«(لو هزم جيش التحرير عسكرياً) لن يكون هناك أي داعٍ لسياسة أشمل، أو لتضييع الوقت في القنصليات والمناسبات الدولية. سيكون كلّ شيءٍ قد ضاع، ضاع الى غير رجعة. ستصبح الجزائر فلسطين جديدة»فرحات عبّاس، مقتبس في كتاب جيفري بايرن «قِبلة الثورة»، ص.51

توطئة
حين أعلنت جبهة التحرير الجزائرية، عبر «صوت العرب» من القاهرة، عن نفسها في الأول من نوفمبر عام 1954 وأطلقت الثورة ضد الاحتلال الفرنسي، مطالبةً بالاستقلال التام للجزائر، فإنّ الحدث كان يمثّل جرأةً ورهاناً على أكثر من مستوى. من جهةٍ، فإنّ الذين كانوا خلف مذياع الراديو، في القاهرة يعلنون بثقةٍ القطع مع كلّ الحركات السياسيّة والأحزاب القائمة في المجتمع المسلم في الجزائر، ومع السّلطة الدينيّة والزعامات التقليديّة، مشددين على أنّ الشعب الجزائري بأكمله سينضوي في هيكلية الثورة وحدها، لم يكونوا أكثر من مجموعة أفرادٍ بلا سلطةٍ فعليّة أو خطّة متكاملة للتحرير، أو حتّى خطّ ايديولوجي واحد. كما يشرح جيفري بايرن في كتابه عن الجزائر («قِبلة الثورة: الجزائر، نزع الاستعمار، ومنظومة العالم الثالث»، منشورات اوكسفورد 2016)، كان ما يجمع القادة الأوائل في «الجبهة» ايمانهم بأهميّة «العمل المباشر» والنضال العسكري فوراً؛ بعضهم كان قد نفر من أحزابٍ وحركات محليّة مثل حزب مصالي الحاج (والثلاثة الذين أسسوا «الجناح الخارجي» في القاهرة كانوا قد فرّوا من الجزائر بعد محاولة ـــ قصيرة وفاشلة ـــ لانشاء تنظيم عسكري سرّي تحت مظلّة حزب الحاج، الذي كانت تلوكه الانقسامات)، وبعضهم الآخر تبع طريقاً يشبه نخباً أخرى كثيرة في العالم الثالث يومها صوب الوعي السياسي والجذريّة ـــ بن بلّا، مثلاً، كالعديد من المجاهدين في حرب التحرير، كان في بداية شبابه يقاتل في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالميّة الثانيّة، وقد شارك في معركة «جبل كاسينو» في ايطاليا وحاز على وسامٍ من شارل ديغول لأدائه هناك.
كان في وسع هؤلاء الثوريّين في المنفى، يقول بايرن، أن يعتمدوا على عددٍ قليلٍ من الناشطين في المدن الجزائريّة وعلى آلافٍ قليلة من المقاتلين الذين ينتشرون في منطقة القبائل الوعرة، وهم لا يملكون تسليحاً يذكر أو تنظيماً من أيّ نوع. نواة «المجاهدين» في حرب التحرير جاءت، مثل القيادة السياسية، من مشارب مختلفة: فلّاحون ثائرون هربوا الى الجبال، قبائل وبلدات ثارت على الفرنسيين، أو حتى مطلوبين بجناياتٍ فضّلوا الاختفاء عن السلطات بين المتمرّدين (بلقاسم كريم، أحد «التسعة المؤسسين» للجبهة، وأحد أبرز وجوه حرب الاستقلال، كان محارباً قديماً في الجيش الفرنسي مثل بن بلّا، فرّ الى جبال اقليم القبائل في الأصل، بحسب بايرن، لاتهامه بجريمة قتل عام 1947).
من جهةٍ أخرى فإنّه، يوم إذاعة البيان، كان يصعب على أيّ مسلمٍ في الجزائر مجرّد تخيّل فكرة «جزائر مستقلّة» عن فرنسا، لشدّة الارتباط بين الجزائر وباريس بعد أكثر من قرنٍ على الاستعمار، وتداخل كلّ شيءٍ في الجزائر بالمركز الفرنسي والادارة الاستعمارية «البيضاء» وأنظمتها. هنا، لا يجب أن نقلّل من المقاومة التاريخيّة التي أبداها الجزائريون ضدّ الغزو، والحرب الطويلة التي خاضها الفرنسيون لإخضاع المجتمع (بثمن تدميره). المقاومة لم تقتصر على حركة الأمير عبد القادر الشهيرة، بل إنّ النّخب العثمانيّة وحلفائها في الجزائر ظلّوا يقاومون بشراسةٍ لعقود. يكتب بايرن، مثلاً، أن مدينة قسنطينة بقيت منيعة على الفرنسيين لما يقارب العشرة أعوامٍ بعد هزيمة ثورة الأمير عبد القادر، وشنّ البربر في اقليم القبائل ثورةً ضخمةً بعد ذك بسنوات، ولم تخرج الجزائر من تصنيفها كـ«منطقة عسكرية» حتى سنة 1870، أي بعد أربعين عاماً على الغزو، وبدء توافد المستوطنين الأوروبيين بأعدادٍ كبيرة، ما سمح بإتمام «التشكيل الاستعماري» للبلد عبر مجتمع المستوطنين والادارة المدنية، بدلاً من الجيش والقوة العسكرية.
صورة الجزائر في ثلاثينيات القرن العشرين كانت تسمح للكثير من المستوطنين بأن يقنعوا أنفسهم بأنهم يعيشون في اقليم من أقاليم فرنسا وليس في ساحل شمال افريقيا. المدن اوروبية بالكامل تقريباً، وهي تتوسّع مع توسّع الاقتصاد وأعداد الاوروبيين في الجزائر، والاداريين والموظفين الفرنسيين الذين يقدمون لهم الخدمات. في الرّيف، أصبحت الملكيات الزراعيّة كبيرة وممتدّة وفي يد مجموعة صغيرة من الملاكين الفرنسيين، وهي عمليّة لم تؤدّ الى اقتلاع الكثير من الفلاحين الجزائريين فحسب، ودفعهم الى المدن الساحلية ليصبحوا يداً عاملة فيها، بل هي ايضاً أنهت ظاهرة الفلاحين «الصغار» الاوروبيين، ودفعتهم ايضاً الى النزوح للمدن (وتبيّن فيما بعد، خلال حرب الاستقلال، أنّ خسارة هذه الطبقة من المزارعين التي كانت تنتشر في عمق الريف قد حرمت فرنسا من «عيونها» في الداخل الجزائري، بتعبير بايرن، وجعلت المجتمع المسلم «كلّا» منغلقاً في وجه الدولة الاستعمارية وغريباً عليها، لا تقدر السلطات الاوروبية بسهولةٍ على «قراءته» وتطويعه).
لأنّ السرديّة الشعبية عن تحرير الجزائر، كما تلقيناها في المشرق، هي سرديّة تضامن تبسيطيّة و«سهلة» (استعمار ثمّ ثورة فتحرير واستقلال، وبين هذه المراحل مليون شهيد)، فإنّ وعي السياق المعقّد الذي خرجت فيه «جبهة التحرير» هو أساسيّ؛ وذلك ليس فقط حتى نفهم صعوبة ما أنجزه الثوّار، الذين لم يكن أحد (وأولهم الفرنسيون) يتخيّل أن يوصلوا الجزائر الى الاستقلال بعد أقلّ من عشر سنواتٍ على إذاعة بيانهم الشهير، بل ايضاً لكي نعي أنّ «استقلال الجزائر» لم يكن نتيجة «طبيعيّة» أو محتومة لمسار التاريخ كما قد يبدو لنا الأمر من زاوية الحاضر، بل كانت هناك احتمالاتٌ كثيرة تواجه بلداً مثل الجزائر، من صيغة المحمية الفرنسية الى «الحكم الذاتي» مع بقاء هيمنة الاوروبيين على البلد وصولاً الى صيغٍ أخرى، وأنّ «الجمهورية الجزائرية» ـــ مثل أكثر الدّول التي خرجت من الاستعمار في العالم الثالث في تلك الحقبة ـــ لم تكن بلداً وكياناً سياسياً تاريخياً حتى يتمّ «بعثه» أو «تحريره»، بل كانت نتيجة نضالٍ محلي وسياقٍ عالميّ و«منهجيات تحرّر» تمّ استيرادها وتطبيقها في الساحة الجزائرية.

الأفكار والتحرير
يدرس كتاب بايرن، أساساً، العلاقة بين الحركة الوطنية في الجزائر وبين حركة «العالم الثالث» على المستوى الدولي والتأثير المتبادل بينهما، وهو يركّز فعلياً على مرحلة عشر سنوات (بين 1954 و1965) تتضمّن حرب التحرير والسنوات الأولى لاستقلال الجزائر. ولكن، كما يشير بايرن، فإنّ العلاقة بين تيارات جديدة تصعد في الجنوب العالمي وبين النشاط السياسي في الجزائر قد ابتدأ قبل مؤتمر باندونغ وصعود حركات التحرر الوطني وتفكيك المنظومة الاستعماريّة. نشوء الوعي السياسي بين المسلمين الجزائريين قد ارتبط، منذ بدايات القرن العشرين، بأفكارٍ ومذاهب «خارجيّة» تأثّر بها جيلٌ جديد من الجزائريين. هذا ينطبق على حركات العلماء والسلفية المعادية لفرنسا مثلما ينطبق على الأفكار اليسارية التي بدأت تتسرّب من أحزاب اوروبية (كالحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي الجزائري ـــ الذي كان يهيمن عليه «الأقدام السود»، أي المستوطنون الأوروبيون في الجزائر). يروي بايرن، مثلاً، أنّ مصالي الحاج (الذي جاء من تجربةٍ مخيبة في صفوف اليسار الفرنسي) قد تأثّر بشكلٍ هائل بلقائه مع شكيب أرسلان في سويسرا، حيث أقنعه أرسلان بأنّه من غير المنطقي أن يتماهى مع الشيوعيّة ويتجاهل التراث المحلي واللغة العربية والدين الاسلامي، التي تمثّل ـــ كما شرح لصديقه الجزائري ـــ معيناً للمقاومة لا غنى عنه في بلدٍ مستعمَر (فعاد الحاج الى الجزائر بشكلٍ جديد، ليتوجه الى الفلاحين والفقراء الجزائريين ويرتدي ثياباً تقليدية جعلته أشبه بالزعيم الصوفي). هذا التلاقح المبكر لم يقتصر على الجزائر بالطبع؛ هو شي منه ـــ مثلاً ـــ اختبر عمليّة تحوّلٍ فكريّ وهو في باريس، مباشرةً بعد طرده من مؤتمر السلام، وهو يقرأ نص لينين «اطروحة عن المسائل القومية والاستعمارية» ويجد فيه إجابات عن أسئلة تخصّ الوضع في فييتنام (ص. 27).
غير أنّ الدّافع الأوّل خلف حرب التحرير، بعيداً عن ظهور وعيٍ سياسي جديد ونخبٍ جزائرية تشكك في النظام القائم، كان النظام الفرنسي الاستعماري في حدّ ذاته وعنصرية «الأقدام السود» وعنفهم تجاه الجزائريين أهم الدوافع التي خلقت حرب التحرير وجعلت أكثرية الشعب الجزائري يتماهى معها. المسألة هنا لا تقتصر على الحرمان التاريخي وطرد المسلمين من أكثر الأراضي الخصبة والمدن، وبناء نظامٍ قانوني يميّز ضدّهم، المسألة كانت أنّ فرنسا والمستوطنين يرفضون تحويل الجزائريين الى «مواطنين» فرنسيين متساوين، وهم في الوقت ذاته يتعاملون بعنفٍ شديد (يقارب الذعر) مع أيّ تعبيرٍ عن الهوية الجزائرية. حين اقترح الأمير خالد الهاشمي (وهو كان، بتوصيف بايرن، فرانكوفونيا مندمجا في مجتمع المستوطنين ويعتبر نفسه ابناً مخلصاً لفرنسا) أن يُرسَل وفدٌ لتمثيل الجزائر في مؤتمر باريس (اسوةً بالمستعمرات البريطانية)، شنّ «الأقدام السود» حملةً شرسةً عليه انتهت الى نفيه خارج البلاد. كان المستوطنون واعين الى أنّهم، رغم امتلاك السلطة السياسية، لا يمثّلون سوى «أقلية كبيرة» في الجزائر ككلّ، مليون مقابل تسعة ملايين مسلم، ما جعلهم غير مستعدين للتسامح مع أيّ نشاطٍ أو تنظيم لأهل البلاد. ومع انطلاق الحرب واشتدادها، كان تعنّت «الأقدام السود» وعنفهم الشديد ضد الجزائريين (وصولاً الى تشكيل فرق موتٍ هدفها فحسب قتل المواطنين وتدمير قراهم) من أهمّ اسباب تجذير الصراع ومنع «الحلول الوسطى» التي كانت الحكومة الفرنسية تحاول فرضها من باريس.

حروب الجنوب
حرب الجزائر كانت «كونيّة» بأكثر من معنى. ما أعطى الثوار الأوائل الحافز لإعلان الحرب كان اقتناعهم (وهو ما يبينه بايرن في أكثر من موضع) بأنّهم يشهدون «نافذة فرصة» على المستوى الدولي (مع انتصار الفييتناميين في ديان بيان فو، وبدء المستعمرات بالتحرك، وضعف النظام الكولونيالي الأوروبي) يجب الاستفادة منها فوراً. كما استورد الجزائريون الأفكار وأساليب التنظيم من مشارب مختلفةٍ من حولهم، فهم حاولوا نشر حربهم على المستوى العالمي بقدر الإمكان وبكلّ الوسائل: من المؤسسات «الليبرالية» كالأمم المتحدة والتواصل مع الأميركيين، الى الحركات الصاعدة في كوبا وفييتنام والصين. على عكس ما صوّرهم أعداؤهم يومها، لم يكن الثوار الجزائريون ماركسيين أو حلفاء لموسكو، بل هم جرّبوا كلّ السبل، وفهموا باكراً أهمية اللعب على تناقضات الحرب الباردة، ولم يراهنوا على المعسكر الاشتراكي حتى فهموا حدود الدعم الأميركي لقضيتهم، وأن واشنطن لن تذهب الى حدّ مواجهة باريس ومطالبتها بالجلاء عن ارضٍ تعتبرها فرنسية، فيما كانت صين ماو تسي تونغ مستعدّة لإرسال آلاف الأطنان من السلاح الى معسكرات جيش التحرير (الاتحاد السوفياتي، بالمقابل، لم يعترف بالجبهة وحكومتها المؤقتة حتى وقتٍ متأخر جداً، وتجنّب إرسال الدعم الى الجزائريين مباشرة).
استفادت الثورة الجزائرية من سياق صعود العالم الثالث مثلما استفادت الحركات الناشئة في افريقيا من الثوار الجزائريين. في أواخر الخمسينيات، كان الجزء الأساسي من جيش التحرير أصبح خارج الجزائر، في معسكراتٍ حدودية في تونس والمغرب بعد أن أنشأ الفرنسيون «خطّ موريس» المنيع، ونشروا أكثر من نصف مليون جنديّ في الميدان. ولكنّ وفرة السلاح وتبرّعات الجزائريين في الخارج جعلت الحركة الجزائرية «محظية» بمقاييس دول الجنوب، فبدأت بارسال السلاح الى حركاتٍ حليفة على طول افريقيا وعرضها. يعدّد بايرن أكثر من عشرة ثورات افريقية كانت تحظى بدعم الجزائريين وهم بعد تحت الاستعمار، من مالي الى انغولا وعموم جنوب افريقيا (تدرّب نيلسون مانديلا نفسه، وهو يافع، في معسكرٍ لجيش التحرير في المغرب، وقد لحظت تقارير المدربين الجزائريين، على ما يقول بايرن، بأنّ مانديلا ليس موهوباً في المجال العسكري ولا يصلح للحرب والقتال). بل أنّ فرانز فانون قد كتب نصّه الشهير «المعذبون في الأرض» خلال رحلةٍ استطلاعٍ عسكريّة في مالي، ويقال إن عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان يرافقه، هو من طبع نصّه على الآلة الكاتبة.
جاء انتصار حرب التحرير الجزائرية، بعد سنوات وبثمنٍ هائل، تتويجاً لحركةٍ على مستوى العالم الثالث بأسره، بل كان للثورة الجزائرية دورٌ أساسي في بناء وتعريف معنى «العالم الثالث» في تلك المرحلة الحاسمة بين انهيار نظام الاستعمار الاوروبي واستبداله بمنظومة الحرب الباردة (عام 1960 وحده، مثلاً، حصلت أكثر من 13 دولة افريقية على استقلالها بعد أن كانت افريقيا جنوب الصحراء، بأكملها، لا تحوي سوى حفنةٍ من الدول المستقلة، مثل ليبيريا واثيوبيا). هذا البعد الثاني لأحداث تلك المرحلة، وتأثيره على تشكيل عالمنا اليوم، سيكون موضوع الجزء الثاني من هذا المقال.