«لم تعد مقاطعة كاتانغا هي ما يهدّد وحدة الكونغو، لقد أصبح الكونغو بأكمله بمثابة كاتانغا لافريقيا»تعليق بن بلّا على صعود نظام تشومبي، الموالي للغرب، في الكونغو («قِبلة الثورة»، ص.253)

حين بدأ تنفيذ اتفاقات افيان وحصلت الجزائر على استقلالها، كان المجتمع الجزائري مدمّراً بالكامل بعد سبع سنواتٍ من «الحرب الشاملة». عدا عن الشهداء والجرحى، كان مليون جزائري على الأقل هجّروا خارج البلاد وأصبحوا لاجئين في معسكراتٍ في المغرب وتونس، ومليونان اقتلعوا من أرضهم وأُسكنهم الجيش الفرنسي في «مناطق تجميع»، القليل منها كان عبارةً عن «قرىً نموذجية»، يعيش فيها الفلاحون الجزائريون تحت الرقابة المستمرّة للإدارة الفرنسية، ومعظمها معسكرات اعتقال كاملة الأوصاف، مع أسيجة حديدية وأبراج مراقبة. دمّر الفرنسيون أكثر من ثمانية آلاف قرية، وسياسة «الأرض المحروقة» دمّرت بالكامل مناطق النزاع وجعلت الكثير من القرى الخصبة غير قابلةٍ للحياة والزراعة. بمعنى آخر، كما يقول جيفري بايرن في كتابه، فإنّ أكثر من ثلث الشعب الجزائري كان قد خسر خلال الحرب حياته السابقة، ولم يعد له «مجتمعٌ محليّ» يعود اليه.
من دون الدّخول في تفاصيل حرب التحرير، يمكن أن نختصر ونقول إنّ ما نَصَر الجزائريين على فرنسا لم يكن الضغط العسكري وحده بل، أساساً، القدرة اللامحدودة للشعب الجزائري على التضحية الجماعية. كان من المستحيل لجيش التحرير أن يهزم، عسكرياً، الجيش الفرنسي في الجزائر: نصف مليون جندي وضابط، لا يختزنون خبرات الحرب العالمية الثانية فحسب، بل هم قد أتوا للتو من حروب فرنسا في الهند الصينيّة، وتعلّموا دروساً في «مكافحة التمرّد» والعنف الجماعي أرادوا تطبيقها في مستعمرتهم الأهمّ. جيش التحرير، في قمّة تجهيزه، لم يتجاوز عديده الثلاثين ألفاً، أكثرهم في معسكراتٍ خارج الحدود (تحت إدارة الهواري بومدين، الذي أُعطي قيادة مركزي العمليات، في تونس والمغرب، بعد أن أثبت قدرةً تنظيمية استثنائية بين أقرانه) ولا يقدرون على التواصل مع المجاهدين المطاردين في الدّاخل. قسّم الجيش الفرنسي أرض الجزائر الى «مربّعات»، حتى يكون كلّ مكانٍ فيها تحت السيطرة، واستخدمت فرنسا كلّ قدراتها العسكرية والدبلوماسية في الحرب، وأحدث التقنيات العسكرية (من نقل القوات الخاصة عبر الحوامات الى استخدام النابالم لحرق القرى والأراضي). بحلول بداية الستينيات، مثلاً، كان من «التسعة المؤسسين» لجبهة التحرير عضوٌ واحد فقط (هو محمد بوضياف) لم يستشهد أو يقع في الأسر.
فهمت قيادة الجبهة الوطنية، باكراً، القاعدة الذهبية في أنّ العمل العسكري هو الأساس، وأنّه لا معنى لمفاوضاتٍ وحملاتٍ دبلوماسية إن لم تقترن بضغطٍ عسكريّ متواصل، وتحويل البلد الى ساحة حربٍ لا تهداً، والّا فإنّ نضال الجزائريين لن يصل الى مكان (كلّ دعم الرأي العام الدولي ودول الجنوب، والمثقفين والفلاسفة، لن يقنع فرنسا بالتخلّي عن اقليمٍ تعتبره جزءاً من أرضها). غير أنّ ما أفهم الفرنسيين استحالة البقاء في الجزائر كان الثبات الأسطوري لغالبية الشعب التي تماهت مع حرب التحرير. تضغط عليهم فرنسا وترسل عليهم الحملات، فيظلّون مؤيّدين للجبهة؛ تدمّر قراهم وتهجّرهم، فيزدادون اصراراً؛ تطردهم الى خارج البلاد، فينتظمون في مخيمات لجوء ويتحضّرون للقتال والعودة. بل، بحسب بايرن، فإنّ تدمير المجتمع الجزائري قد حسم الأمر، فالملايين الذين اقتلعوا خلال الحرب قد تمّ «إعادة دمجهم» وبناء وعيهم وهويتهم عبر عقيدة حرب التحرير والثورة، وأصبحوا خارج النظام الفرنسي بالكامل. حتّى في المناطق التي لم يكن جيش التحرير يقدر على الوصول اليها، يكتب بايرن، حتى في مخيمات التجميع والصحراء والبلدات المعزولة، كانت أخبار حرب الاستقلال تصل الى الجزائريين عبر الراديو (وقد بنى جيش التحرير شبكةً من أعمدة الإرسال تزنّر الجزائر من خارجها، حتى يصل البث الى كلّ مكان فيها) وتجعل الملايين يشعرون بأنهم جزءٌ من وطن وصراع، تصلهم أخباره في الميدان ويتابعون انتصاراته الدبلوماسية واعتراف دول العالم به.
عرف ديغول أنّ زمن فرنسا قد انتهى في الجزائر في ديسمبر 1960، حين خرجت جموع الجزائريين من أحيائهم الفقيرة في مختلف المدن «الفرنسية»، وأغرقوا ساحاتها هاتفين باسم جبهة التحرير، واصطدموا بشكلٍ دموي مع «الأقدام السود» والجيش الفرنسي. حين يصبح أهل المدن والريف ضدّك، بعد خمس سنواتٍ من الحرب المستمرّة، فهذا يعني أنّك لن تقدر على كسبهم يوماً ولا على إخضاعهم، ومن المستحيل أن تحكم تسعة ملايين جزائري عبر الحرب الى الأبد. فرنسا تعبت من القتال وديغول يريد بناء علاقات جيدة مع العالم العربي، وهذا مستحيلٌ من دون حل مشكلة الجزائر (في كتاب بايرن، يبدو أن البلد العربي الوحيد الذي كان يصوّت ضد قضية الجزائر في الأمم المتحدة كان لبنان). ثمّ أنّ تصلّب وعنصريّة الأقدام السّود كانت تمنع ديغول من الترويج لأيّ حلٍّ يقوم على التصالح والتعايش؛ بل وصل الأمر الى درجة أن حاول «الأقدام السود»، بالتعاون مع ضباط فرنسيين، الانقلاب عليه؛ وأمسكوا إدارة الجزائر بالقوة، وأطلقوا تهديدهم الشهير بإنزال مظليين على باريس لاحتلالها. يكفي، حتى نوضح مقدار صمود الجزائريين أن نشرح أنّه، خلال المفاوضات الطويلة، كان الجزائريون هم «الطرف البارد» فيما ديغول يستعجل لحلّ مشكلة الجزائر وعقد اتّفاق سلام. كما يروي بايرن، كان الجزائريون يتفاوضون وكأن الحرب تجري لصالحهم، فيستخدمون أسلوب «العناد المطلق» في كلّ نقطةٍ خلافيّة، أو يعلّقون المحادثات ببساطة حتى يستسلم ديغول، الذي انتهى الى التراجع عن كلّ مطالبه تقريباً (ومع ذلك، رفض الجزائريون، بعد الاستقلال، تنفيذ العديد من مواد افيان التي اعتبروها مجحفة).

أن تبني «دولةً سيّدة»
في ثنايا سرد جيفري بايرن نجد أطروحة محدّدة تستحقّ أن نركّز عليها (قد يكون التعريب الصحيح لاسم المؤلّف هو «بِيرن» وليس بايرن، لست متأكّداً، ولكن هذا لا يهمّ. أكثر الأكاديمين الغربيين، خاصة في اميركا، لا يتقنون العربيّة وإنّ زعموا ذلك، وصاحب العلاقة لن يعرف بوجود هذا المقال). يشرح المؤلّف كيف أن فترة «التحرير الوطني»، وحرب الجزائر في قلبها، قد أفضت الى تقديس «الدّولة المستقلّة السيّدة»، التي أصبحت «المطلب المعياري» لكل حركات الاستقلال، والتعبير الوحيد والنهائي لحرية شعبٍ ما واستقلاله الوطني.
يجب أن نتذكّر أن خريطة العالم بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة كانت تختلف بالكامل عن ما نراه الآن (حيث سطح الكرة الأرضية تغطّيه، بأكمله، دولٌ متشابهة بالمعنى المؤسسي، مبنية على نسق الدولة الاوروبية، وتتوافق حدود أكثرها مع حدود المستعمرات السابقة). ولم يكن تطوّر الأمور كما جرى إجبارياً أو محتماً: أجزاء كبيرة من افريقيا وآسيا لم تكن تضمّ دولاً مستقلّة، أو لم يكن فيها يومٌ أقطارٌ محليّة على النمط الاوروبي «الحديث». كان للعديد من السلطات السياسية القائمة في الهند وشرق آسيا والشرق الأوسط طبائع امبراطورية أو تقليدية أو لامركزية لا تشبه الأقطار «الحديثة» التي نشأت مكانها.
كان لهذا التطوّر أسباب مختلفة، من بينها التجربة: أن تكون لك دولةٌ وعلمٌ وحكومة، أن يصبح لك مقعد في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وباندونغ، هذا الشكل من الكيانية السياسية يعني أنّك أصبحت «مستقلاً» واعترف العالم بك، فأصبحت حركات التحرر تسعى الى هذا «الهدف النهائي». من جهةٍ أخرى، بالنسبة الى المناضلين ضد الاستعمار، كانت «السيادة الكاملة» و«الاستقلال الكامل» وإنشاء دولة جديدة هو الضامن الوحيد لمنع استمرار الاستعمار الاوروبي بأشكالٍ أخرى. بين الأربعينيات واوائل الخمسينيات، حاولت فرنسا وبريطانيا طرح عدّة صيغٍ لربط المستعمرات السابقة بها، سواء عبر نظامٍ يشبه الانتداب (حيث يكون «حكمٌ ذاتي» لأهل البلاد فيما العلاقات الخارجية والاقتصاد في يد السلطة الاستعمارية) أو خطّة ديغول لانشاء «جمعية فرانكوفونية» للمستعمرات السابقة. خوفاً من استقلالٍ منقوص، اعتبرت حركات التحرّر أن رفض هذه الخطط يكون عبر المطالبة بالاستقلال الناجز وانشاء دولةٍ «سيّدة»، توازي السلطة الامبراطورية في الشكل والقانون. دينامية الحرب الباردة ساعدت ايضاً، فأميركا والاتحاد السوفياتي كانا يريدان تصفية التركة الاستعمارية الاوروبية، وتحويل الامبراطوريات السابقة الى شبكة دولٍ مستقلّة صغيرة كانت وسيلةً مناسبة لإعادة تشكيل العالم على أسسٍ جديدة وخوض المنافسة عليه.
أخيراً، مع تصاعد الحروب ضد الاستعمار في افريقيا وآسيا، متوازياً مع النجاح الاقتصادي في اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية (وظهور الطبقة الوسطى الموسّعة ومجتمع الاستهلاك)، حصل انزياحٌ في نظرة الجمهور الاوروبي الى مستعمراته القديمة: بدلاً من الحجج التقليدية عن «تحضير» الدول المتخلفة وإدارتها بدلاً عن أهلها، خرجت سردية جديدة بين الاوروبيين تقسم العالم الى جزءٍ اوروبي «متقدّم» وثري بطبيعته، وجزءٍ اسمه «العالم الثالث»، فقيرٌ ومسكين ومتخلّف بطبيعته، ولا سبب لاوروبا أن تكون هناك. كان لهذه النظرة أثرٌ كبير في استقلال الجزائر ونفور الجمهور الفرنسي من الحرب هناك. «الأقدام السود» والمتطرفون فقط (على نمط جان ماري لوبان) يصدّقون خرافة أن الجزائر جزءٌ من الأرض الفرنسيّة، وهم لا يريدون أن يصبح الجزائريون «العالمثالثيون» في فرنسا، ويجتاحوا يوماً شوارع باريس كما فعلوا في الجزائر ووهران.

«سجن الاستقلال»
مهما يكن، فإنّ هذا التطوّر، يحاجج بايرن، شكّل مفارقةً كبرى. أن تتحوّل كل مستعمرة الى «دولة»، لها حدودٌ صلبة وسيادة مقدّسة ومصالح خاصّة بها، كان معناه أنّ عملية «نزع الاستعمار» قد أعادت سجن هذه السعوب في نظامٍ لا يقلّ صلابةً وانغلاقاً عن النظام الاستعماري القديم. حين تحصل على استقلالك وتصبح لك حكومة، فأنت لا تعود حركة «عالمية» مناضلة، بل يصبح واجباً عليك أن تعمل وفق «منطق الدولة»، وأن تصون مصالحها ووحدة أرضها، وعليك واجبات دبلوماسية وأعراف. هذا ما اصطدمت به الجزائر مباشرةً بعد الاستقلال، في «حرب الرمال» مثلاً مع المغرب، حيث وجدت «حركة عالمثالثية» نفسها مضطرة الى دخول نزاع حدودي والقتال وفق «عقلانية الدولة» لإثبات سيادتها على الأرض (بصرف النظر عمّا إن كان أهل تندوف ينظرون الى أنفسهم كجزائريين أو مغاربة).
اعترى هذا التوتّر نشاط «العالم الثالث» على كلّ المستويات. «جبهة التحرير» ترى أن واجبها، كحركة تحرر وطني، أن تدعم معارضة المهدي بن بركة في المغرب واليوسفيين في تونس، ولكنها مجبرةً على إقامة علاقات سياسية وتجارية مع حكومات المغرب وتونس، والتعامل معها على مستوى المنظمات الافريقية والدولية، والاعتراف بسيادتها وشرعيتها. بل إنّ منظمات دول الجنوب التي قامت بأهداف تغيير النظام العالمي وتحدي الاستعمار، كمنظمة الوحدة الأفريقية، قد كرّست الحدود القائمة بين أعضائها بشكلٍ نهائي، ومنعت إعادة النظر بها. بل أصبح من واجب الدول الافريقية المستقلة ان تصون حدود و«وحدة» الدول الباقية بصرف النظر عن شكل نظامها. كما أنّ الدول الجديدة، حتى الثورية منها، أصبحت تخاف من أي معارضةٍ، أو تعبيرٍ اقليمي أو اثني داخل حدودها (نموذج اقليم كاتانغا، حيث شجّع البلجيكيون والاميركيون ثورة انفصالية في اقليمٍ غني بالمعادن، انتهى الى قتل لومومبا وقلب النظام، ظلّ ماثلاً في أذهان القادة الأفارقة)؛ وهذا ما تبدّى في تعامل النظام الجزائري مع تمرد منطقة القبائل، أو مالي مع الطوارق، أو النيجر مع حزب «سوابا» الجذري. قبيل قمّة أديس ابابا، عام 1962، كتب زعيم حزب سوابا، من منفاه في الجزائر، ليشتكي من تحول «الوحدة الافريقية الى ما يشبه نقابة تجارية لرجالٍ في السلطة، يدعمون بعضهم بعضاً لمقاومة التيارات الشعبية» (ص. 193).
يضيف بايرن هنا ملاحظة ذكيّة، وهي أنّ الحدود «المصطنعة» في افريقيا وباقي دول الجنوب قد اكتست صفةً مقدّسة وتم الدفاع عنها بعصبية وعنف تحديداً لأنّها مصطنعة وغير مبرّرة. انت لا تحتاج الى التوتّر والعدائية حين يكون بينك وبين جيرانك حدودٌ «طبيعية»، أو هي تفصل بوضوحٍ بين شعبين وثقافتين، ولكن الحدود التي شهدت حروباً وظلّت مغلقة وانقطعت في عهد الدول «الحديثة» (كما بين العراق وسوريا، أو الهند وباكستان، او الجزائر والمغرب) كانت تحديداً تلك الأكثر تداخلاً وأكثرها «اصطناعية». من هنا، يلحظ بايرن، لم تتغير الخريطة الافريقية تقريباً منذ عهد الاستقلال، حتى وإن كانت هذه الحدود (والدول خلفها) لا قيمة فعليةً لها. وآخر تغيير شهدناه في الحدود السياسية في القارّة كان (على عكس سياق الستينيات تماماً) فعلاً استعمارياً هو انفصال جنوب السودان.
يبدأ بايرن كتابه ويختمه بمشهد الانقلاب في الجزائر عام 1965 واعتقال بن بلّا من قبل جناح بومدين، قبل اسبوعٍ من انطلاق قمّة «باندونغ ــ 2» وتكريس الجزائر «بلداً رائداً» في حركة العالم الثالث. الانقلاب، الذي أدّى الى تأجيل المؤتمر ومن ثمّ تجميده وإلغائه، كان تكثيفاً لهذا التناقض بين دينامية عالمثالثية، ترى نفسها كونيّة، وبين أزماتٍ داخلية تتفاقم، وسياقٍ دوليّ يمنع صعود «معسكرٍ ثالث». قاد فريق بومدين الانقلاب في هذا التوقيت تحديداً لأنه فهم بأنّ حصول المؤتمر سيجعل بن بلّا زعيماً منيعاً تصعب إزاحته، كما أن الخلاف الصيني ـــ السوفياتي، وتبدّي مرحلة جديدة في الحرب الباردة هي عصر «التهدئة» والتوافق بين القوتين العظميين، كانا يهددان بنسف المؤتمر وتفريغه من مضمونه وإن عُقد.
نظام الدول الجديد الذي استقر بعد عملية «نزع الاستعمار» قد منع، بطبيعته، طموحاتٍ من نمط الوحدة العربية أو التكتل الافريقي، وظلّ للدول «الثورية» التنمية وحدها، ورفع مستوى حياة السكان، ميداناً لاثبات الشرعيّة. ولكنّ حتّى هنا، هل تقدر هذه الدّول، ضمن حدودها الاستعمارية القديمة، أن تنجز مشروع تنمية حقيقي وتنشئ سوقاً وطنية وتصنيعا (كما صممت أكثر دول العالم الثالث في مرحلة الستينيات)؟ هذا السؤال أجاب عليه سمير أمين منذ عقود، في دراسته عن غرب افريقيا، حين حكم بأنّه من المستحيل على هذه الدول الصغيرة، والمرتبطة بالمتروبول أن «تستقلّ» فعلياً من دون تشكيل تكتّلاتٍ اقليميّة وتحقيق التشابك والتكامل (الجزائر مثلاً كانت تصدّر منتجين أساسيين: الغاز والنفط الذي تستخرجه الشركات الفرنسية، والنبيذ الذي تشتريه صناعة النبيذ الفرنسية، وهو لا سوق له في الجزائر أصلاً، والفرنسيون وحدهم يملكون قنوات تسويقه؛ فكان في وسع فرنسا تقرير مصير الريف الجزائري حين تعلن، كل سنة، عن كمية النبيذ الذي ستشتريه). للتوضيح، أذكر نقاشاً شهدته منذ فترة عن أداء الدفاع الجوي الليبي في المواجهات مع الطيران الأميركي خلال الثمانينيات، وقد اعتبر البعض أنّ فشل الليبيين في التصدّي هو دليلٌ على عجز وفشل. المشكلة هنا هي في منطق القياس: ما هي، تحديداً، القدرة التقنية أو الصناعة العسكرية التي تتوقّع من بلدٍ صغير، كان أكثر أهله ريفيين غير متعلّمين، أن يحوزها خلال عشرين عاماً؟ وهذه المعادلة ذاتها تنطبق على التنمية والتصنيع وباقي مهام «الدول» الحقيقية.

خاتمة
شهدت مرحلة «العالم الثالث» انحدارها وخفوتها خلال السبعينيات، بعد خفض التوتّر بين الاتحاد السوفياتي واميركا. المسألة ليست فقط في أن دولاً مثل الجزائر خسرت هامش مناورةٍ كان لها، كأن تستفيد من منحٍ فرنسية وروسية واميركية وصينية في آن، ومن التنافس بين هذه القوى. استقرار «النظام العالمي»، كما يبيّن بايرن، جعل المؤسسات الغربية مثل صندوق النقد والبنك الدولي المؤسسات الشرعية الوحيدة في العالم، وقد اكتست بعد السبعينيات طابعاً نيوليبرالياً شرساً، سعى الى تفكيك أيّ بادرة اشتراكية أو استقلالية في الجنوب العالمي (ومن بينها الجزائر في الثمانينيات).
ولكن، بعد هذه الدورة التاريخية، تبقى الأسس التي قامت عليها هذه الحركات، وهذه لا تتعلّق بالايديولوجيا. أوّلها هو الدّرس الذي شرحه الجنرال جياب، في فييتنام، لضيوفه الجزائريين في بداية حرب التحرير. الفلّاح الجزائري، قال جياب، لن يقاتل لأنّه يريد وطناً وعلماً، بل أساساً لأنه مضطهدٌ وفقير، وهو يريد عالماً أفضل له وأكثر عدالة، وأرضاً ورفاهاً وتعليماً. لهذا السّبب، فإنّ الأساس هو في المشروع الاجتماعي، وأي حركة مقاومة لا تملك مشروعاً اجتماعياً واضحاً وجذرياً ستظلّ معرّضةً وفي حالة وهن.
الدّرس الثاني هو في طبيعة التحالفات، وأنّ افريقيا وشعوب الجنوب هي حليفك الطبيعي في نهاية الأمر، وأنه لا يجب أن نرضخ لسرديّة «افريقيا الفاشلة» أو «العالم الثالث الميؤوس منه» التي راجت في القرن الماضي (من أملك وحليفك في المستقبل في هذا العالم، اذاً؟ بلجيكا؟). اسوأ من ذلك أن يقوم عربٌ بالاستخفاف بالأفارقة والسخرية من فقرهم، من دون أن يفهموا أنّ البؤس الحالي هو نتاج هزائم وحروب و«حرب ساخنة» قامت لعقودٍ، بلا هوادةٍ، لقمع القارّة وجعلها كما هي اليوم. لو درست تاريخ افريقيا، فإنّ أهلها قد جرّبوا كلّ شيء، ثاروا وتنظّموا وقاتلوا وحاولوا انشاء أنظمةٍ وطنيّة، وما هم فيه اليوم ليس قدراً (اللبنانيّون في افريقيا، تحديداً، يلعبون دوراً سيئاً في هذا المجال، وأعمالهم وثرواتهم تقوم على فتات المائدة الاستعمارية في القارّة المنهكة). نحن، في الجنوب العالمي، خسرنا «استقلالنا» حين خسرنا الكونغو وانغولا وظُفار واليمن (وأخيرا ليبيا والسودان)، ولن يتغيّر «النظام العالمي»، طال الزمن أو قصر، حتّى نستعيدها.