برغم دخول القتال في محافظة الأنبار، وسيطرة المسلحين على مدن عدة فيها كلياً أو جزئياً، أسبوعه الثاني، إلا أنّ الغموض والاختلاط لا يزالان يسيطران على أهم مفاصل الحدث، وخصوصاً ما تعلق منها بهوية الأطراف المتقاتلة، ومقدار ثقلها العسكري والسياسي والجماهيري، وهوية حلفائها وداعميها، وماهية برامجها وشعاراتها السياسية الآنية أو البعيدة المدى، إضافة إلى ما سبق، فإن أسئلة مهمة وكبيرة لا تزال دون إجابات أو مقاربات تحليلية حقيقية من قبيل: لماذا تُركت المعارضة المسلحة وغير المسلحة في الأنبار تخوض المواجهة وحدها ضد بغداد وسكتت مدنٌ من نسيجها المجتمعي ذاته، كانت لا تقل عنها جذرية في المعارضة والشعارات كتكريت وسامراء والموصل؟ وكيف، ولماذا انقلب فَضُّ الاعتصام الذي (قامت به الشرطة المحلية في الرمادي، مركز المحافظة، بهدوء وسلمية وسلاسة بعد الاتفاق مع الوجهاء والشيوخ ورجال الدين) كما قال المحافظ أحمد الذيابي حرفيا، وهو من قائمة «متحدون» بزعامة رئيس البرلمان أسامة النجيفي لفضائية عراقية بالهاتف بعد ساعات من العملية؟ ولماذا اتهمت «متحدون» المالكي وحكومته بعكس ما قاله المحافظ المنتمي لها تماماً في اليوم التالي، ووضع نوابها استقالاتهم من البرلمان بتصرف الرئيس؟وأمنياً؛ هل كان يمكن توقع الأوزان والإمكانات العسكرية والسياسية التي ظهرت بها الجماعات العشائرية المسلحة والتنظيمات التكفيرية «كداعش البغدادي» و«قاعدة الظواهري» كما باتا يسميان، والسرعة الخاطفة التي سيطرت بهما هذه القوى على الفلوجة ومدن أخرى وصولاً إلى العرض العسكري الذي قام به داعش في اليوم الثاني لفض الاعتصام دون دعم خارجي وداخلي؟ وهل يمكن أن نتصور حلاً أمنياً بحتاً لهذه الأزمة دون المغامرة في الزج بالعراق كله في دوامة الاقتتال الأهلي؟ وكيف يمكن البحث عن حلٍّ سياسي غير أمني في حال انعدام وجود طرف مفاوض متماسك وذي قوة وصدقية سياسية وأمنية حقيقية على الأرض؛ وخصوصاً بعدما انقسمت وتشظَّت حتى القبائل ومجالس الصحوات إلى أجزاء متنافرة، إن لم تكن متقاتلة في ما بينها؟
ومع أننا لا نستبعد التوصل إلى حل أو شبه حلّ غير أمني خلال الساعات القادمة، فإننا نرجح ألا يكون حلاً نهائياً وقابلاً للاستمرار والثبات لسببين: الأول، هو أنه سيجري تحت ضغط تطويق المدينة الخارجة عن سلطة لدولة بعشرات الآلاف من جنود الجيش المدججين بالأسلحة الحديثة، وتحت ضغط الدعم الخارجي الهائل وغير المتوقع الذي حازته حكومة المالكي. والثاني، هو أنه سيأتي بعدما أدرك الطرف العشائري أن هناك قراراً عراقياً وعالمياً بالقضاء عسكرياً على داعش وتصفيته، وأن التنفيذ قد بدأ ويكاد يكتمل في سوريا المجاورة.
إضافة، طبعاً، إلى حزمة أسباب سياسية تتعلق ببقاء مسببات الاعتصام الذي جرى فضّه ببقاء نظام المحاصصة الطائفية الحاكم. فالطرف المعتصم لن يتراجع عن المطالبة بتكبير حصته من كعكة السلطة وإنهاء ما يصفه بمظاهر الإقصاء والتهميش والمظالم الأخرى ضد العرب السنة، التي لا يمكن نكران أغلبها.
إن هذه الأسئلة ستبقى دون إجابات مقنعة إذا ما استمر هذا الغموض يلف تفاصيل الوضع العام والأحداث السياسية والأمنية الجارية، أو التي ستجري. وهو غموض لا يعيق رؤية مَن يرصدون الأحداث من خارج المناطق الساخنة في المحافظة، بل حتى من يفعلون ذلك من داخلها. وإذا كان من السهل تشخيص الطرف الأول والرئيس في الاقتتال، وهو الطرف الحكومي وقواته الأمنية بضمنها جيشه، الذي بدأت قناتا «الجزيرة» و«العربية» تسميانه «جيش المالكي»، فإن من الصعب تعريف الأطراف الأخرى وتحديد مواقعها في القتال، ومع ذلك، وبالرغم منه، سنحاول استقراء ملامح هذه الخريطة بمساعدة تقارير وتحليلات مستقلة خرجت من المحافظة وحولها، وقد تميزت من بينها تقارير شاهد عيان، ينشرها صحافي مستقل يعمل داخل مدن المحافظة على صفحته على مواقع التواصل، هو الصديق عمر الشاهر، وأصبحت هذه التقارير مصدراً مهماً وثميناً لبعض وسائل الإعلام العراقية لدقتها وموضوعيتها وحيادها الملحوظ.
في المحافظة ثمة وجود عسكري أكيد لتنظيم داعش، الذي بات يسمى هنا «داعش البغدادي» نسبة إلى أمير الفرع العراقي من القاعدة أبو بكر البغدادي، الذي وحّد فرعه مع الفرع السوري، وأطلق عليه اسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، مقابل «قاعدة الظواهري» نسبة إلى الرجل الأول في تنظيم القاعدة العالمي التقليدي أيمن الظواهري. وسكان الأنبار عموماً لا ينظرون بعين الإعجاب إلى «داعش» ورجاله، بل هناك الكثيرون ممن يتهمونه بالعمالة لإيران على سبيل التشنيع والتبرؤ كما يقال، وبرغم أن «قاعدة الظواهري» تضم مسلحين من الجيل الأول والثاني من القاعدة، الذين خاضوا حرباً شرسة وقاتلوا قتالاً نكائيا واسع النطاق ضد عشائر المحافظة، فإنهم أصبحوا أكثر مقبولية من غيرهم، لكن يبدو أنّ الثقل العسكري لداعش البغدادي أفضل من الطرف الآخر. وتقدر بعض المصادر المطلعة عدد مقاتلي التنظيمين حالياً بما لا يتجاوز الألف مقاتل، المدربين جيداً في المحافظة مع حضور مهم للمقاتلين الأجانب في داعش البغدادي، وثمة مصادر أخرى تعطي أرقاماً أكبر لعناصر الجماعتين، وتصل إلى بضعة آلاف مقاتل للتنظيمين في عموم العراق.
الطرف المسلح الآخر والمقاتل ضد الدولة هو المجلس العسكري لعشائر الأنبار، الذي أسسه أحد شيوخ عشيرة الدليم النافذة والحليف السابق للمالكي علي حاتم السليمان، الذي خاض حملة شرسة ضد الحكومة والمالكي شخصيا قبل وبعد فض الاعتصام، لكن ابن عم هذا الشيخ ويدعى ماجد، لا يزال حليفاً قوياً وموثوقاً به للمالكي، وقد دعا أنصاره صراحة إلى القتال ضد المسلحين التكفيريين في داعش والقاعدة. المجلس العسكري بقيادة علي السليمان له حضور عسكري لا بأس به، وهو يسيطر على وسط مدينة الفلوجة، ويشتبك مع القوات الحكومية في «قتال كر وفر»، وقد التحق به الشيخ والنائب السابق والهارب عبد الله الجنابي، المطلوب للقضاء العراقي بتهم تتعلق بالإرهاب قبل بضعة أعوام، كما نال هذا المجلس دعماً معنوياً صريحاً من المرجع السُني البارز الشيخ عبد الملك السعدي، الذي وجه نقداً شديداً إلى الحكومة وتصرفات رئيسها طوال فترة الاعتصام، حتى بلغ درجة اعتبار الجيش العراقي جيش احتلال في تصريح قوي عشية الأحداث الأخيرة.
إلى جانب هذه القوى، هناك جماعات «الصحوات»، وهي قوى متخاصمة ومتنافرة في ما بينها، مع انها جميعاً تعلن العداء للجماعات التكفيرية والدفاع عن العراق والنظام القائم. فهناك قوات «مجلس إنقاذ الأنبار» بقيادة الشيخ حميد الهايس، حليف المالكي القديم، الذي يتنازع السيطرة والزعامة مع شيوخ آخرين، من بينهم الشيخ وسام الحردان، قائد «قوات الصحوة» المنشق عن الصحوة القديمة بقياد أحمد أبو ريشة. الشيخ الأخير - أبو ريشة - عاد قبل بدء القتال الراهن بيوم أو يومين وتصالح مع المالكي، وأعلن استعداده للقتال ضد الجماعات المسلحة التكفيرية. وقيل إنه ضَمِنَ عفواً خاصاً لأخيه المطلوب للقضاء بتهم وفق المادة «4 إرهاب»، محمد خميس أبو ريشة، بعدما أصبح هذا الأخير أحد قادة الصحوة التي يتزعمها أخوه أحمد، إلا ان هذه المصالحة بين أبو ريشة والمالكي أغاظت الحليف الآخر وهو وسام الحردان، الذي أمر مقاتليه بمغادرة ميدان المعركة، كاشفاً ظهر القوات الحكومية، فخسرت عدة عجلات. وصرح قائلاً إنه يرفض القتال والتعاون مع أبو ريشة، وإن وجود هذا الأخير سيؤدي إلى تدمير حركة الصحوة كلها، ويبدو أن الجهود «والأموال» تبذل الآن لمصالحة الطرفين وجمعهما معاً على مائدة المعركة الواحدة. بالعودة إلى التساؤل عن سبب عدم حماسة جماهير المدن الأخرى ذات الأغلبية العربية السنية للمشاركة في الأحداث الأخيرة، وخصوصاً المسلحة منها، فإننا نعتقد أن هذا التطور يكشف عدة حقائق بالغة الأهمية، منها: أن جذور الاعتصام والتمرد ومظاهر الرفض في هذه المدن للحكم المركزي هي اجتماعية، سياسية، وسلمية وحدوية أكثر منها طائفية ومسلحة وانفصالية؛ ربما حاول البعض - وخصوصاً من رجال الدين السنة، الذين وجدوا انفسهم يحتكرون الصراخ والتحشيد من على منصات ساحات الاعتصامات مع انسحاب أو تراجع ممثلي النخب المدنية والعلمانية القومية - الدفع بالتمرد ليكون طائفياً، لكنه في أعماقه بقي سلمياً واجتماعياً ووحدوياً، ولو اتجهت الحكومة إلى التعامل معه على هذا الأساس، لما وصل الوضع إلى ما وصل إليه، لكنها - أي الحكومة - لا تستطيع أن «تخرج من جلدها» وتفعل ذلك وتقدم حلاً اجتماعيا وديموقراطيا، وهي نفسها ليست من هذا النسيج ولا في هذا الوارد، كما يمكن تفسير الشعور بالرفض والتمرد والشعارات الطائفية التي برزت في اعتصامات الحراك العربي السني كرد فعل على ممارسات طائفية، وعلى اتساع تأثير قوى التشييع السياسي على الأرض، وفي مؤسسات الدولة أولاً، وبضمور وضعف تأثير النخب العلمانية الوطنية العريقة، وذات الدور المؤسس لكيان الدولة العراقية داخل الوسط العربي السني، وصعود قوى الإسلام السياسي السلمي والمسلح.
أما البعض الذي يرى في أن جذر المشكلة إنما يكمن في شخص المالكي وطريقته في إدارة الحكومة، لا في طبيعة النظام القائم، فهو يجانب الصواب تماماً، ويسهم شاء أم أبى في تضليل الناس: فحتى لو تصورنا وجود رجل كإياد علاوي، الذي أصبح بين ليلة وضحاها من المدافعين عن الأنبار واعتصاماتهم، وطالب الوزراء والنواب العرب السنة بالاستقالة والانسحاب، فلن يتغير ذلك الوضع القائم كثيراً، بل ربما ازداد سوءاً، وخصوصاً أنّ ذاكرة الأنباريين تحتفظ جيداً بمشاهد قمع علاوي المسلح مرتين لانتفاضتيهم ضد الاحتلال، وإغراقهم بالدماء سنة 2004.
ما الخلاصات التي يمكن الخروج بها بعد هذا الاستعراض؟ لقد نجح المالكي تكتيكياً في أمور عدة، فقد أنهى الاعتصامات السلمية التي تحولت إلى كابوس مزعج له، وحشد خلفه تأييداً داخلياً وخارجياً لا يستهان به بعدما استدرج تكفيريي «داعش» وغيرها إلى الصراع. وثانياً، أنه أجبر خصومه السياسيين - في قائمة «متحدون» خصوصاً - على الانسحاب والتراجع بعد أداء مرتبك وهزيل، كما ألحق ضربات عسكرية عدة لا يمكن الحكم على حجمها ونتائجها الآن بالجماعات المسلحة التكفيرية، لكنه لم يحل أية مشكلة فاحتمال الصدام المسلح وعودة الاعتصامات الثابتة أو المتنقلة قائم، وحالة الغضب وانعدام الثقة به وبحكومته من قبل جمهور المناطق الغربية ستبقى وسيتفاقم، والنُذُر بالاقتتال مستقبلاً والانفصال الفعلي على الأرض ستبقى تحوم في الأجواء قبل انتخابات نيسان القادم أو بعدها... أما الحل الحقيقي البعيد المنال، فربما يختصره عنوان أغنية قديمة لزياد الرحباني يقول: غيّرلو النظام!
* كاتب عراقي