كان مخيّم اللاجئين الفلسطينيين هو المدخل الوحيد إلى القضية الفلسطينية، وكانت «العودة» عنواناً وحيداً لبرامج الحركات والأحزاب السياسية في بلاد الشام والعراق ومصر على اختلاف مشاربها ومناهجها! وكان النقاش سوريالياً، عن الأخطاء والخيانات التي مكنت المستعمرين الإسرائيليين من إنشاء دولتهم على 78% من أرض فلسطين وإفراغها من جزء كبير من سكانها الأصليين! ولكن ما قبل هزيمة حزيران 1967 ليس كما بعدها. ضاعت البوصلة وغشيت الرؤية. تعددت المداخل وتبدلت العناوين. ضمرت الحركات والأحزاب السياسية وامّحت برامجها تحت نعال أنظمة الحكم التي أنكرت أسباب عجزها وقصورها عن تفادي الهزيمة. وكأن شيئا لم يتغير ويتبدل منذ 1948، حيث كان التصدي لقوات المستعمرين الإسرائيليين، وبالتالي اجتناب النكبة مستحيلاً.
ليس لأن مقاومة المستعمر غير ممكنة، ولكن لأن الغموض ما يزال يكتنف تجلياته. كأن هويته مجهولة ومواقعه مخفية وخططه مكتومة القصد. ما يزيد الطين بلة أن الذهنية السلفية ليست حكراً على من يتلفّعون بالدين رياءً أو إخلاصاً، وإنما هي متأصلة أيضاً في مجال النشاطات الاجتماعية والسياسية. هذا لم يسمح طبعاً، باستنباط الوسائل والأساليب الملائمة، ليس فقط لكفاح المستعمر ولكن لفهم طبيعة الاستعمار والمناخات التي تهيئ الظروف اللازمة لتمدد نفوذه وتقويته.
خذ إليك القضية الفلسطينية. احتل المستعمرون البريطانيون فلسطين سنة 1917، وكان وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود على أرضها من صلب الخطة التي توكلوا بتطبيقها. من البديهي أنه لولا الاستعمار البريطاني لما وقعت النكبة. يستتبع ذلك أن المستعمرين الإسرائيليين ورثوا فلسطين عن المستعمرين البريطانيين الذين مهدوا لهم الطريق وأنشأوا لهم دولة. يبني عليه أن هؤلاء الأخيرين ليسوا وسطاء أو حلفاء، بل هم أعداء يتحملون المسؤولية عن «الجريمة ضد الإنسانية» التي ارتكبت في فلسطين سنة 1948 وها هي تتكرر منذ ثلاث سنوات تحت مسميات مزيفة وحجج واهية. فالمستعمرون لا يأتون بالحرية والديموقراطية ودين الحق.
بالرجوع إلى المسألة الفلسطينية، من المرجح كما لمّحنا أعلاه أن مخيم اللاجئين لم يعد المدخل الوحيد إليها. صار للمسألة الفلسطينية بوابات خارج المخيمات. توجد واحدة منها في رام الله حيث السلطة الفلسطينية التي تدير بعض «المحميات» في الضفة الغربية تحت ظل قانون الفصل العنصري «الأبارتهايد»، الإسرائيلي. لا شك في أن هناك بوابة ثانية في مشيخة قطر، تفضي بالقطع إلى فراغ. نذكر هنا، لعل الذكرى تنفع، أن بوابة قطاع غزة مغلقة بأمر من المستعمرين الإسرائيليين. أما بوابات فلسطين في مخيمات سوريا ولبنان فلقد سدها الإسلاميون بجدران عالية وأجبروا اللاجئين على إخلاء هذه المخيمات من منافذ المطابخ... في إطار سياسة، من المحتمل أنها مبرمجة مسبقاً، الغاية منها هدم هذه المخيمات وتذويب اللاجئين الفلسطينيين، في البيئة التي لجأوا إليها!
لم يكن المخيم مكاناً تجمّع فيه عشوائياً، الفلسطينيون الذين طردهم المستعمرون الإسرائيليون، بل كان صورة عن منطقة من المناطق الفلسطينية. بمعنى أن المخيم كان يضم سكان بلدة أو مدينة فلسطينية وجوارها، اضطرهم المستعمرون بالوسائل الإرهابية المعروفة إلى النزوح معاً، فأقاموا في نفس المخيم وحافظوا الى حد ما، على النسيج الاجتماعي الذي كان يلفّهم وعلى الذاكرة أيضاً. مجمل القول إن المخيّم كان كمثل المجسّم، لذاكرة، لمنطقة أو جهة من جهات الأرض الفلسطينية المحتلة. طبيعي أن يحاول المستعمرون من دون هوادة، طمس رمزية مخيم اللاجئين وقطع العلاقة العضوية الموجودة بينه وبين فلسطين. فهما من آثار جريمتهم. الغريب أن المخيم صار في زمان «الهزيمة والاعتدال والتطبيع والاستهتار وفقدان الاحتشام والحياء» مصدر قلق ليس فقط للمستعمرين الإسرائيليين، ولكن لأنظمة الحكم العربية أيضاً، بالإضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية. منذ أن أدارت هذه الأخيرة ظهرها للجماهير العربية وحركاتها التقدمية لتحاكي نظام الحكم العربي التقليدي، الذي كان لا يختلف من قطر إلى آخر إلا بالشكل والاسم.
أكتفي من هذا الاستطراد، فأنا لست بصدده لأقول إن من غير المستبعد أن تكون الغاية من الغزوات التي تتعرض لها بلاد الشام، ليس فقط إسقاط الكيانات الوطنية، وتجزئة البلاد على قاعدة الانتماء الطائفي والمذهبي، والعرقي إذا لزم الأمر، وإنما الهدف أيضاً هو هدم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ومحو آثار الجريمة الاستعمارية الإسرائيلية ضد الإنسانية.
من البديهي في هذا السياق أن من المفترض أن متغيرات كثيرة دخلت البنية الاجتماعية لكل مخيم من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وفي لبنان بوجه خاص، نتيجة وجود فصائل المقاومة الفلسطينية، وللحروب والمعارك و«الثورات»، التي اشتركت فيها هذه الأخيرة، انطلاقاً من المخيمات أو في المناطق المحيطة بها. يمكن القول إن خمسة مخيمات للاجئين الفلسطينيين في لبنان على الأقل، تم محوها كلياً أو جزئياً ابتداءً من مخيم النبطية الذي أزيل بالكامل، وانتهاءً بمخيم نهار البارد الذي كان مسرحاً لمواجهة طويلة ودامية ومدمرة بين فرع من فروع الوهابية الجهادية من جهة، وبين الجيش اللبناني من جهة ثانية، مروراً بمخيمي صبرا وشاتيلا اللذين اقترفت فيهما يد الإجرام الإسرائيلية آخر أكبر مجازرها!
لن يتسع المجال هنا لإيفاء البحث في هذا الموضوع. ولكن يمكننا الإشارة، من دون حرج الى أنه تأوي إلى مخيم اللاجئين الفلسطينيين في عين الحلوة ـــ صيدا، جماعات إسلامية جهادية ذاعت شهرتها، أثناء حرب نهر البارد وخلال المواجهة مع أنصار الشيخ الصيداوي الفارّ أحمد الأسير، ثم بمناسبة الهجوم على السفارة الإيرانية في بيروت، وبعد ذلك بخصوص السيارة التي استخدمت لاغتيال الوزير محمد شطح، وأخيراً يبدو أن المخيم كان محطة للإرهابي الوهابي ماجد الماجد مسؤول «كتائب عبد الله عزام» التي أعلنت الحرب على حزب الله في لبنان. أما في الأزمة السورية، فما من شك في أن فصائل فلسطينية تشارك في القتال الدائر هناك، انطلاقاً من مخيم اليرموك في دمشق، ومخيم الرمل في اللاذقية، كما تناهى إلى العلم. بالإضافة إلى هذا كله، تشير الدلائل والتصريحات إلى وجود أزمة وربما اصطدامات مسلحة في سيناء، بين الجيش المصري من جهة وحركة حماس من جهة ثانية. ألا يحق لنا من بعدُ أن نقول إن أخشى ما يخشى هو أن تمحو ثورات الإسلاميين ذاكرة اللاجئين الفلسطينيين وتشتّت شملهم.
* كاتبة لبنانية