية. وتشير أرقام التجارة الخارجيّة إلى أنّ الولايات المتحدة تُصدّر أكثر فأكثر مواد زراعيّة ينتجها فلاحو الغرب الأوسط نحو الصين وتستورد منها مواد مُصنّعة. يا له من انتقام لبلد متخلّف سابقاً، قلب بُنى التبادل التجاريّ التي ندّد بها اعلام الاقتصاديّين العالم ـــ ثالثيين في الخمسينيات والستينيات! تدفع الولايات المتحدة مقابل أجهزة التبريد والحواسيب المُصنّعة في الصين ذرة وسوجا، ذلك ما يفسّر أنّ العجز التجاريّ لمصلحة الصين يبلغ 375 مليار دولار. سوف يلجأ الاقتصاديّون الأميركيّون إلى نظريّة أريغيري إيمانويل حول التبادل غير المتكافئ التي أدانت انخفاض معدلات التبادل بين المنتجات الزراعيّة والمُصنّعة. وعد ترامب بتدارك هذه الوضعيّة، متجاهلاً أنّ انخفاض مساهمة الولايات المتحدة في الإنتاج الصناعيّ العالميّ أمر هيكليّ ولا مفرّ منه.
يجب الانتباه إلى تطوّر بنية الثروة الأميركيّة التي انخفضت حصّة الصناعة فيها بشدّة بالمقارنة مع مداخيل وول ستريت الريعيّة. فبعدما صارت رساميل المضاربة مهيمنة عليه، تفسّخت الرأسماليّة الأميركيّة، وتحوّلت المضاربة العقاريّة إلى مصدر مهمّ لمراكمة الرساميل. ومن بين عشرين شخصيّة الأكثر ثراءً، لا يوجد صناعيّ واحد: بيل غيتس (ميكروسوفت)، جيف بيزوس (أمازون)، مارك زوكربرغ (فايسبوك)، لاري إليسون (قواعد البيانات والتجارة الإلكترونيّة)، شارلز كوش (السمسرة)، إلخ.
في المقابل، لم تعد مواقع الاستثمارات وطبيعتها محددة من طرف رؤساء الشركات الصناعيّة؛ بل صارت محددة من البنوك التي شكّلت صناديق سياديّة ضخمة إلى درجة صارت تمثّل خطراً على الاستقرار الماليّ لدول عدة. تشبه الصناديق السياديّة، المرتبطة ببورصة نيويورك، العقاب الذي يبحث عن فرص في نظام «جغرافي ـــ ماليّ» عالميّ يخضع لمنطق الافتراس. ضمن هذا التبدّل، جعلت الرأسماليّة الأميركيّة من وول ستريت مركزاً عصبيّاً يجري التفاوض فيه حول أسعار سوق الأوراق الماليّة الآتية من جميع القارات. يرمز وول ستريت للعبة الرساميل هذه التي تصفها سوزان سترانج باقتدار في كتابها «رأسماليّة الكازينو» (مطبوعات جامعة مانشستر، 1998). يعتمد الاقتصاد العالميّ على هذا المكان الاستراتيجيّ بالنسبة إلى الرأسماليّة الافتراضيّة وغير المقيّدة بمجال جغرافيّ التي صارت ممكنة بفضل تكنولوجيا المعلومات والاتصال الجديدة، وبفضل إلزاميّة سعر الدولار.
عام 1970، فرض الرئيس ريتشارد نيكسون إلزاميّة سعر الدولار من خلال تعليقه، على نحو أحاديّ، قابلية تحويله إلى ذهب، وذلك لتمويل حرب فيتنام من قبل بقيّة العالم. فرضت أميركا، في انتهاك لاتفاقات بريتون وودز الموقعة عام 1944، أن يكون الدولار العملة العالميّة من دون قابلية تحويله إلى ذهب، وهو ما أعطاها سلطة سياديّة عالميّة جسيمة. ولا تشغل أميركا بالها بعجز الميزانيّة الفيدراليّة (الذي يقدر بحوالى 700 مليار دولار)، ولا بعجز التجارة الخارجيّة المقدر بحوالي 502 مليار دولار في شباط/ فيفري 2018. ويُموّل جزء من هذا العجز المزدوج الذي يقارب 1300 مليار دولار من قبل دافعي الضرائب الذين لم يولدوا بعد، فيما يُموّل جزء آخر من قبل بقيّة العالم في غياب مؤسسات دوليّة مبنيّة على المصالح المشتركة التي يحميها القانون.

انتخاب ترامب وتعيّين صقور يكشفان عن إرادة إمبراطوريّة في تحصيل ولاء


لم يُقوّض هذا العجز المزدوج النظام، لأنّ الكونغرس له حقّ التصويت على قوانين تسمح للخزينة بطبع أوراق خضراء تستوعبها حاجيات بقيّة العالم للسيولة. من روسيا إلى الصين مروراً بألمانيا، وحتى الجزائر (التي تملك بعض عشرات من ملايين الدولارات في سندات الخزينة)، لا أحد له مصلحة في إفلاس أميركا. إنّها أكبر من أن تفشل! أليست كذلك؟ ببركة الله سيكون كلّ شيء على ما يرام. ألا تحمل الورقة الخضراء عبارة «نثق في الله»؟ (توكلنا على الله). تتغلب هذه العبارة على الثنائيّة الإلهيّة لأميركا، لكن لا نعلم إن كان الدولار هو من يحمي الربّ أو العكس.
لهذه البنية السياسيّة ـــ الماليّة بُعدٌ مسيحانيّ أيضاً يشير إلى أنّ الربّ اختار أميركا، «هذه الأمّة الفاضلة»، لحماية التجارة على مستوى عالميّ. ترتبط جميع دول العالم بهذه البنية، وهي فاعل نشط داخلها وحليفة موضوعيّة للهيمنة الأميركيّة. شكّلت الإمبراطوريّة الهامش على مقاسها، مستخدمة أحياناً القوّة الناعمة مثل العنف الرمزيّ الذي تمارسه هوليوود وفايسبوك وغوغل والدبلوماسيّة، والقوّة الصّلبة في أحيان أخرى لسحق أيّ رغبة في تحدّي النظام الإمبراطوريّ. تحقيقاً لتلك الغاية، تمتلك الإمبراطوريّة جيشاً تبلغ موازنته حوالى 800 مليار دولار، مع قواعد عسكريّة حتى في أقاصي العالم، وقد أعلن ترامب أنّه سيطالب الدول التي توجد فيها هذه القواعد بالإسهام في تمويل حضورها، «إذا أردتم أن نحميكم، يجب الدفع»، هذا ما قاله لدول الهامش الثريّة المستعدة للإنفاق في سبيل حمايتها من المخاطر الداخليّة والخارجيّة.
مع ذلك، يستوجب نشوب النزاعات ضمن النظام «الوستفاليّ» تعدديّة قطبيّة مدعومة بقانون دوليّ يحترم سيادة الدول وتطلعات الشعوب إلى السلام. يبحث ترامب عن الاستفادة من هذه النزاعات بإدارة ظهره للتعدديّة القطبيّة التي أوصى بها رئيس أميركيّ أسبق هو وودرو ويلسن. في سعيه إلى التفرّد، يحتقر ترامب المؤسسات الدوليّة مثل الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالميّة، وما يطلق عليه خبراء العلاقات الدوليّة «الأنظمة المتعددة الأطراف». ولا غرابة في قراره نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس في استخفاف بالقانون الدوليّ، وسحب بلده من اتفاق باريس حول المناخ، واتفاق فيينا حول النوويّ الإيرانيّ. ولرفع النزاع العالميّ درجة أخرى، قام بتسمية صقور في مناصب استراتيجيّة يفضّلون «القوّة الصلبة» على «القوّة الناعمة». وتمثّل إيران هدف مستشار الأمن القوميّ، جون بولتون، الذي يتمنى غزو هذا البلد الذي يمثّل تهديداً لإسرائيل وللسعوديّة الطيّعة. لم يتعلم اليمين الأميركيّ بعد من النتائج الكارثيّة للحرب في العراق التي كلّفت 300 ألف قتيل من الجانب العراقيّ و3 آلاف من الجانب الأميركيّ، من دون احتساب عدم الاستقرار العميق الذي ولّدته في المنطقة.
انتخاب ترامب، وتعيّين صقور مثل جون بولتون في «مجلس الأمن القوميّ»، ومايك بومبيو في وزارة الخارجيّة، وجينا هاسبل على رأس «سي آي إيه»، وهي المتورطّة في قضايا تعذيب مساجين إسلاميّين، يكشفان عن إرادة إمبراطوريّة ترغب في تحصيل ولاء خانع أكثر من رغبتها في إنشاء تحالفات مبنيّة على المصالح المشتركة. الطريقة التي تعامل بها ألمانيا، التي تريد إبراز اختلافها، وطبيعة العلاقات مع السعوديّة، تشير بوضوح إلى أنّ ترامب يبحث عن تابعين وليس عن حلفاء. بالمثل، لم ترغب ألمانيا النازيّة خلال الثلاثينيّات في عقد تحالفات، وقامت وهي ثملة بقوّتها العسكريّة بإغراق أوروبا في «النار والغضب» اللذين أدّيا إلى موت أكثر من 40 مليون إنسان، وإن كانت المقارنة حتى هذه اللحظة مبالغاً فيها. ينسى الصقور الأميركيّون أنّه رغم ميزانيّته الضخمة وقوّته الناريّة الاستثنائيّة، خسر الجيش الأميركيّ جميع حروبه منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية: كوريا، فيتنام، العراق، وأخيراً أفغانستان الغارق فيها منذ 17 عاماً. لا يفهم الصقور الأميركيّون، الحاليّون والسابقون، أنّه لا يمكن الانتصار في الحرب إلاّ في حال كانت للدفاع عن قضيّة عادلة وشرعيّة.
كانت الولايات المتحدة أوّل ديموقراطيّة كبيرة، تأسّست نهاية القرن الثامن عشر على قيم إعلان الاستقلال والدستور اللذين يدعيان الارتباط بالحريّة ورفض الطغيان. منذ ذلك الحين، ضعفت الديموقراطيّة الأميركيّة، وأفرغت من جوهرها على أيدي جماعات الضغط التي جعلت السيادة الشعبيّة خاضعة للسلطة الماليّة. جماعات الضغط المؤسساتيّة في واشنطن هي من تقرّر طبيعة القوانين التي يصوّت عليها الكونغرس: جماعات الضغط العاملة في قطاع السلاح، صناعة الأدوية، التأمينات، البنوك، وأخرى مثل جماعة الضغط الإسرائيليّة التي تشنّ حرباً على الفلسطينيّين منذ عقود طويلة. يجب الأمل في استفاقة أميركا أخرى، أميركا بيرني ساندرز (نائب ولاية فيرمونت) المتهم بأنّه شيوعيّ لمطالبته باستفادة جميع الأميركيّين من تغطية صحيّة على غرار ما يوجد في أوروبا. لقد شقّت أفكاره طريقها في أوساط شبيبة تأمل في عالم مسالم ومجتمع متضامن.
يوجد أيضاً صوت آخر، هو صوت إليزابيث وارن (المنتخبة عن ولاية ماساشوستس) التي يطلق عليها ترامب لقب «بوكاهانتس» بسبب أصولها الهنديّة الأميركيّة المفترضة. وارن هي الدابة السوداء للشركات التي يحميها النواب الفاسدون الذين يسنّون قوانين تعرّض الطبقات الاجتماعيّة المحرومة لسطو البنوك وشركات التأمينات. إذا ما كانت أصوات مثل صوتي ساندرز ووارن مسموعة، فإنّه كان بالإمكان تجنّب وباء الأدوية الأفيونيّة، الذي يمسّ ملايين الأميركيّين، ويقتل 3 آلاف إنسان كلّ أسبوع حسب الأرقام الرسميّة. وللتذكير، هذه المواد هي أدويّة يُفترض أنّها مضادة للألم، ولها على المدى الطويل نفس آثار المخدرات القويّة، وتبيعها شركات صيدليّة تحميها قوانين سنّها الكونغرس.
الولايات المتحدة بلد كان في مقدّمة الاكتشافات العلميّة الكبرى خلال القرن العشرين، ويحوي جامعات مرموقة. ويجب عليه استعادة قيم الآباء المؤسسين، والعودة إليها، وقد كان من أولئك «الآباء» توماس جيفرسون الذي حوت مكتبته الخاصّة نسخة من القرآن إلى جانب نسخ من الأناجيل والتوراة، وهي توجد الآن في مكتبة الكونغرس. يجب الأمل في أن يُبعد الأميركيّون عن البيت الأبيض رجلاً يعتقد أنّ المكسيكيّين مُغتَصبون، وأنّ المسلمين إرهابيّون والدول الأفريقيّة حثالة، وهي كلمة نابية خرجت من فم رجل لا يستحق الاحترام الواجب لرئيس دولة. سوقيّة ترامب، وعنصريّته المعلنة، وافتراءاته المتكرّرة، واحتقاره للقيم الإنسانيّة، وازدراؤه للعدل وجشعه القبيح، تتناقض مع «البيوريتانيّة» الأميركيّة التي تحدّث عنها ألكسيس دو توكفيل. عيوب هذا الرجل الذي وصل إلى رئاسة بلد بهذا الكبر تدعو إلى التفكير في العبارة المنسوبة إلى أوسكار وايلد قبل قرن من الآن، وهي تقول: «أميركا هي البلد الوحيد في العالم الذي مرّ من البربريّة إلى الانحطاط من دون أن يعرف الحضارة».
* أستاذ في «معهد العلوم السياسية ــ ليون/ فرنسا»