كنا أشرنا في مقالات سابقة إلى تآمر نظام ذوي عون وتعاونه مع الاحتلال البريطاني، لكنه لم يكن كافياً لاغتصاب فلسطين وتمكن العدو الصهيوني من احتلالها وطرد أهلها!في الحقيقة، إن مكونات عديدة دخلت في عملية اغتصاب فلسطين وساهمت في نجاح المؤامرة. ولا شك في أن الدور الإمبريالي العالمي، وتحديداً الأنغلو _ أميركي، كان العامل الحاسم في نجاح المشروع، لكن من غير الصحيح إهمال الأدوار الجانبية التي مارستها بعض القوى العربية على الأرض، في داخل فلسطين (الانتداب/ الاحتلال) وفي الأردن.
ثمة وثائق أفرج عنها تشير إلى مدى تواطؤ الحسين بن علي وأبنائه عبد الله وعلي وفيصل في مؤامرة تسليم فلسطين للعدو الصهيوني، عن سبق إصرار وترصد، وأن عبد الله (الأول) عد استيطان الصهاينة شرق الأردن نجاحاً باهراً، يساعده في دعم ميزانيته التي يُستخدم جزء منها لابتياع ولاء بعض العشائر والتجمعات العشائرية، ذلك أن معاشه الشهري من بريطانيا لم يتجاوز الألف جنيه استرليني شهرياً _ بصفته أميراً مؤقتاً على «شرق الأردن» منوط به مهمة قمع النشاط الفلسطيني المعادي للمشروع الصهيوني ومنع أي نشاط قومي عربي معاد لفرنسا في سوريا (سوريا ولبنان).
مشروع غور الكبد معروف وسبق الكتابة عنه، لكنْ ثمة أشكال تعاون أخرى مع العدو الصهيوني مارستها قيادات بعض العشائر الأردنية كتبت عنها صحافة فلسطين المحتلة في ثلاثينيات القرن الماضي وأدانت رموزها بالاسم واتهمتهم بالخيانة العظمى.
من المعروف أن أول لقاء مباشر بين عبد الله بن الحسين والحركة الصهيونية جرى في العاصمة البريطانية لندن في عام 1922 حيث عقد لقاءات مع حاييم وايزمان الذي كان يرأس الحركة الصهيونية العالمية حينذاك. وفي ذلك اللقاء عرض الأول اعترافه بإعلان بلفور، تماماً كما فعل شقيقه فيصل في عام 1919، والذي كان فاتحة لقاءات وصداقة حارة دائمة مع الحركة الصهيونية وقياداتها خلال عشرينيات القرن الماضي. ففي عام 1924 زار وفد صهيوني رسمي ضم كلاً من حاييم وايزمان والكولونيل فريدريك كيش رئيس دائرة فلسطين في المنظمة الصهيونية العالمية عمان حيث التقى أيضاً بكبيرهم، الحسين بن علي، وآخرين من عائلة ذوي عون السعيدة. قبل ذلك، قررت بريطانيا تقسيم فلسطين، وفق الفهم التوراتي القياسي، إلى فلسطين وعبر الأردن (cisjordan)، أي الأردن حالياً، وعينت عبد الله أميراً عليه، تحت التجربة، لمدة ستة أشهر، قابلة للتجديد إن ثبت صلاحيته لتنفيذ المهام المنوط بها.
في الحقيقة، سجل حاييم وايزمان ملاحظة أنه ينظر إلى «عبر الأردن» على أنه الضفة الشرقية من «أرض إسرائيل»، لكنهم لن يحاولوا احتلالها بالجند بل بالعمل والمال والمحراث!
الفرصة الأولى للتعاون بين الحركة الصهيونية وحكام عمان من ذوي عون سنحت بمناسبة بناء الحركة الصهيونية محطة طاقة في منطقة التقاء نهري الأردن واليرموك، حيث قام جلالته شخصياً بتشغيل المولدات، غير عابئ بالاحتجاجات الشعبية في شرق الأردن/ الأردن وفي فلسطين. والأمر ذاته تكرر في عام 1927 عندما حصلت شركة بوتاس فلسطين المملوكة من يهود على حقوق استخراج مواد كيماوية من البحر الميت. بل إن صاحب الجلالة رحب بوفد شبابي صهيوني حضر إلى عمّان للمساعدة في إزالة ركام الزلزال الذي ضرب المدينة، رغم الاحتجاج في الأردن.
في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، دخلت قضية الأرض في صلب العلاقات الأخوية التي تربط ذوي عون وبعض قادة العشائر الأردنية بالحركة الصهيونية. في تلك الفترة اجتمع عنصران ساهما في محاولة مد خطوط التعاون الأخوي بين الطرفين إلى قطاع الأرض، سببه تجميد بريطانيا عمليات بيع الأراضي في فلسطين إثر ثورة البراق في عام 1929، إضافة إلى الحاجة الماسة الدائمة لصاحب الجلالة للمال، وخصوصاً بعدما منحته حكومة صاحب الجلالة بعض الأراضي في غور الأردن. وهكذا دعا عبد الله بن الحسين الحركة الصهيونية الى استئناف الحوار في أيلول 1930، وفي شباط 1931 قام كيش، المشار إليه آنفاً، بزيارة عمان، لكن هذه المرة بصفته رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية، رغم ادعائه لصحيفة «دافار» الصادرة بتاريخ 22 و23 شباط، و2 آذار 1931 بأنه كان في زيارة اجتماعية للاطمئنان على الحسين بن علي، الذي قد كان قابله أصلاً في عام 1924. صحيفة «فلسطين» الصادرة في يافا بتاريخ 25 شباط 1931 وصحيفة «الأهرام» المصرية الصادرة بتاريخ 1 آذار 1931، دانتا الزيارة وتوقعتا أن هدفها بحث التطهير العرقي وطرد الفلسطينيين من أرضهم إلى الأردن، إضافة إلى قيام الحركة الصهيونية بابتياع أراض في الأخيرة وذلك وفق وثائق الأرشيف المركزي الصهيوني الصادرة بتاريخ 02/01/1933 عن اللقاء.
هنا نرى دخول زعامات عشائر من الأردن في سوق بيع الأراضي للصهاينة وكان في مقدمة الأسماء المتداولة حينذاك الشيخ مثقال باشا الفايز زعيم بني صخر وأكبر مالك أراض فيها. ففي كانون الأول عام 1930 اتصل بالحركة الصهيونية، عبر ناحوم بففر، الذي كان أحد كبار موظفي شركة إدارة الأراضي وتطويرها في فلسطين، وعرض عليه ابتياع نحو ثلاثين ألف دونم. بعد رفض الوكالة اليهودية، أكيد بضغط بريطاني، عاود الشيخ مثقال ودعا المسؤول ذاته إلى زيارته حيث كرر عرضه، لكنه توقف عن ذلك بعدما أقنعه تيسير الدوجي الذي كان يشغل منصب كبير ممثلي الوكالة اليهودية في شرق الأردن بطرح المشروع على الحركة الصهيونية مباشرة، وهو ما فعله في لقاء مع حاييم كلفاريسكي مدير المكتب العربي في اللجنة التنفيذية الصهيونية. ولأن المفاوضات لم تؤد إلى نتيجة فقد أعاد الشيخ مثقال اقتراحه في لقاء له مع رئيس المنظمة الصهيونية العالمية ناحوم سوكولوف في مدينة القدس في تشرين الثاني عام 1932.
انفضاح اتصالات الشيخ مثقال بالحركة الصهيونية ولقاؤها بقادتها وعرضه بيعها أراضي له في الأردن أدت إلى انفجار أزمة حقيقية، حيث سبق أن احتفل به أحد قادة الحركة القومية العربية في الأعوام 1929 _ 1931 (انظر أعداد صحيفة «فلسطين» اليافوية بتاريخ 18/06 و23/07 و06/08 و13/08 من عام 1929)، بل إن الصحيفة ذاتها نشرت صورته على عدد صفحتها الأولى الصادر بتاريخ 27/09/1931 حيث وصفته بأنه «بطل العروبة». ومن المعروف أنه عارض بشدة معاهدة عام 1928 بين قوات الاحتلال البريطاني وحكومة صاحب الجلالة، إضافة إلى أنه عدّ من قادة المعارضة في المجلس التنفيذي المنتخب.
عروض الشيخ مثقال شجعت زعامات عشائر أخرى من الكرك على السير في الطريق ذاته حيث توالت على الحركة الصهيونية عروض من عائلتي المجالي (لها فروع أربعة) والطراونة للوكالة اليهودية والحركة الصهيونية لبيع أراض لهما في منطقتي الكرك والبحر الميت. وفي عام 1932، اجتمع المؤتمر العربي في شرق الأردن لمناقشة هذه الاتصالات وعروض بيع الأراضي، وأدانها، ما أدى إلى انسحاب الشيخ مثقال من المؤتمر، وفق ما ورد في صحيفة «فلسطين» بتاريخ 19/03/1932 وصحيفة دافار بتاريخ 11/10/1932. المراجع التابعة لحكومة صاحب الجلال مليك البلاد المفدى تشير إلى هذا الأمر الخطير بالقول: «إثر الانقسام الذي حصل في المؤتمر الوطني الرابع، قام فريق من شخصيات البلاد بزعامة الشيخ مثقال الفايز بتأليف حزب سياسي تحت اسم حزب التضامن الأردني في آذار عام 1933 حددت الهيئة التأسيسية أهدافه وغاياته؛ التي من بينها الإخلاص لسمو الأمير عبد الله وأعقابه من بعده، والدفاع عن كيان أبناء الأردن وإيصالهم إلى حقوقهم. وما يميز هذا الحزب هو دعوته لعقد مؤتمر اقتصادي بتاريخ 30 حزيران عام 1933 في منزل مثقال الفايز للنظر في طريق الإسعاف المستعجل للمزارع الأردني». صحيفة «فلسطين» عقبت على تأسيس الحزب وأهدافه في عددها الصادر بتاريخ 26/05/1933 بأنه «الحزب العربي الصهيوني». كاتب الاقتباس آنف الذكر لا يبلغ القراء بأسباب الانقسام في المؤتمر الوطني الرابع ولا أهداف المؤتمر الاقتصادي ولا المقصود بالإسعاف المستعجل للمزارع الأردني، لكن الصحف الفلسطينية تقول ذلك، وهو ما ذكرناه آنفاً.
وثائق المنظمة الصهيونية العالمية المفرج عن سريتها تشير إلى أن الوكالة اليهودية تسلمت عروض ابتياع أراض في شرق الأردن من شيوخ عدة من آل المجالي، ومن سلطان العدوان ومن رشيد الخزاعي وسعيد باشا أبو جابر.
لكن الاحتلال البريطاني لم يسمح للحركة الصهيونية بابتياع أراض شرق نهر الأردن، وفي محاولة من الأخيرة لعدم خسارة ود الشيخ مثقال وافقت على منحه رهناً عقارياً على أراض يملكها في قرية برزين. الأخير قام بدوره بإقامة علاقات علنية مع الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية، حيث دعا وفد من الوكالة إلى لقاء مجموعة من شيوخ العشيرة، رغم أن رئيس الوفد الصهيوني أهارون كوهين كان قد قدم متخفياً بزيّ أعرابي. هذا دعا صحيفة فلسطين إلى القول في عددها الصادر بتاريخ 01/07/1943: إن الشيخ مثقال استخدم الأموال التي منحه إياها «هارون اليهودي» لإقناع شيوخ عشائر أخرى بحضور مؤتمر كان يحاول إعداده، ومن ثم عمد إلى تشكيل حزب التضامن الأردني الذي دعا علانية إلى استيطان صهيوني في شرق الأردن، وهو وارد في وثائق المنظمة الصهيونية العالمية في رسالة من مثقال إلى أرلوزوروف بتاريخ 12 حزيران 1933، وفي عدد صحيفة «الدستور» الصادر بتاريخ 8 أيار 1976 نقلاً عن «سعيد المفتي يتذكر».
الوكالة اليهودية من جانبها أقامت حفل استقبال في فندق الملك داود بالقدس المحتلة للشيخ مثقال وأتباعه في نيسان 1933، حيث التقى وجهاء العشيرة بحاييم وايزمان وغيره من قادة الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية. أما الشيخ مثقال فقد أرسل برقية تعزية إلى أرملة حاييم أرلوزوروف الذي قتل في ظروف لا تزال غامضة إلى اليوم.
ختاماً، نؤكد مجدداً أن من الغلط واللامسؤولية تعميم تصرفات أولئك الزعماء العشائريين على الشعب الأردني بمختلف مكوناته المجتمعية، لكن السكوت عنها غلط ووجب فضح هذه التواريخ غير المشرفة، فقط لاستخلاص الدروس.
نحن نعلم أن في الأردن قوى وطنية قومية شريفة، وأن شعبها عربي الروح والنفس، لكنها ضعيفة وتأثيرها في المجتمع شبه معدوم. هذه حقيقة، ويجب ألا يصاب البعض بتحسس من مواجهة الواقع. طبيعة المجتمع الأردني العشيرية لم تسمح، إلى الآن، بتبلور حركة وطنية قومية وجب دراسة أسبابها علمياً بعيداً من الحساسيات. وهنا نشدد على أن المجتمع الأردني ليس استثناءً بكل أسف، حيث نرى تشظي العراق وليبيا واليمن على سبيل المثال إلى قبائل وعشائر والتراجع إلى مكونات ما قبل الدولة الوطنية. كما أن التحريض المستمر على الفلسطينيين في الأردن يزيد من هكذا حساسية، ولا يخدم سوى العدو الصهيوني. لذلك فإن المنطلق السليم لأي نشاط وطني قومي في الأردن يكمن في اتحاده انصهارياً مع النضال الفلسطيني في حركة وطنية واحدة، وليكن اسمها ما يكون، لا تميز الأردني من الفلسطيني ولا الفلسطيني من الأردني من أجل تقوية نضالنا التحرري. فالتاريخ الطويل من اللحمة بين الطرفين، مهما كانت الطريقة التي أتت بها، لا يمكن تجاهله، والتخوف لدى بعض الأردنيين، شديدي الحساسية من الفلسطينيين، لا يكمن حله في صب الزيت على النار كما يفعل النظام الأردني حالياً ويتشارك مع جماعة المقاطعة في رام الله في مؤامرة محاولة تصفية القضية الفلسطينية، عبر ما صار يعرف بـ«أردنة الفلسطينيين».
إن منح الفلسطينيين حاملي التبعية الأردنية حقوقهم المدنية كاملة من دون أي نقصان يجب أن يصب في خانة توحد نضال الشعبين وانصهارهما في بوتقة واحدة تكون مثالاً وأنموذجاً للعرب أجمعين، من أجل الحرية الحقيقية وإقامة نظام تعددي، وأولاً وقبل كل شيء القضاء على الدولة الصهيونية في فلسطين المحتلة وإقامة الدولة العلمانية على ضفتي نهر الأردن. فكما أن الأردن جزء لا يتجزأ من فلسطين، ففلسطين أيضاً جزء لا يتجزأ من الأردن، وهذا يسري على كل دول وطننا العربي وشعوبه. وشعارنا: فلسطين أولاً وأخيراً، يعني أيضاً أن كل بلد عربي أولاً وأخيراً، في ظل أنظمة ديموقراطية تعددية علمانية.
* كاتب عربي