كيف تدرس عناصر تقرير السياسة الخارجيّة للدولة الإيرانيّة؟ ليس هناك اتفاق بين المختصّين الأكاديميّين. كان الأكاديمي الأميركي روح الله رمضاني (درّسَ لعقود في جامعة فرجينيا، وكان عميد الدراسات الإيرانيّة في أميركا) يشرح لي أن تاريخ إيران أهم لدراسة سياساتها الخارجيّة من حاضرها في رصد مستقبلها. وريتشارد كوتام، في كتابه المرجع عن «القوميّة الإيرانيّة»، يرى عاملاً فريداً في أن الشاه كان مستبدّاً إلى درجة أن عامل «العظمة الملكيّة» (1) كان مؤثّراً رئيساً في سياساته الخارجيّة على رغم أنه كان أداة مطيعة (ومن «دون كرامة») في يد الدولة الأميركيّة. أما العامل القومي، فهو يراه مؤثّراً في حركات المعارضة أكثر منه في الشاه يومها. توماس جونو وسام رازافي يريان أن عزلة الجمهوريّة الاسلاميّة الإيرانيّة هي العامل الأكثر تأثيراً في سياساتها الخارجيّة في السنوات الأخيرة على رغم كثرة الحديث عن صعود وتدخّل إيران كقوّة إقليميّة (2). لكن لا يمكن تقييم كل مراحل الجمهوريّة الاسلاميّة من دون اعتبار للحقبات المختلفة فيها (في عصر الجمهوريّة الاسلاميّة). لقد كانت الحقبة الخمينيّة ذات تأثير أيديولوجي قوي، لكن الواقعيّة في السياسة الخارجيّة أثّرت هي أيضاً في السياسة الخارجيّة، وكانت هي وراء تجرّع «السم» - كما أسماه الخميني - بالنسبة لقرار وقف الحرب مع العراق والاتصالات السريّة مع أميركا. لكن أوليفير روا يرى في حقبة التسعينات (بتأثير من رفسنجاني) «تأميم العنصر الإسلامي» ونزوع السياسة الخارجيّة نحو الواقعيّة و«المصلحة الوطنيّة» (3). وقد طبع كل رئيس إيراني مرحلتُه ببصمته وسياساته، ولم تكن دائماً متصلة. لقد أدّى صعود ما يُسمّيه بعض الخبراء بـ«المحافظين الجدد الإيرانيّين» (في إشارة إلى وصول أحمدي نجاد إلى سدّة الرئاسة في ٢٠٠٥) الذين قطعوا مع حقبة الإصلاحات، وكرّسوا العداء ضد أميركا والعدوّ الإسرائيلي وحاولوا ربط إيران بقوى عالميّة خارج المعسكر الغربي. والصراع بين التيّارات هي عامل مؤثّر أيضاً في تقرير السياسات التي يوازن المُرشد بينها. ولا يمكن نسب كل السياسة الخارجيّة لإيران للمرشد لأن في ذلك اختزالاً لمراكز قوى وصراعات أجنحة تعتمر في دائرة القرار على مدى سنوات طويلة. يستطيع المُرشد أن يحسم الخلافات - لو أراد - لكنه بات أكثر تساهلاً مع توجّهات روحاني في هذه الإدارة الجديدة ربّما دليل ضعف في شرعيّة النظام السياسيّة. وعناصر الأيديولوجيا وعناصر الواقعيّة البراغماتيّة يمكن أن تؤثّر في الحقبة عينها، بحيث يصعد تأثير الأولى أو الثانية بحسب المصلحة. أي أن عامل المصلحة يمكن أن يعلو على عامل الأيديولوجيا لكن ضمن حدود من الثوابت.يحاول دعاة إيران في الغرب، أو دعاة التصالح بين إيران والغرب، عزو كل السياسة الخارجيّة لإيران إلى عوامل الواقعيّة السياسيّة والبراغماتيّة. أي أن هؤلاء يقلّلون من عوامل أيديولوجيا العقيدة الإسلاميّة للنظام. ولم يعبّر عن هذا التوجّه أكثر من كتابيْ تريتا بارسي، خصوصاً في كتابه الأوّل، «التحالف الغادر: التحالف السرّي بين إيران وإسرائيل وأميركا»، والذي يحاول فيه أن يثبت للغرب- وللجمهور الأميركي بصورة خاصّة- أن إيران هي دولة براغماتيّة نزعت عن نفسها ثوب أيديولوجيّة الثورة الإسلاميّة. ولقد تلقّف الإعلام الخليجي، وجهاز الدعاية المرتبط به، هذا الكتاب وسارع إلى ترجمته ونشره في حلقات في عدد من الصحف العربيّة بغية تقويض سمعة إيران في العالم العربي.
عرض الاعتراضات الأميركيّة على السياسات والبرامج الإيرانيّة يفضح مقاصد واشنطن


لكن الكتاب يمزج بين الأكاديمي وبين العمل السياسي اللوبي. فبارسي يرأس «المجلس الإيراني - الأميركي الوطني»، وهو مجلس لوبي محلّي في واشنطن يسعى إلى التقريب بين دولة إيران والحكومة الأميركيّة. وقد لعب دوراً خلف الستار في تقديم المشورة لإدارة أوباما حول الاتفاق النووي. والكتاب الذي أثّر في الكثير في العالم العربي- أو من الذين ينقادون وراء دعاية النظام السعودي- هو في جانب منه عمل سياسي مُوجَّه إلى الغرب بالدرجة الأولى، خصوصاً الجمهور الأميركي (نخبة السياسة الخارجيّة فيه تحديداً). والكتاب يريد أن يثبت أن الأيديولوجيا ليست مؤثّرة في تقرير السياسة الخارجيّة لإيران بقدر ما تؤثّر عوامل الواقعيّة والبراغماتيّة غير المؤدلجة. وهو يقدَّم أمثلة عدة عن سلوك إيران «السوي» (من المنظور الأميركي) نحو أميركا وحتى نحو إسرائيل. لكن بارسي يقع في المحظور السياسي: يُخضع موضع دراسته لغرض سياسي. هذا لا ينفي أن هناك أمثلة عدة عن تصرّف مهادِن من جانب إيران نحو أميركا (هو يعطي مثلاً السلوك الإيراني نحو الاحتلال الأميركي لأفغانستان والذي لم يتغيّر حتى بعد خطبة «محور الشر» لجورج دبليو بوش(4)). لكن لا يمكن نفي بعض الثوابت في السياسة الخارجيّة لإيران. إن سياسة إيران بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينيّة وفي وضعها في مقدّمة خطابها السياسي عن السياسة الخارجيّة بقيت ثابتة، كما بقي دعم إيران لحركات المقاومة المسلّحة (قد يقول قائل أو قائلة إن الكلام سهل في دعم القضيّة. الجواب على ذلك إنه: لا، الكلام ليس سهلاً أبداً، بدليل انخفاض الخطاب السياسي للأنظمة العربيّة عن فلسطين وعن القدس ونقل السفارة خشية إغضاب أميركا. لو أن الكلام عن فلسطين سهل لما تغيّر خطاب الأنظمة العربيّة عن فلسطين عبر العقود وبات الحديث عنها خافتاً جداً، أو صامتاً في معظم الأحيان) المبالغة في دور الأيديولوجيا أو في دور الواقعيّة يضرّ بالقدرة على رؤية واقع السياسة واستشراف مستقبلها.
هذا لا يعني أن الأيديولوجيا هي المُقرّر الأساس لسياسة إيران الخارجيّة، كما يقول دعاة إيران في العالم العربي. لكن حقيقة صنع سياسة إيران الخارجيّة أنها تمزج بين الأيديولوجيا (التي كانت سائدة في صنع الخطاب الإيراني وإن انخفض منسوبها في عهد روحاني - ظريف) وبين الواقعيّة الشديدة- أي النظر من مصلحة النظام (والمصلحة الوطنيّة ومصلحة النظام قد تتطابق في أحيان، كما كان يقول حنا بطاطو عن حرب ١٩٧٣ من قبل النظاميْن السوري والمصري). وهناك حقبات مختلفة في التاريخ المعاصر للجمهوريّة الإيرانيّة، فخطاب وسلوك أحمدي نجاد يختلف كثيراً عن روحاني الذي يجهد كي يكسب ثقة الغرب وودّه.
هناك عدد من الملفّات التي تقع في صلب الأزمة الحاليّة بين إيران وأميركا. يمكن تلخيص اعتراضات أميركا بجملة من الملفّات التي أفصح عنها ترامب في إعلانه عن خرق الاتفاقيّة النوويّة (خلافاً لمعظم الصحافة العالميّة، لم «تخرج» أميركا من الاتفاقيّة. أميركا قرّرت أن تخرق الاتفاقيّة وأن تتجاهل توقيعها عليها. إن الاتفاقيّة تلزم إيران كما تلزم الدول الستّ الموقّعة. وقد تبنّى مجلس الأمن الدولي الاتفاقيّة، مما يدخلها في حيّز القانون الدولي. لكن التعبير عن مخالفة أميركا للقانون الدولي بطريقة مُلطّفة يقلَّل من مخالفات قانونيّة لامبراطوريّة مُستبدّة). ١) تعترض أميركا على دعم إيران لحركات مقاومة في الشرق الأوسط (وأميركا منذ عام ١٩٦٧ تعترض على أي دعم عربي لحركات مقاومة في المنطقة العربيّة، وكان دعم النظام السوري والعراقي والليبي لحركات مقاومة موضع اعتراض شديد من قبل أميركا- بحجّة الاعتراض على الإرهاب. لكن المفارقة أن الحكومة الأميركيّة التي أدرجت حركة «فتح» في تصنيف الجماعات الإرهابيّة منذ السبعينات باتت تمدّها بالمال والسلاح بعد أن تخلّت عن المقاومة. أي أن المقاومة، ولا شيء آخر غيرها، هي موضع الاعتراض هنا. ٢) تعترض أميركا على الدور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط لأنها لا تريد أي معارضة لمخططات حلفائها فيها. ٣) تعترض أميركا على تطوير إيران للصواريخ الباليستيّة. ٤) تعترض الحكومة الأميركيّة على البرنامج النووي الإيراني، ولو كان للأغراض السلميّة.
إن عرض جملة الاعتراضات الأميركيّة على السياسات والبرامج الإيرانيّة يفضح مقاصد أميركا: هي تعترض على كل ما يسيء إلى دولة العدوّ الإسرائيلي. لا يمكن أن تكون أميركا تخشى من السلاح النووي الإيراني- هذا لو وصلت إيران إلى عتبة السلاح النووي- أو من الصواريخ الباليستيّة. هي تخشى على ما يمكن أن يهدّد السيادة العسكريّة الإسرائيليّة المطلقة في الشرق الأوسط- وهذه السيادة المطلقة باتت سياسة أميركيّة رسميّة منذ الثمانينات. هذه السياسة تحدّد ما يمكن للدول العربيّة (حتى تلك المُطبّعة مع العدوّ) أن تتلقّاه من أميركا، وما لا يمكن لها أن تتلقّاه. اللوبي الإسرائيلي هو الجهة التي تحدّد ما يُسمح لأنظمة الخليج باقتنائه. ومقتنيات الأسلحة من الأنظمة الخليجيّة هي خوّة تدفعها تلك الدول في مقابل الحماية الأميركيّة: فضحهم ترامب في حقيقة العلاقة بين الطرفيْن. والاتفاق النووي هدفَ إلى طمأنة إسرائيل بالنسبة إلى البرنامج النووي، لكنه لم يتضمّن مراقبة وضبط لبرامج الصواريخ الباليستيّة أو دعم حركات المقاومة أو السلوك الإيراني في المنطقة العربيّة. لكن في دولة العدوّ، كانت الآراء غير مجمعة حول صوابيّة الاتفاقيّة: الهيئة النافذة في المؤسّسات الأمنيّة والاستخباراتيّة والعسكريّة كانت موافقة على الاتفاقيّة بشدّة، فيما عارضها نتانياهو وفريقه. وترامب أراد أن يعبّر عن مزايدة على أوباما في حرصه على أمن إسرائيل (والمزايدة على أوباما ومنافسته تحتل موقعاً كبيراً في تفكير ترامب وفي سياساته).
تواجه الدولة الإيرانيّة خيارات صعبة في عهد ترامب. والثنائي روحاني - ظريف يحاولان التخفيف من وطأة قرار ترامب. روحاني يتعامل مع القرار الأميركي على أنه مناسبة للتقرّب مع أوروبا أكثر، أو حتى لجرّ أوروبا بعيداً من أميركا. وفي هذه النظرة جهل بطبيعة العلاقات الأوروبيّة - الأميركيّة. والثنائي روحاني - ظريف عوّلا كثيراً على حسن النيّة عند الغرب، وافترضا أن التنازلات الإيرانيّة الجمّة ستكسب تنازلات غربيّة مقابلة. لكن المفاوضات الإيرانيّة - الغربيّة لم تفضِ إلى تنازلات متبادلة، كما تقتضي أصول «التبادليّة» في الاتفاقات الدوليّة. الاتفاقيّة النوويّة هدفت إلى إزالة العقوبات الأميركيّة (والأخرى) لكن من دون نيل ما يقابل ما قدّمته إيران. أي أن تنازلات إيران كانت أكبر بكثير ممّا حصلت عليه. لكن على رغم ذلك، الفريق التفاوضي الإيراني تفوّقَ بأشواط على الفرقاء العرب التفاوضيّين (من الفلسطيني إلى العراقي في عهد صدّام إلى الليبي في عهد القذّافي إلى اللبناني في عهد أمين الجميّل، إلى السوري في عهد بشّار الأسد بالنسبة إلى السلاح الكيماوي). كما أن السلوك التفاوضي للفريق الإيراني انتابته لحظات أنفة تكون غائبة تماماً في المفاوضات العربيّة مع العدوّ أو مع الغرب (صرخ ظريف بوجه كيري ذات يوم في المفاوضات الطويلة وذكّره بعزّة وكبرياء الشعب الإيراني- مستحيل أن تصدر هذه عن مفاوضي سلطة رام الله).

روحاني يتعامل مع القرار الأميركي على أنه مناسبة للتقرّب من أوروبا أكثر


لكن إيران كانت حكيمة في رفضها تدمير منشآتها النوويّة (كما فعلت ليبيا والعراق من قبل): هي حافظت على المنشآت النوويّة، كما أنها لم تسمح بتدمير أجهزة الطرد المركزيّة. هي سمحت بتخزينها وبنقل معظم اليورانيوم المُخصَّب خارج إيران. وحتى مفاعل الماء الخفيف في آراك، رفضت أن تدمّره بل وعدت بتحويله إلى التصنيع السلمي بطريقة تمنعه من صنع البلوتونيوم. وهي حدّدت أجل محدَّد للاتفاقيّة مما أغضب اللوبي الصهيوني هنا. لكن إيران تنازلت كثيراً في أمور أخرى، أهمّها، أن الاتفاق تضمّن معاقبة فوريّة لأي إخلال من قبل إيران بالاتفاق فيما هو لم يتضمّن أي عقاب للطرف المؤهّل أكثر من غيره- في سوابق لا حصر لها- للإخلال ببنود الاتفاقيّة أو لإبطالها من جانبه. لو أن إيران أصرّت على بند يفرض عقوبات صارمة على أميركا في حال إخلالها بالاتفاقيّة (يمكن أن تكون على شكل غرامات ماليّة باهظة مثلاً) لكانت عظّمت من ثمن الإخلال بالاتفاقيّة. كما رأينا، ترامب أخلّ بها من دون اكتراث لأن الاتفاقيّة لم تلحظ ذلك. أما بالنسبة إلى العقوبات، فكانت إيران تريد إزالتها فوراً لكن أميركا جعلت ذلك تدريجاً مع السماح لفرق التفتيش بالدخول إلى كل المنشآت المعنيّة «في أي مكان» في إيران، وبإنذار لا يتعدّى الـ٢٤ يوماً. والإخلال الإيراني بالاتفاقيّة يؤدّي بصورة فوريّة ومن دون إنذار إلى تطبيق عقوبات فوريّة. هذا اللاتلازم تناقض مع الشروط التبادليّة النفعيّة. لقد أتاح الاتفاق لإيران أن تحصل على مال، لكن هذا مال إيراني مسروق من قبل أميركا والغرب (من مبيعات الغاز والنفط المجمّدة في بنوك) بقرار أميركي جائر منذ عهد كارتر (الذي جمّد أموال تملكها الدولة الإيرانيّة). ويبدو أن الاتفاق تضمّن تفاهماً سريّاً مفاده بأن المليارات التي سيُفرج عنها لمصلحة إيران سيُعاد تدويرها، إذ إن أوّل الغيث كان في اتفاقيات لشراء طائرات (بمليارات الدولارات) من شركة بوينغ الأميركيّة ومن شركة «إير باص» الأوروبيّة.
والتفاوض بين إيران والدول الأوروبيّة مبني على تفاؤل مفرط من قبل الحكومة الإيرانيّة بإمكانيّة حث الدول الأوروبيّة على الانفصال مع أميركا. لم يحدث أن تحدّى زعيم أوروبي غربي الحكومة الأميركيّة كما تحدّاها جاك شيراك في عام ٢٠٠٢ و٢٠٠٣ عندما حذَّر من عواقب الغزو الأميركي للعراق. لكن لم ينتهِ عام ٢٠٠٣ إلا وكان شيراك يزحف عبر المحيط الأطلسي في محاولة لإرضاء واشنطن، ولم يكن تغيير سياساته نحو لبنان وسوريا (وصولاً إلى الاتفاق الإسرائيلي المعروف بقرار مجلس الأمن ١٥٥٩) إلّا ثمناً دفعه لنيل الغفران الأميركي. والحكومات الأوروبيّة تحرص ليس فقط على الرضى الأميركي بل تحرص أيضاً على أمن إسرائيل (مثلها مثل روسيا في ذلك). وفرض العقوبات الاقتصاديّة يخيف الشركات الأوروبيّة حتى لو سمحت لها حكوماتها بالعمل في إيران.
إيران في وضع صعب. هي تريد المضي في اتفاقيّة لا تريد ضامنتها الكبرى أن تستمرّ بها. والعدوّ الإسرائيلي زاد على طلباته الكثيرة إصراراً على إنهاء الوجود العسكري الإيراني في سوريا. ولهذه الغاية هو يستدرج إيران لمواجهة عسكريّة لا يريدها. والانفعال في التعاطي مع الاستفزازات الإسرائيليّة ليست حكيمة، والمواقف الانفعاليّة في التعاطي مع الاستفزازات الإسرائيليّة لها تاريخ عربي مرير، لم ينتهِ في حرب ١٩٦٧. إيران تتحضّر لمواجهة لا بدّ أن تأتي مع إسرائيل، لكن هل تتحضّر لها من دون سلاح نووي؟ وماذا لو وثقت إيران بإعلانات عامّة عن الصداقة الأوروبيّة من دون أن تكون مقرونة بضمانات؟ لا، وقد طالب ظريف في استهلال المفاوضات للحفاظ على الاتفاقيّة بـ«ضمانات». لكن لماذا لم يطالب بضمانات قبل أن يوقّع على الاتفاقيّة عندما كانت إدارة أوباما تسعى حثيثاً للوصول إلى اتفاق؟ وظريف كان يعلم، كما كان روحاني يعلم، أن الاتفاق تمّ في آخر سنة من ولاية أوباما ومن البديهي أن يطالب بضمانات في ظلّ الإدارة الجديدة. ولو أن إيران أصرَّت على أن تكون الاتفاقيّة من الجانب الأميركي بمثابة «اتفاقيّة» بتعريف وزارة الخارجيّة الأميركيّة القانوني (وهي ليست كذلك، إذ هي ذات مرتبة قانونيّة متدنيّة) لما استطاع ترامب أن يخالفها بهذه السهولة.
إن حالة من عدم الثقة تبدر عن الحكومة الإيرانيّة. وقوّة الفريق الإصلاحي المتمثّل بروحاني وظريف دليل على ضعف الفريق الآخر المتمثّل بالحرس الثوري ورجال الدين المحافظين. يمكن أن يكون سبب ذلك حالة التذمّر التي تسود إيران والتي انعكست في بعض أوجهها في انتقادات للحرس الثوري وحالة الفساد التي يُتهَم بها. لكن خيارات إيران صعبة لأن أيّاً منها يتطلّب حسم الصراع الداخلي الذي بات جزءاً من السياسة الإيرانيّة الداخليّة. والدفّة باتت تميل لمصلحة الفريق الإصلاحي كما يبدو من خطاب المُرشد الذي كان أكثر تصلّباً في الماضي. لكن اعتماد الفريق الإصلاحي على النوايا الحسنة (لأوباما من قبل ومن أوروبا حاليّاً) سيؤدّي إلى حالة من الإفلاس. يقول روحاني إن إيران مستعدّة أن تطبّق الاتفاقيّة ولو خرجت منها أميركا. لكن أميركا هي التي تُقرَّر إذا كانت العقوبات ستُرفع أم لا، وإذا كان المال المسروق من إيران سيُعاد لها أم لا.
تريد إسرائيل استدراج إيران لحرب خارج حدودها، في بلد لا تزال تعجّ بالجيوش الأجنبيّة والداخليّة على حد سواء. وتريد أميركا أن تفرض على إيران حالة الحصار الاقتصادي الخانق الذي سبق توقيع الاتفاقيّة النوويّة. وتريد أميركا أن تمنع إيران من الحصول على سلاح نووي. وإيران تريد أن تحافظ على بعض ثوابتها السياسيّة لكن مع إمكانيّة التوصّل إلى تفاهم مع أميركا. إن سلوك ترامب مع كوريا الشماليّة يؤذن إلى أسلوب «حافة الهاوية» في الخطاب الرسمي كضغط على الخصم. لكن يبدو أن الحكومة الكورية الشماليّة فهمت اللعبة أخيراً وقد أصدرت بياناً نفت فيه أن تكون قد قبلت بتعطيل سلاحها النووي. لولا هذا السلاح لكان القصف الأميركي لأهداف كوريّة قد بدأ قبل سنوات. وإيران قبلت بتعطيل السلاح الوحيد الذي يوقيها من قصف إسرائيلي أو أميركي. لكن يمكن أن يقبل ترامب بتعديل الاتفاقيّة على أن تشمل قضايا لم تشملها (خصوصاً تطوير الصواريخ الباليستيّة والمفاوضات حول بعض القضايا الاقليميّة). لكن من شبه المستحيل أن تتخلّى إيران عن حزب الله- لأسباب بعضها أيديولوجي وبعضها الآخر شديد الواقعيّة والبراغماتيّة.
لكن يساعد إيران أن الحاكم في البيت الأبيض يفتقر إلى الخيارات العقلانيّة. هو يضرب خبط عشواء- كما فعل في موضوع كوريا الشمالية- آملاً أن يؤدّي ذلك إلى تركيع الخصم. فهم كيم جونغ أون ذلك، وإن متأخراً. ولترامب تهديد بخيار قلب النظام لكن هل إن خيار قلب النظام أوقف العمل به في أجندات أجهزة الاستخبارات الأميركيّة منذ عهد كارتر؟ وكيف ستقلب النظام وهو- خلافاً لحالة العراق في عهد صدّام- يتمتّع بقواعد شعبيّة (من دون الجدال في حجمها أو اتساعها). وماذا حلّ بالمليارات التي أنفقتها أميركا ضدّ إيران على مدى عقود؟ وماذا حلّ بتوقّعات أميركيّة قديمة (تمتدّ إلى سنة قدومي إلى أميركا في عام ١٩٨٣) عن قرب سقوط النظام الإيراني؟ لكن الفريق الإصلاحي النافذ في إيران سيصرّ على تطبيق الاتفاقيّة، وربّما يقبل بإضافة تعديلات كبيرة عليها. وهذا دليل على حدود الخيارات السياسيّة المتاحة، وعلى صعوبة الوضع الاقتصادي داخل إيران. لو أن إيران لم تتخلَّ عن الخيار النووي لكان وضعها الاقتصادي صعباً جداً، لكن كانت قد ضمنت حماية البلاد (والنظام) من ضربة إسرائيليّة أو أميركيّة.

المراجع
(1) ريتشارد كوتام، «القوميّة في إيران»، ص. ٣٦٢.
(2) راجع توماس جونو وسام رازافي، «سياسة إيران الخارجيّة منذ ٢٠٠١»، ص. ١-٢.
(3) راجع كتاب أوليفيه روا، «الإسلام المُعولَم».
(4) راجع كتاب تريتا بارسي، «التحالف الغادر»، ص. ٢٣٧.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)