يمكن قراءة نتائج الانتخابات النيابيّة من منظور علم السياسة كما يمكن قراءتُها من منظور السياسة اللبنانيّة الفريدة من نوعها. المراسلون الغربيّون يتخبّطون في تغطية السياسة في لبنان ويعتمدون كسلاً على ما يردُهم من إعلاميّي وإعلاميّات الوسائل السعوديّة والحريريّة وأحبّائهم من ناشطي وناشطات المنظمّات غير الحكوميّة. يختصرون الحمأة الانتخابيّة وتشعبّات التحالفات والصراعات بـ«حزب الله ينال نصف المقاعد»، كما عنونت «فايننشال تايمز».* النظام الاقتراعي: ليست الانتخابات إلا ترفيهاً (أحياناً) من ترفيهات المجتمعات الرأسماليّة (ألم يحكم سي. رايت. ميلز في كتابه «نخبة السلطة» أن «الترفيه» هو عنصر من عناصر سيطرة الطبقة الحاكمة؟). الانتخابات مناسبة للاحتفال الوطني ولإسباغ شرعيّة دوريّة على الطبقة الحاكمة. والمفاجأة في نتائج الانتخابات «الديموقراطيّة» هي نادرة الحدوث، إلى درجة أن المفاجأة تصبح حدثاً بحد ذاته: إن المفاجآت غريبة ونادرة. والمفاجأة عادة هي نصر حزب «ألف» بدلاً من حزب «باء»، أو العكس. المفاجآت في الديموقراطيّة الأميركيّة تنحصر بنسبة الفوز أو نسبة الخسارة. والانتخابات الديموقراطيّة معدّة كي تمنع المفاجآت. إن النظام الاقتراعي الأميركي مثلاً مُعدّ من قبل الحزبيْن كي يمنع إمكانيّة خرق لحزب ثالث في أي انتخاب في الدوائر الـ٤٣٥ لمجلس النوّاب (والتي تجرى على أساس الدائرة الواحدة الصغيرة لكل مقعد، وبحسب النظام الأكثري). تتفق الطبقة الحاكمة عادة، مع الأخذ في الاعتبار مصالح القوى النافذة فيها، على نظامٍ اقتراعي يفيد مصالحها ويمنع تسرّب أحزاب جديدة إلى الحكم. وحتى أنظمة النظام النسبي تستطيع أن تقلّص من إمكانيّة تسرّب أحزاب جديدة عبر وضع نسبة مئويّة معيّنة يحتاجها الحزب قبل التمثّل ولو بمعقد واحد. وعتبة التمثيل في النظم الاقتراعيّة النسبيّة تتراوح بين ٢ في المئة في الدنمارك (وهي من النظم المتطوّرة ديموقراطيّاً) إلى ١٠ في المئة في تركيّا.
والنظام الاقتراعي اللبناني اعتمد تاريخيّاً النظام الأكثري الذي ينحاز ضد قوى جديدة. وهذه الانتخابات الأخيرة جرّبت النظام النسبي مع تشويه فظيع له. إن أول اقتراح للنظام النسبي في لبنان كان من قبل الحركة الوطنيّة في برنامجها الإصلاحي، لكنه كان موضوعاً على أساس لبنان دائرة انتخابيّة واحدة. ومساحة لبنان (وهي تساوي دائرة انتخابيّة صغيرة واحدة في النظام الاقتراعي الأميركي لمجلس النوّاب) لا تسمح بتقسيمه في نظام نسبي إلى دوائر صغيرة وإلاّ فإن هدف التمثيل (الحزبي/ الوطني) ينتفي. النظام النسبي (على أساس لبنان دائرة انتخابيّة واحدة) يعزّز إنشاء وتطوير أحزاب وطنيّة على مستوى كل مساحة لبنان، وبتنوّع طائفي يعصى إلى الآن على الكثير من الأحزاب. والتمثّل على مستوى كل لبنان يُقلّل من ضغط المحلّة الصغيرة للمناداة بحقوق الطائفة المهضومة الحقوق، كما فعل زياد أسود في جزّين (حيث استعار خطاب «أمين ناجي»، موحياً في التهديد بأن خسارته الشخصيّة تكاد تساوي عيش المسيحيّين في نظام ذمّي). وهذا النظام (أي لبنان دائرة واحدة) يفرض على كل حزب في لبنان التوجّه إلى ناخبين وناخبات من طوائف غير ممثّلة في صفوفه، وهي ستؤدّي بالتدريج إلى تطويع أيديولوجيّة الأحزاب بحيث تصبح مقبولة من كل الطوائف، أو من بعض في كل الطوائف. وستعلّم الأحزاب وقادتها النطق بخطاب أبعد من حدود الطائفة المنصورة.
أما الصوت التفضيلي (الذي فصّله جبران باسيل على مقاسه) فكان الهدف منه التفضيل الطائفي الضيّق من أجل تطبيق نظريّة الكاردينال صفير بضرورة حصر الاقتراع طائفيّاً (أن يقترع المسيحيّون للمسيحيّين ويقترع المسلمون للمسلمين) - أي العمل الحثيث على تقسيم الوطن نفسيّاً وسياسيّاً. ويمكن أن نطبّق النظام النسبي لكن من دون الصوت التفضيلي (الطائفي) وأن نترك للأحزاب أن تجري انتخابات في داخل صفوفها (كما فعل التيّار الوطني الحرّ وكما يجري منذ بضع سنوات في دولة العدوّ) لتقرير تراتبيّة الأسماء على القائمة الحزبيّة الواحدة التي يقترع المواطن لها، لكن من دون التدخّل في التراتبيّة على الاطلاق، ومن دون اختيار الأشخاص.
لا أحزاب وقوى تغيير يمكن أن تشكّل عامل جذب لناخبين وناخبات جدد


تبقى مسألة المناصفة وهي بدعة (كوتا) غير ديموقراطيّة تؤدّي (كما أدت في هذه الانتخابات وسابقاتها) إلى إعطاء أصوات الناخبين أفضليّة في التقرير بناء على الطائفة. أي أن النائب المسيحي يمثّل أقلّ (عدديّاً) من النائب المسلم لكنه يتساوى معه في الحقوق الاقتراعيّة في المجلس النيابي. وهذه الكوتا لا يمكن لها أن تستمرّ لو أن إصلاح النظام الديموقراطي هو الهدف. ولو افترضنا أن تطبيق العلمنة الشاملة (وهي حتماً الأفضل) مستحيل في ظل ثقافة سياسيّة طائفيّة، فيمكن تطبيق المناصفة على القائمة الحزبيّة في نظام نسبي على مستوى الوطن، حيث يكون كل مرشح مسيحي يليه مرشح مسلم وهكذا دواليك. هذا يؤدّي إلى المناصفة، مثلاً. وهذه «الكوتا» (المُناصفة) مطبقة في رواندا بالنسبة إلى تمثيل المرأة، مما جعل راوندا في المرتبة الأولى في تمثيل النساء بحسب التراتبيّة السنويّة للاتحاد البرلماني الدولي. أو يمكن (كما جاء في الطائف) خلق مجلس شيوخ وجعل تمثيله على أساس المناصفة الطائفيّة على أن يكون مجلس النوّاب ممثّلاً ديموغرافيّاً للشعب بصرف النظر عن الطائفة. ويمكن إعطاء مجلس الشيوخ صلاحيّة مجلس اللوردات التقليديّة في بريطانيا (قبل إلغائها في حكومة بلير بعد ١٩٩٧)، أي صلاحيّة تأخير تمرير القوانين بغية تعديلها. أو يمكن التعلّم من تجربة راوندا بعد حربها الأهليّة في تجريم أي إشارة إلى طائفة الفرد مهما كان.
أما نسبة الاقتراع المتدنيّة فلها أسباب متعدّدة. إن الأنظمة الاقتراعيّة المعقّدة تقلّل من نسبة الاقتراع (اعترف أكثر من نصف الألمانيّين أنهم لم يفهموا نظام «الاقتراع الأوّل والثاني» بعد استحداثه قبل سنوات، كما أن عمليّة اقتراع سعد الحريري استغرقت بحد ذاتها أكثر من عشر دقائق، لكن سعد معذور). ونسبة الاقتراع قاربت النسب في أميركا التي تقلّ نسبة الاقتراع فيها عن معظم دول الغرب ولنفس أسباب تدني الاقتراع في لبنان: احتمال التغيير الحقيقي من خلال الاقتراع ضئيلة جداً، ينحصر التغيير بين قوى متربّعة في السلطة القائمة، الفقراء والمعوَزون لا يجدون نفعاً من التغيير. ليس هناك من أحزاب وقوى تغيير جذري يمكن أن تشكّل عامل جذب لناخبين وناخبات جدد، كما أن الشعارات الانتخابيّة لا تجذب العناصر الشابّة القليلة الاهتمام بالاقتراع (تقلّ نسبة اقتراع الشباب هنا عن ٢٠ في المئة في الكثير من الأحيان). وهناك دول مثل بلجيكا وأستراليا حيث يدفع المواطن غرامة لو لم يصوّت، وهناك دول ترفع نسب التصويت عبر سن نظام اقتراعي جاذب مثل دنمارك وهولندا وحتى فرنسا. وفي غياب إحصاءات دقيقة عن أسباب عدم الاقتراع في لبنان، لا تجوز المبالغة في تأثير عدم المقترعين في النتائج، فالدراسات هنا عن السلوك الافتراضي للمقترعين تقول إن خياراتهم لا تختلف جذريّاً عن عدم المقترعين.
* جبران باسيل: لا شكّ أن باسيل كان نجم هذا القانون الذي فُصِّل على قياسه. وقد أصبح باسيل نائباً، هو والصهر الآخر، شامل روكز. (التمثيل العائلي ليس غريباً في العهود، فقد كان ابن سليمان فرنجيّة (الرئيس) نائباً ووزيراً كما كان صهره عبد الله الراسي نائباً ووزيراً). وباسيل أراد القانون الذي يضمن فوزه عبر عزل تصويت المسلمين عن تقرير الفائز في دائرته. وفهم لعبة الصوت التفضيلي جيّداً، وهو الذي أصرّ عليها، إذ إنه عمل على مدى السنتيْن الماضيتيْن على اعتناق فكر بشير الجميّل والتحدّث (بصورة شبه رسميّة) عن «المُكوِّن المسيحيّ» (وليس المصطلح إلا ترجمة لمفهوم «المجتمع المسيحي» في الخطاب الانعزالي في سنوات الحرب) كما أنه دشّن عهد حماه بملاحقة ومحاكمة حبيب الشرتوني. أي أن باسيل افترض أن اعتناق خطاب الجميّل يدغدع مشاعر المسيحيّين، وفي هذا إهانة للمسيحيّين. ورئيس الحزب الذي ارتبط بتفاهم استراتيجي مع حزب الله على أساس دعم المقاومة، اكتشف فجأة أن عقيدة حزبه لا تتضمّن أيديولوجيّة عداء ضد إسرائيل وأنه لا يعارض وجودها - أي احتلالها لفلسطين. أي أن باسيل أراد أن يعود بتيّاره إلى سنوات عزلة ميشال عون، عندما كان التيّار قريباً من اللوبيات الصهيونيّة في عواصم القرار. ويعوِّل باسيل على سعة صدر حزب الله وعلى ثقة حسن نصرالله بميشال عون. لكن لسعة الصدر حدوداً، خصوصاً أن باسيل قرَّر شن الحرب على الفساد في حركة «أمل» (حليف «حزب الله» الأوّل)، فيما هو متحالف مع «تيار الحريري» في السلطة. لماذا لم تشمل حملته الطرفيْن؟
وابتدع باسيل للمرّة الأولى اقتراع المغتربين (أصرّ على تسميتهم بـ«المنتشرين» كأن الكلمة تغيّر من واقع إقامتهم الطوعيْة خارج لبنان). وعدد هؤلاء كان يقدّره الكاردينال صفير بـ١٥ مليوناً، إلا أن باسيل اعتمد رقماً متحفّظاً: ١٤ مليوناً فقط. لكن الاقتراع هذا فشل بكل المعايير (حتى ولو أن باسيل ومحمد فنيش أعلنا نجاحه). كيف يكون هذا الاقتراع ناجحاً ولم يصوّت في ديربورن (وهي من أكبر التجمّعات اللبنانيّة خارج لبنان) إلّا ٢٤٥ مُقترعاً فقط. ويستطيع كل أنصار حزب الله في الدول التي تصنّف الحزب بأنه منظمّة إرهابيّة تقديم طعن بنتائج الانتخابات اللبنانيّة برمّتها، أو على الأقل لإبطال نتائج المغتربين، لأن ظروف إجرائها منعت أنصار الحزب من العمل بحريّة، كما أنها منعت الحزب من التحرّك بحريّة في تنظيم حملات وإرسال مندوبين من لبنان، على غرار كل الأحزاب الأخرى. ولو اعتمدنا عدد المغتربين الذي يعتمده باسيل، لكان عدد المقترعين بلغ أقل من ١ في المئة. وقد لجأ باسيل إلى خدعة مُضلِّلة لتسويق نتائج انتخابات المغتربين عندما أعطى نسبة المقترعين من الذين سجلّوا نيتهم بالاقتراع وليس من نسبة الذين يحقّ لهم الاقتراع بالمجمل. وهذا التضليل أخفى الفشل الذريع لهذه العمليّة التي لا يجب أن تتكرَّر.
* كلّنا وطني: لم يكن هذا التجمّع مفهوماً. قوى متنافرة، بعضها موغل في اليمينيّة وبعضها موغل في اليساريّة المعتدلة، تجمّعت في ائتلاف انتخابي واحد. لكن ما هدفه؟ ولماذا تجميع الفوارق؟ لو أن هذه القوى متجانسة ومنسجمة، لو أنها على عتبة تشكيل حكومة ائتلافيّة يمكن فهم الفكرة. يفرّق موريس دوفرجيه، عالم السياسة الفرنسي الذي درس تصنيف الأحزاب، بين أحزاب ذات مهمّة تبشيريّة، أي ذات عقيدة مُعتنقة من أعضاء الحزب، وبين أحزاب انتخابيّة، أي تلك التي لا تجمّع أعضاء بقدر ما هي تسعى إلى الفوز في الانتخابات. الصنف الأوّل يسعى لجذب أعضاء، فيما الصنف الثاني يسعى لجذب المقترعين. الحزبان الحاكمان هنا هما حتماً من الصنف الثاني: لا نتحدّث عن مفهوم العضويّة في الحزبيْن الحاكميْن، وهويّة الحزبيْن ليست إلى صفة عامّة لتوجّه عام بين خياريْن اثنيْن في كل انتخابات. لكن الصنف الأول من الأحزاب موجود هنا، وهو يُعرف بـ«الأحزاب الثالثة»، أي تلك التي لا يمكن لها أن تتمثّل في الانتخابات الاشتراعيّة بحكم النظام الاقتراعي الصارم. الحزب الشيوعي الأميركي وحزب الخضر والحزب الليبرتاري هم نماذج عن الأحزاب التي تسعى إلى جذب أعضاء. وهذا الصنف من الأحزاب هو أحزاب مبدئيّة لأنها لا تخسر من التمسّك بمبادئها.

قادة العدوّ لم يتوقّفوا أثناء الحقبة الانتخابيّة عن تهديد كل لبنان ومدنيّيه


لكن القوى اليساريّة المنضوية في «كلّنا وطني»، مثل «مواطنون ومواطنات في دولة» تصرّفوا على أساس أنهم حزب يهدف إلى الفوز في الانتخابات، مع أن لا سابقة له في ذلك. الأحزاب الصغيرة (والجديدة) تكون عادة أكثر مبدئيّة من الأحزاب الكبيرة لأن ليس لديها الكثير مما تخسره، ولأن الأحزاب التي تفوز بالانتخابات (مثل الحزبيْن هنا) تُميّع أهدافها الأيديولوجيّة بغية كسب أكبر عدد من الأصوات، وهم يصيغون برامجهم بلغة ضبابيّة (الحزب الجمهوري هنا أكثر مبدئيّة من الحزب الديموقراطي لأنه واثق من تأييده في وسط الناخبين الذكور من البيض مما يعطيه حصانة أكثر). لكن انضواء «مواطنون» في صف قوى ما يُسمّى اعتباطاً في لبنان في «المجتمع المدني» (كأن هناك خطوطاً علميّة لتحديد ما هو «المجتمع المدني»، أو كأن لبيار الضاهر القدرة على وصفها وتحديدها من دون غيره) كان على حساب برامجه التقدميّة المحدّدة. وقد طلعت «كلّنا وطني» في آخر أيام الانتخابات ببيان يحدّد موقفاً عدائيّاً واضحاً ضد سلاح المقاومة، وقد ألزم هذا الموقف «مواطنون ومواطنات» كما ألزم بقية الفريق. وهذا الموقف لم يكن مستغرباً لأن ما يُعترف على تسميته في الإعلام بـ«المجتمع المدني» ليس إلا قوى معروفة (في بلد صغير مثل لبنان) بيمينيّتها وعدائها الشديد والاستثنائي ضد حزب الله وسلاحه. «المجتمع المدني» هو على يمين ١٤ آذار، ويضم منشقّين ومنشقّات عنه. والسفر بين المجتمع المدني وبين قوى السلطة أصبح رحلة سهلة. إعلاميّة عملت في إعلام آل الحريري على مدى عقديْن من الزمن، وجاهرت بمواقفها السياسيّة على تويتر وعلى الشاشة (وفعلت ذلك في الانتخابات البلديّة الأخيرة) في نصرة الحريريّة تحوّلت بقدرة قادر (أو قادرة) إلى مستقلّة مرشّحة (ومُعادية للسلطة) على قائمة حزب سبعة (لكن يبدو أنها تنصّلت من الحزب بعد فوزها، أو بعد ضمان فوزها). وقوى «المجتمع المدني» روّجت كثيراً في هذه الانتخابات لكليشيه «الشراكة بين القطاع العام والخاص» كأن القطاع الخاص هو جمعيّة خيريّة لا تسعى إلى الربح، ولا تهدف إلا لإسعاد المواطنين. و«المجتمع المدني» في العالم العربي بات بوقاً لوصفات البنك الدولي وصندوق النقد. لهذا فإن وجود «مواطنون ومواطنات» بينهم كان مستغرباً ونافراً وظالماً لناشطيهم وناشطاتهم.
* الحزب الشيوعي. مرّت قبل أيّام ذكرى مرور قرنيْن من الزمن على ولادة كارل ماركس. لم يتذكّره الحزب بمناسبة أو احتفال أو مسيرة. الحزب الذي يحمل اسم العقيدة التي ترتبط في أذهان سكان الكوكب باسم الرجل، لا ينفك عن التنصّل منه ومن عقيدته. لم تعد عقيدة الحزب واضحة. هو أراد أن يصبح حزباً إصلاحيّاً، يحقّ له إعلان ذلك. لكن لو أن قيادة الحزب تريد أن تتخلّى عن العقيدة الشيوعيّة فعلى غيرها أن تحمل المشعل بعده. الحزب في هذه الانتخابات كان مثل الصنف الثاني في تصنيف دوفرجيه: تعامل مثل تلك الأحزاب التي تريد الفوز بأي وسيلة. لم يطرح برنامجاً يساريّاً محدّداً، وفتح قنوات الحوار من أجل التحالف الانتخابي مع كل الأحزاب والتيّارات (بما فيها القوّات اللبنانيّة) في كل لبنان باستثناء حزب الله. كان لافتاً كم أن الحزب حاول أن ينفي عن نفسه أي صفة علاقة أو تحالف مع الحزب. هو أصدر بياناً نفى فيه إشاعات تتعلق بسلوكه الانتخابي، من دون أن يوضح ماهية الإشاعات (وهي تتعلّق بإمكانيّة تحالفه مع الحزب). وفي خطاب الأوّل من أيّار، أعلن حنّا غريب تباين حزبه مع حزب الله ومقاومته، فقال إن مقاومة «جمّول» تجمع بين مقاومة العدوّ الإسرائيلي ومقاومة الفساد. لكن تجربة «جمّول» تمتُّ إلى التاريخ وليس إلى الحاضر، وإلا فإن الحزبَ مُطالبٌ بالسؤال عن غياب دورها في أعتى حرب شنّها العدوّ ضد لبنان، في تمّوز ٢٠٠٦. أما حجّة أن النظام السوري هو الذي منع «جمّول» من المقاومة فلم تعد تنطلي بعد خروج قوّات النظام السوري من لبنان (وصحف مرحلة النظام السوري لا تزال تروي عن مآدب أقامها جورج حاوي لقادة الجيش السوري ومخابراته). إن مقاومة تجمع بين مقاومة العدوّ والفساد هي مقاومة مثاليّة ومطلوبة لكنّها غير موجودة (وهل أن «جموّل» في عزّها حاربت الفساد؟). إن الحنين إلى ماضٍ يساري لا يشكّل بديلاً عن مقاومة حاليّة - وهي من أفعل المقاومات في تاريخ الصراع العربي ــ الإسرائيلي وهي التي - في عدوان تمّوز - أذلَّت العدوّ كما لم يُذلّ في تاريخه، وباعترافه. على الحزب أن يحدّد مشكلته مع حزب الله، لأن لديه مشكلة (اختار الرفيق خالد حدادة أن يصدر بياناً خاصاً مستنكراً رواية عن تعرّض مرشّح في الجنوب اللبناني إلى اعتداء من أربعين عنصراً من حزب الله - أو ثلاثين في روايات أخرى - من دون أن يتعرّض لأذى باستثناء كسر في سنّه. لم تثر كل استفزازات واعتداءات تيار الحريري ولا سطوة المال الداخلي والخارجي حفيظة حدادة. فقط تلك الحادثة أخرجته عن طوره).
* ردّ عدوان إسرائيل. من عجائب، لا بل من فظائع، هذه الانتخابات أن قادة العدوّ لم يتوقّفوا أثناء الحقبة الانتخابيّة عن تهديد كل لبنان وتهديد مدنيّيه وبناه التحتيّة بالتدمير من دون أن يسبب ذلك أي نقاش جدّي في سبل مواجهة العدوّ. إن اللوذ بالجيش اللبناني وسلاحه، في الظروف الحاليّة من تسليحه الذي تشرف عليه الحكومة الأميركيّة -فقط لأغراض القمع الداخلي ومواجهة حزب الله، باعتراف الحكومة والإعلام الأميركي- ليست إلا دعوة مفضوحة لاستسلام لبنان أمام إسرائيل. هي دعوة من لبنان لإسرائيل لاحتلاله. لكن موضوع حماية لبنان من تهديدات إسرائيل، والعمل على تحرير أراض لبنانيّة محتلّة لم تشكّل أي نقاش جدّي عند أي من الأحزاب والتيّارات السياسيّة في لبنان. على العكس، كانت معظم القوى إما تطالب بنزع سلاح الحزب، أو تطالب بوضعه تحت أمرة جيش غير مؤهّل لمواجهة إسرائيل (لو أن الجيش جاهز - كما يقول قائده الحالي - فلماذا لم يفعل ذلك في حرب تمّوز؟).
لقد احتلت صورة يحيى شمص مقالات الصحف الأميركيّة عن الانتخابات، وبدا كأنه يُعوَّل عليه (وعلى صوره الملوّنة) من أجل أن يكتسح منطقة بعلبك - الهرمل، وأن يذلَّ الحزب في عقر داره. يكفي هذا التعويل لمعرفة طبيعة الاهتمام والتدخّل الأميركي في انتخاباتنا. وأخيراً، لماذا تهتم القوى اليساريّة بالتغيير الانتخابي؟ من قال إن الانتخابات هي وسيلة التغيير الوحيدة في العالم، خصوصاً إذا كان تغيير النظام برمّته هو الهدف؟
*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)