كان لافتاً أن تتضمن كلمة فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بمناسبة قرب موعد الانتخابات النيابية فكرة محورية (تقريباً) هي التحذير من اعتماد التعبئة الطائفية والمذهبية في هذا الاستحقاق الذي تأخر عن موعده الدستوري خمس سنوات بالتمام والكمال. ذلك لافت لأن «التيار الوطني الحر» في مرحلة تولّي زعيمه ومؤسّسه رئاسة الجمهورية، وقبل وبعد، ثابر في شعاراته ونشاطه، على أولوية ذات مضمون طائفي هي استعادة «حقوق المسيحيين»، متجاهلاً أولويات أُخرى، أكثر أهمية، كاحترام إصلاحات الدستور وإصلاح الاقتصاد ووقف الهدر والفساد وتعزيز التعليم الرسمي. وهو صاغ استراتيجية وتكتيكاً متكاملين لهذا الغرض. وهذان لم يستثنيا أي عنوان أو أسلوب أو تحالف: بدءاً من «تفاهم مار مخايل» في شباط 2006 مع «حزب الله»، مروراً بوصل ما انقطع مع «المحتل» السوري (وزيارة العماد عون لسوريا كـ«بطرك» لمسيحيي الشرق)، وصولاً إلى إبرام «شراكة» مع تيار «المستقبل» باتت، بسرعة، هي الأثبت والأرسخ (وستبقى كذلك على الأرجح) في المرحلة المقبلة. طبعاً في مجرى ذلك، اعتمدت سياسات وعلاقات وممارسات تعزز هذا السياق، في الحقول كافة، وفي داخل لبنان وخارجه على حدٍ سواء. ولقد ارتبط رفع شعار استعادة «حقوق المسيحيين» بالسعي لإحلال ممثلي التيار العوني، دون سواهم، في المواقع السياسية والإدارية في السلطة، بدءاً، طبعاً، من رئاسة الجمهورية نفسها حيث أصبح زعيم التيار رئيساً للجمهورية قبل حوالى سنة ونصف سنة تقريباً.لم يكن بلوغ عون سدة الرئاسة الأولى نهاية المسار المذكور، بل محطة أساسية فيه. بعد ذلك، استمر العمل بمناخ التعبئة الطائفية نفسه لتحقيق مزيد من المكاسب على طريق الهدف العام وهو بناء توازن جديد، في البلاد والسلطة، مختلف كلياً عما هو قائم حالياً، وبعدما أصبح عون رئيساً وتياره وحلفاؤه يملكان أكثرية في الحكومة. وسرعان ما تبيّن أن هذا التوازن المنشود يسعى لأن يستعيد، إلى حد كبير، من خلال الممارسات والطقوس والتحالفات والشعارات، معظم ما كان قائماً قبل اندلاع الحرب الأهلية الكبرى (1975-1990).
حظيت الانتخابات النيابية بموقع أساسي في هذا المسار. أولاً من خلال الاعتراض على التمديد الذي حال، بسبب ما أفرزته انتخابات عام 2009 من توازنات، من دون انتخاب عون رئيساً للجمهورية، لمصلحة من لا صفة تمثيلية له واستبعاد «المرشح الطبيعي الوحيد» و«القوي» في بيئته وتمثيله. ولقد تطلب أمر كسر هذه المعادلة (بعد تأخير استمر سنتين) إحداث انقلابات سياسية على غرار الصفقة مع رئيس تيار «المستقبل» الذي كان يبحث بدوره عن وسيلة، ولو غير مألوفة، للعودة إلى رئاسة الحكومة. «وافق شنٌ طبقة»، ووُلدت الصفقة التي حملت إلى سدة الرئاسة الأولى الرئيس «القوي»، وإلى سدة الرئاسة الثالثة الرئيس «الأصيل» بعد الرئيس الوكيل تمام سلام.
في مجرى ذلك، كرّر العونيون مراراً أن مجلس العهد ليس المجلس النيابي الحالي، والحكومة الراهنة ليست حكومته. وكان لا بد من تغيّر قانون الانتخاب. وأدى مخاض طويل ومُملّ ومبتذل وفئوي إلى إقرار القانون الحالي النسبي المشوّه المطعّم بـ«الأرثوذكسي» الذي كان مؤيداً من التيار العوني والذي سيؤدي إلى دفع التطييف إلى مداه الأقصى بجعل كل طائفة تنتخب نوابها (روى السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير الموجه إلى جمهور كسروان ــ جبيل جزءاً من الحوار بشأن «الشراكة» واستعادة الحقوق مع ممثلي «التيار الحر»)... الانتخابات النيابية، بالنسبة إلى العونيين، إذاً، محطة ثانية أساسية في «استعادة الحقوق» وتغيير التوازنات. وقد جاهر رئيس التيار بذلك مراراً. وهو، في اجتماع أخير لقيادة حزبه، تباهى بتحقيق مكاسب لفريقه ينبغي تعزيزها عبر الانتخابات وما بعدها («مكملين وما في شي بيوقفنا»). ذلك يتطلب تقوية التفويض الشعبي الذي أصبح هدفاً يهون من أجل حبه كل شيء: خلط الأوراق، التشكيك بالتحالفات القديمة، فتح مشاكل في الداخل والخارج باسم وزارة الخارجية وسواها، مع خصوم ومتضررين ومنهم، بالدرجة الأولى، رئيس حركة «أمل» ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط... واقتضى تكبير الكتلة العونية، أيضاً، التخلي عن مرشحين ونوَاب وناشطين في التيار نفسه لمصلحة مرشحين متمولين وأصحاب حيثية انتخابية، وخصوصاً في كل من كسروان وجبيل والمتن... أي في قلب المراكز المارونية والمسيحية الرئيسية. كذلك أكد التيار تحالفه الرئيسي مع «المستقبل» لتعزيز «الشراكة» المذكورة آنفاً والتي تتخذ، في ظرف جديد، صيغة «الثنائية» الطائفية التي كانت قائمة قبل عام 1975 بأرجحية كاسحة للنفوذ الماروني على حساب النفوذ السني. ويلاحظ هنا أن ما حظي به الرئيس سعد الحريري من تأييد من قبل «الطغمة المالية» بمؤسساتها وأشخاصها، يلتقي تماماً مع شريكه في «الثنائية» الجديدة لجهة ازدياد نفوذ وحضور ممثلي هذه الطغمة في مواقع القرار، وأحياناً بشكل مباشر كما حصل بالنسبة إلى المرشح على لائحة «التيار الوطني» نقولا شماس وسواه في المتن وزحلة وبعلبك والهرمل...
بالتطابق في التعويل على انبثاق «مجلس نواب العهد»، بعد الانتخابات، أشار الرئيس عون في رسالته إلى الرئيس الفرنسي بعد مؤتمر «سيدر»، في 19 الجاري، إلى أن «نهوض لبنان لن يتم إلا بإصلاحات اقتصادية ومالية واجتماعية تنسجم واهتماماتي بمحاربة الفساد... وأن تجديد دم المجلس النيابي... من شأنه أن يوطد هذا التوجُه». تعيد تلك الرسالة ربط حلقات الجهد العوني الرئاسي والرسمي والحزبي، في تكامل واضح، باستخدام كل المواقع، بما فيها موقع الرئاسة الأولى، من أجل تحقيق هدف بناء توازنات جديدة في السلطة محمية بقوة داخلية، وتحالفات خارجية يُخشى، كما دلت إشارات متلاحقة، أن تصبح تحالفات أميركية وغربية وخليجية قبل أي تحالفات أُخرى.
في خطابه الانتخابي مساء الأربعاء الماضي، كان يمكن لكلام الرئيس عون أن يعني أمراً مغايراً ومهماً، لو أنه قال إن تحذيره «من تدني الخطاب السياسي والأخطر جنوحه نحو إثارة العصبيات» موجّه للأقربين والأبعدين. وهو ألحّ على مطالبة المرشحين بالابتعاد عن التجييش الطائفي والمذهبي... فالشحن الطائفي هو أول خطوة على طريق الفتنة». إن إطلاق هذا التحذير من دون تحديد ذي دلالة شاملة، أفقده قيمته وأدرجه في نطاق الحملات الدعائية التي لا تقرن «الأقوال بالأفعال» وفق شعار رئيس التيار جبران باسيل نفسه!
في هذا السياق، يندرج ما تبقى من خطاب الرئيس عون في نطاق سجال يكاد يكون أقرب إلى التحريض على الخصوم أكثر مما يدخل في حقل النصيحة والتصويب والإرشاد. فمن القانون الذي عمًق الطائفية وشرّع الرشوة، إلى استقطاب كبار المتمولين، إلى استخدام السلطة على أوسع نطاق في خدمة معركة «التيار الحر» ومرشحيه... لا يتمايز «التيار الوطني الحر» عن سواه من كبار المحاصصين الذين يرفع شعار الشراكة معهم، وليس تخليص اللبنانيين من منظومتهم التحاصصية الطائفية المدمرة والمولدة للانقسام والتبعية والفتن والحروب، كما حذًر بحق الرئيس ميشال عون!
* كاتب وسياسي لبناني