فيما ترشحَّ المرشحون بكثافة لا نظير لها ظنّاً منهم أنهم سوف يُنتخبون بظلّ قانونٍ جديد، نسبياً نسبي. وأكّدَ المتأكدون فوزَهم لا محال وانسحبَ المنسحبون... وغابت وجوهٌ معروفة وتناتفَ المتناتفون من أعلى الهرم إلى أدناه... وهرعَ الهارعون وتناغمَ المتناغمون. وتفاضحَ المتفاضحون وامتدحَ الممتدحون وتفاءلَ المتفائلون وانتقد المنتقدون وتباهى المتباهون بإنجازاتهم تارةً الوهمية وطوراً الضئيلة أو الموعودة إلى ما بعد الإنتخابات...
غابت وجوهٌ معروفة وتناتفَ المتناتفون من أعلى الهرم إلى أدناه(هيثم الموسوي)

حثَّ قادةُ شعب الطوائف أتباعهم والناس على تحكيم الضمائر وحسن الاختيار أي اختيارهم هم بالطبع كما يُفهم من صيغة الكلام دون سواهم.
فاستُدعي البعض للتحقيق واعتقل البعض الآخر (لفرك الأذن)، و«اعتُدي» على صور البعض أو أُسكِت، وحصلت بعض السيناريوات والتمثيليات والاستعراضات... على اختلافها.
فعاشَ اللبنانيون في دوَّامة يومية وداروا في حلقةٍ مغلقة ليعودَ أكثرهُم بعد كل هذا العناء لانتخاب زعماء الطوائف الذين طالما حكموا البلاد دون سواهم... أو أبنائهم من بعدهم.
كيف لا، وقد أنعشوها وأثروها وحموها وصانوها من كل حربٍ وفتنةٍ وإفلاسٍ وتجاوزات.
فنهبوها وقدَّموا المبالغ الزهيدة وبطاقات الإعانة وخدمات آنية... ما كان خيراً من «البلاش» الذي يقدّمه الإصلاحيون الجدُد... ممن ثاروا ويثورون على الفساد والامتيازات ويعدون الأجيالَ بغدٍ أفضل.
فارتفعت الأصوات في كلّ دائرةٍ انتخابية محذرةً من محاولات الإلغاء والإقصاء والتهميش. وتقدَّمت أحزابٌ قديمة بطروحها المملّة أشبعت الناس في ما مضى خبزاً ممزوجاً بالدمِ والخيانة والغدر والمجازر وقلّة الوفاء. واصطفّت الجماهيرُ تحيي منقذيها. لكلّ جمهورٍ منقذه وراعيه وهاديه إلى البرّ والصواب. ففقدَ من فقدَ الذاكرة وتناسى من تناسى الوقائع المحفورة في ذاكرةِ الوطن.
وفيما ادعّى كثُر منعَهم وحجبهم عن حرياتهم وظلماً ما وقع عليهم، لم أجدْ فسحةً ولو ضئيلة أعبرُ من خلالها إلى جنون هذا الوطن إلى منبرٍ ولو متواضعٍ أقفُ عليه بعد قضاء قسطٍ من ستين عاماً في هذه الربوع لأقولَ حفنة عبارات.
فبعد القيام بواجبي كاملاً تجاه وطني بما عُرف ولم يُعرف... بما أُخفي أو كُشف عنه... بما وقف وراء نجاحاتٍ عدّة أو صُنِّف كما صُنّف...
سُجنتُ وعُذبتُ ثمَّ أبعدتُ وفي الأخير حوكمتُ بالإعدام... من دون أن يحقّ لي أن أقول كلمة.
فما قلته في السابق من كلامٍ قليل، وبعد صمتٍ دامَ طويلاً لعقود كان بمفهومهم مخالفاً للقانون يستدعي الاعتقال والإسكات والمطاردة والإجراءات القمعية والتهديد والوعيد... بعد كل ما فعلوه بالناس جميعاً... وليس بي شخصياً وحسب.
وعليه أسألُ اليوم وبكلّ بساطة الذين حاكموني من دون الأخذ بالقوانين والتشريعات:
هل تعتقدون حقيقةً أنكم قد ربحتم مقاعد نيابية إضافية جرّاء حكمكم هذا؟
ألا تعلمون أن قطَّاع الطرق الذين يلوِّحون بأيديهم وأصابعهم على شكل مسدسات ويصدرون أحكاماً جائرة بحق المدافعين عن الناس والمجتمع، ولو صبغوا أحكامهم بصباغٍ شرعي، يشبهون تماماً الذين أصدروا حكم الصلب على السيّد المسيح... وأحكام الاضطهاد والقتل بحق الأنبياء والقديسين؟!
وبماذا يختلفون عن هؤلاء؟ إذا نظرنا إليهم بالمنظور القانوني والأخلاقي والإنساني وحتى الديني؟
ألا تعلمون أن إصدارَ حكمٍ خارجٍ عن القانون لا يجوزُ في أي عرفٍ كان ولا في أية دولة تمتلكُ تشريعاً نابعاً من الدستور الذي يلخّصُ أساس قيام الدولة؟
أتظنون أنكم ربحتم حقاً وقد انتقدكم السوادُ الأعظم من اللّبنانيين؟
فسجَّلت هذه القضية أعلى نسبة مشاركة بإبداء الرأي عبر الإعلام منذ قيامة لبنان، ومن خلال وسائل التواصل منذ انطلاقها وانتشارها؟!
ألم تسمعوا أو تقرؤوا آراء الناس؟ أم أنكم لا تأبهون لهؤلاء... لا بالجملة ولا بالمفرّق.
هل تعتقدون حقيقةً أنكم قد ربحتم مقاعد نيابية إضافية جرّاء حكمكم هذا؟


فناخبو نهج البشير وإن لم يعد قائماً أو موجوداً، وولّى زمانه، لن ينتخبونكم أصلاً لأن لديهم حزبين يشبهان حزبكم تماماً. في كل شيء... مع أن الشعار وحده بقي في الأهم بينهما.
أمّا أن تتخلوا في «تكتيكاتكم» الانتخابية عن حليفكم الاستراتيجي الأقوى، أي حزب الله، وتخجلوا من وجوده إلى جانبكم في أقضيتكم ذات الغالبية المسيحية حيث كان من الأصول ومن باب ردّ الجميل على تجميده دورة الحياة السياسية لإيصالكم... الالتزام بلوائح مشتركة.
فلا يجيزُكم الادّعاء في شتى المناسبات أن التحالف معه على أفضل حال، خصوصاً بعد إفصاحه عن غياب الكيمياء والفيزياء.
أوليسَ التكتيكُ – كما تفيدُنا العلوم العسكرية - منبثقاً من الاستراتيجيا؟!
كيف تسيرون، بشكلٍ أو بآخر، نحو التطبيع مع العدو قبل تحصيلِ أيّ حقٍ من حقوقنا المسلوبة؟! أو ضمان عدم تكرار اعتداءاته وانتهاكاته؟! وتنكرون ذلك؟!
كيف تغضّون الطرف عمن خانوا وتعاملوا وقصفوا وقتلوا وخطفوا ونكّلوا... وكأنهم لم يفعلوا شيئاً مستحقاً للذكر؟!
وهل هذا نهجُ الرئاسة الذي تتحفوننا به؟!
كيف تتدخَّل تلك الرئاسة متى شاءت وفي ما شاءت، ثمَّ تطلبونَ تحييدها عن المعمعة والسجال؟!
كيف تضغطُ تلك الرئاسة لإصدار حكمٍ بالإعدام وبأيّ شريعةِ غابٍ ترأس؟!
عندما تسلّمَ الجنرال البلاد المنهارة والمنهوبة من الرئيس (الأمين) أصدرَ أوامر صارمة إلى إدارة سجن رومية نصّت حرفياً وباللغة العامية - كما قال لي أحدُ الضباط المشرفين على سريّة الأمن الداخلي المولجة بإدارة السجن - على التالي:
من يظنُّ نفسَه؟ وهل يظنُّ نفسَه بطلاً حتى لا يتحدَّث إلينا... ولا يطالبنا حتى بحبّة دواء؟ أريدُه أن يفقدَ صوابه وأن يفعلها بثيابه.
وهكذا كان بعد عذاب مكثّف دامَ لستّ سنوات أن فقدتُ حواسي ووعي طيلة سنتَي حكمِه وقد دامَ ذلك ثلاثة أشهر بعد مغادرتي المعتقل... ولولا خروجي في ذاك الوقت لما بقيتُ على قيد الحياة شهراً واحداً وفق تقدير الأطباء.
وهذا حتى يعرف اللبنانيون اليوم كيف تُحكم وتُدار البلاد من خلال شخصٍ لا يقبل ألا تُنفّذ رغباته وتُحترم إرادته وتُحفظ حصّته... مهما كانت.
فهو لا ينسى أيَّ ثأرٍ أو موقفٍ أو حساب أو شخص... والأمثلة الحيَّة على ذلك لا حدود لها.
فلن يكون شارل أيوب - بسبب موقفه الإعلامي من انقلابه عام 88 – آخرها... ولا السيّد حسن المعروف بوفائه لوعودِه أولها... والحبل على الجرار.
لا بل لم تعدْ أيّ صحيفة تتجرأ على تسلّم كلمة مني. وإذا فعلت تُلاحق بأسلوبٍ ما. والجميع يشكي من القمع السائد والنظام البوليسي. كيف تفرضون على الحزب القومي التخلّي عن مرشحِّه في أهمّ دائرةٍ انتخابية في لبنان، وفي أهمّ دائرةٍ بالنسبة له وهي الدائرة الثانية لبيروت، التي قدَّم لها الشهداء ودافع عنها في أحلك الأوقات... وضبط أمنها وصان أهاليها وممتلكاتهم؟
لتفرضوا في المقابل مرشَّحكم بينما لا ناخبين أو مؤيدين تاريخياً لكم هناك؟!
وكيف يقبلُ القوميون تأييد مرشحيكم في دوائر انتخابية عدّة في الوقت الذي تضعفونَ فيه موقفهم؟!
كنت تمنيتُ عليهم تسجيل وقفة عز للتاريخ... يتباهون كلامياً بها. في السياسة بالطبع، لتؤخذ عبرةً في المستقبل وفي كل دوائر لبنان الانتخابية وتتلخّصُ في أن يقاطعوا حلفاء قيادتهم المُباع قرارها في السوق السياسي منذ زمنٍ بعيد حتى لا تعاودَ الكرّة وتبيع أصواتهم وإراداتهم الحرّة من جديد.
ولينتخبوا بعدها معارضين لها أو أصدقاء نظيفي السمعة ممن سجّلوا في مرحلةٍ ما موقفاً مؤيداً لقضايانا الوطنية والقومية أو كانوا مدافعين عن المواطنية لا الطائفية... أو حملوا هموم الناس وقدموا لهم شيئاً مفيداً لأنّ لا أحد معصومٌ عن السعي لتحقيق المصلحة والربح.
وإلاّ كيف سينتخبون مرشحاً عن مقعدهم لا ينتمي في الأساس إليهم وقد فشلَ في السياسة من دون أن يحقّق طيلةَ حياته إنجازاً واحداً لا بل أُخبر عن نيّة إسرائيل الجديّة باجتياح لبنان من أطرافٍ معادية للحركة الوطنية من دون أن ينبسَ ببنت شفة؟!
المقصودُ هو - كما اتّضح ويتّضح دائماً - إضعاف الحزب القومي وتغييب قراره المستقلّ كحزبٍ غير طائفي كما إفشال ظهور أي تحرُّك مدني على الساحة بما يزكّي أحزاب الطوائف الممتلكة للقرار وللبلد. وقد برزَ ذلك في مناسبات عدَّة منها القمع الذي أغلق لسنوات شوارع الوسط التجاري. والتواريخ التي اختيرت لجلسات محاكمتي، كما أشرتُ في حينه. فعلى القوميين وغيرهم من العلمانيين ألاّ يلوموا أحداً إذا قبلوا بما فُرض عليهم وساروا في هذا المسار.
وفي الختام أتمنى فوز بعض الأصدقاء والصديقات من الوجوه الجديدة على المجلس النيابي... حتى لا تبقى صورةُ الانتخابات قاتمة... ويبقى التمثيلُ تقليدياً وذكورياً ويراوح لبنانُ مكانه من دون أيّ تقدُّم.