سيصدر بعد أيّام كتاب عبّاس الحسيني «٢٦ ساعة: بنك أوف أميركا»، وهو يروي تفاصيل مذهلة عن عمليّة شهيرة قبل الحرب الأهليّة لا تزال تُعرف باسم البنك الذي استهدفته. والكتاب منسوج على شكل رواية مشوّقة لكن أبطالَها من لحم ودم، ومعاناتهم وعذاباتهم وبطولاتهم هي حقيقيّة جدّاً.قد تكون الرواية هذه بعيدة كل البعد عن مخيّلة جيل كامل من اللبنانيّين ممّن لم يعاصر مرحلة ما قبل الحرب الأهليّة. تلك مرحلة كان يتطوّع فيها لبنانيّون - من كل الطوائف والمذاهب - للذود عن فلسطين وعن جنوب لبنان في ظل تواطؤ رسمي مع الحملة الإسرائيليّة ضد المقاومة الفلسطينيّة واليسار. كان هناك مَن يكرّس حياته من أجل تحقيق حلم تحرير فلسطين وتوطيد الاشتراكيّة في لبنان. لم تعد الثقافة اللبنانيّة على ما كانت عليه. باتت مصطلحات وخطاب المنظمّات غير الحكوميّة هي السائدة: من تعايش وتقبّل الآخر والحوار ونبذ العنف - إلاّ إذا كان على يد إسرائيل ورعاته في الغرب.
مرشد شبّو ولدَ ثائراً. تمرّد على النظام السياسي وضد الإمبرياليّة الأميركيّة في سن مبكرة. كانت بدايته في التظاهر ضد «مشروع أيزنهاور»، وعرّضه ذلك لإطلاق رصاص وضرب وسجن من قبل قوى الأمن والجيش التي لم تكن إلا ذراعاً محليّة لقوى الاستعمار في سنوات الحرب الباردة. انضم إلى الحزب الشيوعي اللبناني في السادسة عشر من عمره لكن إقامته في الحزب لم تطل، إذ خرج من رحم الانشقاق الشهير في عام ١٩٦٤. وقد أحاط بهذا الانشقاق الكثير من اللبس والمغالطات، خصوصاً أن الشلّة المتنفّذة في الحزب آنذاك - وهي كانت شلّة بكل معنى الكلمة - أعادت كتابة تاريخ الحزب (بعد سقوط الاتحاد السوفياتي) بتشويه فظيع، وذلك كي تقلَّل من ولائها الحديدي للاتحاد السوفياتي وللستالينيّة. وقد نشرت جريدة «النهار» فصولاً على حلقات من تاريخ الحزب في العام ٢٠٠٤ تولّى فيها ممثّل الشلّة، نديم عبد الصمد، التعبيرعن وجهة نظر الستالينيّين العريقين، لكن التائبين (1). وكان فريق الشباب الستاليني (في عام ١٩٦٤) المتمثّل بعبد الكريم مرّوة وجورج حاوي ونديم عبد الصمد وجورج بطل مطابقاً لموقف الشيخيْن، نقولا الشاوي وأرتين مادويان، من التبعيّة المطلقة للاتحاد السوفياتي. والطريف أن الشلة الستالينيّة عادت (أخيراً) ورمت الذين انشقّوا عن الحزب في عام ١٩٦٤، بسبب تبعيّة القيادة لموسكو، بتهمة الستالينيّة السوفياتيّة، فيما كانت التهمة ضد هؤلاء - من الشلّة نفسها - هي الماويّة في عام ١٩٦٤. لهذه الدرجة تم تزوير تاريخ الحزب، واختلاق نيّة للتحرّر من السطوة السوفياتيّة من قبل الشلّة ذاتها التي شكلّت اليد الضاربة للستالينيّة السوفياتيّة. (لكن الفريق الشبابي استعار كما روى المناضل الُمنشق، جورج حدّاد، بعض شعارات المُنشقّين في عام ١٩٦٨ عندما تمرّد الستالينيّون الشباب على الستالينيّين الشيوخ (2). لكن تأييد المنشقّين للكفاح المسلّح قرّبهم بنظر الستالينيّين من الماركسيّة الصينيّة. الحزب الشيوعي اللبناني كان مشغولاً بالنضال البرلماني وبالمواقف المهادنة للاتحاد السوفياتي نحو العدوّ الإسرائيلي، وهو اعتنق بعد ١٩٦٧ نظريّة حصر النضال العربي ضد إسرائيل بـ«الإزالة السياسيّة لآثار العدوان». وكان جورج حاوي يُبشِّر المعترضين على سياسة الحزب بدعوة الاتحاد السوفياتي للتعايش السلمي مع العدوّ (3). وتعامل الشيوخ والشباب في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني مع المعترضين بستالينيّة وقمعيّة قاسية. كان الطرد و«التطهير» من أكبر عمليّات «تنقية» وإقصاء أجراها حزب لبناني ضد معارضيه. وعندما طالب المعترضون بحق النقد، ووجهوا من قبل جورج حاوي بشعاره الشهير: «لكم حق النقد ولنا حق الطرد». والمحاورة بين مرشد شبّو وبين حاوي (وكانت من ضمن الأوراق الخاصّة لشبّو التي حصل عليها الحسيني) رسّخت في أذهان الشيوعيّين ذوي الاتجاهات الثوريّة انغلاق الحزب أمام عمليّة الثورة المسلّحة والكفاح العنفي ضد العدوّ الإسرائيلي. والنقاشات بين المتمرّدين شملت قضايا الوحدة بين العرب (والتي عارضها الشيوعيّون بأوامر من موسكو)، إضافة إلى نبذ الحزب الستاليني اللبناني لنموذج تشي غيفارا (أطلقت جريدة «الأخبار» - الناطقة باسم الحزب الشيوعي آنذاك - ساخرةً وصف «الثائر المغامر الجوّال» على غيفارا) (4). كما أن الحزب أصرّ منذ انتهاء حرب ١٩٥٨ على التمنّع عن اقتناء السلاح حتى نشوب الحرب الأهليّة في عام ١٩٧٥.
كانت وحشيّة السلطة فائقة ومستقاة من ممارسات العدوّ الإسرائيلي


إن الحدث الأبرز في تاريخ الشيوعيّة الثوريّة اللبنانيّة كان في تشكيل «الجبهة التقدميّة اللبنانيّة لمكافحة الصهيونيّة»، على أثر طرد مجموعة الثوريّين المتمرّدين من صفوف الحزب الشيوعي (وانضم إلى شبو رفاق آخرون، مثل إبراهيم حطيط وسامي ذبيان، والأخير عمل في الصحافة اللبنانيّة). وقد انضمّت إليهم أيضاً مجموعة من الناشطين اليساريّين في البقاع، والذين عملوا تحت اسم «الجبهة التقدميّة في البقاع» (5). وكان هدف المجموعة، كما وصفها عبّاس الحسيني، هو «لبننة المقاومة المسلّحة ضد إسرائيل، وليس فقط مساندة الثورة الفلسطينيّة، أو المشاركة فيها» (6). وبهذا، تكون هذه الجبهة أوّل تجربة لعمل مقاومة لبنانيّة - وإن سريّة - ضد العدوّ الإسرائيلي. ومارسَ أعضاء الحزب بسريّة مطلقة وكانوا لا يلتقون إلا في دور السينما (ينسى الكثيرون اليوم أن لبنان ما قبل الحرب كان دولة بوليسيّة مرعيّة من حلف شمال الأطلسي). لكن سريّة الجبهة اصطدمت بحاجتها إلى تمويل وتسليح، فَرَعاها عند انطلاقتها قادة من حركة «فتح»، مما قلّل من استقلاليّتها.
والجبهة هي التي أنشأت «الحرس الثوري اللبناني -فرقة طانيوس شاهين»، للقيام بعمليّات مقاومة ضد العدوّ الإسرائيلي. وأقامت قواعد في منطقة العرقوب، وقامت بعمليّات استطلاع بالاشتراك مع فصائل في المقاومة الفلسطينيّة (على رغم علاقة «الحرس» بحركة «فتح»، فإن شبّو كان على علاقة وطيدة بجورج حبش ووديع حدّاد، مما سهّل عمليّة اختبائه في مخيّم برج البراجنة عندما أصبح - مبكراً - مطلوباً من قبل الدولة اللبنانيّة). ويذكر الحسيني أن «الحرس» ضمّت أكثر من ١٥٠ مقاتلاً وأنها نفّذت عمليّات في الأراضي المحتلّة (7). وكان شبّو واعياً لخطورة انتشار المقاومة الفلسطينيّة في أنحاء لبنان، إذ إنه كان من المؤمنين بالعمل السرّي غير المنلفش. ولو أن المقاومة الفلسطينيّة وعت لخطورة ما حذّر شبو منه مبكراً لتلافت الأخطاء في الأردن وفي لبنان، والتي نفذت من خلالها مخططات أعداء المقاومة المحليّين والخارجيّين على حدّ سواء. وكان شبو صارماً حتى في انتشار المقاومة في الجنوب، إذ إنه رأى أن تكون قواعد المقاومة محصورة في «أقصى الجنوب اللبناني» فقط. وكانت تحذيرات شبو علنيّة، إذ إن ذلك كان التحرّك العلني الأوّل له لإقناع فصائل يساريّة بضرورة التوجّه إلى قيادة «فتح»، بعد حقبة العمل السرّي الصامت، من أجل الحفاظ على سريّة الثورة.
ولشبو الفضل (إذا كان ذلك فضلاً لما شاب التجربة من كوارث ومن اختراقات معادية) في تجميع القوى الوطنيّة والعروبيّة واليساريّة في بوتقة ما عُرف في عام ١٩٦٩ بـ«تجمّع الأحزاب والفئات التقدميّة في لبنان». وكانت «الجبهة التقدميّة اللبنانيّة لمكافحة الصهيونيّة» من بين الأحزاب الأخرى التي أصدرت بيان الاستنكار ضد تعامل السلطة مع العمل الفدائي في ٢٠ نيسان، إضافة إلى الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الإشتراكي وحركة القوميّين العرب و«لبنان الإشتراكي» و«المستقلّون التقدميّون». وشارك شبو مع رفاقه في التظاهرة الشهيرة في ٢٣ نيسان والتي جوبهت من قبل السلطة بالرصاص.

تنصّلت «الأحزاب والقوى التقدميّة والوطنيّة» في بيان من العمليّة


تشتّتت الجبهة في عام ١٩٦٩ وتفرّق الرفاق. لكن كان لحركة «فتح» دورٌ ما في شقّ صفوفها، كما يروي الحسيني، وكان هذا أسلوباً معهوداً لها في التعامل مع تنظيمات مقاومة تعمل باستقلاليّة عن أغراضها هي. لكن ذلك لم يخفّف من الاندفاعة الثوريّة لشبو ولحطيط الذيْن، بمساعدة من وديع حدّاد، تسرّبا إلى مناطق «جبهة التحرير الأريتريّة» حيث تعرّفا إلى مقاتل من منظمّة «توبوماروس» الأوروغوانيّة، وتأثّر شبو وحطيط بفكرة «حرب عصابات المدن» وممارستها التي بدأها «جيش الجمهوري الإيرلندي» وأتقنها في أواخر الستينات وأوائل السبعينات تنظيم «توبوماروس»، الذي اشتهر بتنظيم سطو على المصارف وتوزيع النقود على الفقراء، إضافة إلى عمليّات اغتيال. بعد عودة الرفيقيْن، تأسس تنظيم «الحركة الثوريّة الإشتراكيّة اللبنانيّة» («حرث»، في الاختصار).
واعتنقت الحركة وصف «الثوريّة» لأنها كما قالت في كتيّبها الأوّل «ترفض أنصاف الحلول وأية صيغ إصلاحيّة وتصحيحيّة» - في إشارة غير مبطّنة إلى الشيوعيّين التقليديّين في لبنان. واعتنقت الإشتراكيّة لأنها تريد إقامة «سلطة إشتراكيّة شعبيّة». أما وصفها باللبنانيّة فلم يكن إلاّ لأن الحركة «تنطلق من واقع لبنان» (وكان هناك سبب آخر يكمن في دحض شبهة الولاء لـ«فتح» التي شابت تجربة «الجبهة» السابقة). أما نمط الحركة في الكفاح المسلّح فكان، بحسب وصفها، التأزيم الثوري من أجل إيجاد الوضع الثوري»، كمرحلة أولى، على أن تلي ذلك مرحلة ثانية في «التحرّك الثوري المسلّح» لتدمير السلطة من أساسها (8). وانطلقت عمليّات الجبهة نحو أهداف متنوّعة. لكن كان عليها قبل ذلك أن تتصدّى إلى مسألة التمويل، وهذا موضوع لم تكن التنظيمات الثوريّة تنشغل به - للأسف - بسبب وفرة المال من أنظمة شيوعيّة وعربيّة ممّا قلّل من قدرة المبادرة الذاتيّة والاستقلاليّة السياسيّة ليسار المقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة. أي أن شبو كان سابقاً زمانه الثوري بسنوات، واستطاع مبكراً أن يتفادى ما وقعت فيه في ما بعد كل فصائل الثورة الفلسطينيّة واللبنانيّة من التمويل الخارجي المشروط: إن اعتماد الجبهة الشعبيّة على تمويل النظام العراقي في تجربة «جبهة الرفض» الرائدة، وعلى تمويل قيادة عرفات في «منظمة التحرير» بعد ذلك، قضى على ما مَيَّز «الجبهة» في سنواتها الأولى. قرّرَ مرشد، مُسترشداً بتجربة «توبوماروس» في السطو على المصارف، أن تستقلّ «الحركة» ماليّاً عن كل الأنظمة من دون استثناء. استفظع بعض من رفاقه هذا الأسلوب لكن ثقتهم بأمانته أزال كل شكوك. وكان أعضاء التنظيم ذروة في الزهد والتقشّف وحسن السلوك والإيمان العميق بالمساواة مع المرأة، ورفض الاستغلال الجنسي تحت شعارات يساريّة زائفة.
وتركّزت عمليّات الجبهة على أهداف متعدّدة - وإن اختلف المرء مع بعضها. فقد وضع أعضاء التنظيم قنبلة موقوتة (لم تنفجر) في سينما «كابيتول» إذ كانت تعرض فيلم «تشي»، من بطولة عمر الشريف. (صرّح عمر الشريف بعد عودته من مصر أنه ندم على مشاركته في الفيلم وإن الاستخبارات الأميركيّة كانت وراء إنتاجه). وقام أعضاء من «الحركة» بوضع متفجّرة في ١٩٧٠ في مدرسة الـ«أليانس» اليهوديّة. لم يعترف بيان الحركة يومها بأن هذا الهدف هو مدني يهودي إذ زعم - من دون تقديم أدلّة - أن المدرسة كانت «مقر اجتماعات كبار الصهاينة في لبنان» (9). لم يكن التنظيم على ما يبدو، خلافاً لمعظم تنظيمات المقاومة الفلسطينيّة، حريصاً على التمييز بين اليهودي والصهيوني. وفي العام نفسه، حاول التنظيم تفجير مدرسة «شملان»، لكن العمليّة فشلت (وكانت مدرسة شملان بريطانيّة التأسيس تخصّصت في تعليم اللغة العربيّة لديبلوماسيّي وعسكريّي وجواسيس الدول الغربيّة) (10). وفجّر التنظيم مركز «كنيدي» «وبنك أوف أميركا» وشركة «أميركان لايف إنشورنس»، ومبنى السفارة الأميركيّة. وبلغ من جسارة التنظيم أنه أنشأ تنظيماً سريّاً داخل أجهزة الأمن والجيش في لبنان باسم «منظمّة عقاب». وتوسّع عمل التنظيم وفجّر عدداً من مقار حزب الكتائب وانتشر في بعض الجامعات، كما أنه استحوذ على عدد من المنشقّين عن «منظمّة العمل الشيوعي».
لن أروي هنا تفاصيل عمليّة بنك أوف اميركا التي أجادَ المؤلّف روايتَها دقيقةً بدقيقة، ومستعيناً بشهادات ووثائق أساسيّة، كما أنه حصل على أسماء الرهائن واتصل بعدد منهم، كما اتصل بأفراد من قوى الأمن الذين دهموا المصرف وقتلوا عضويْن في التنظيم. لكن تفاصيل العمليّة مذهلة. كيف كان رجال السياسة يتصلون بأعضاء التنظيم في المصرف ويتحدّثون معهم. مثلاً، اتصل بيار الجميّل بالمصرف أثناء العمليّة وردّ عليه علي شعيب فما كان من الجميّل إلا أن قال له: «إذا كانت الدولة الشرمـ... لن تعرف أن تربّيكم يا أخوات الشرمـ...، أنا سأربّيكم» (11).
وتنصّلت «الأحزاب والقوى التقدميّة والوطنيّة» (قبل أن تتحوّل إلى «الحركة الوطنيّة») في بيان من العمليّة (لم يعترض، بحسب الحسيني إلا «منظمة العمل الشيوعي» و«حزب العمل الإشتراكي العربي»). وذهب البيان بعيداً في اتهام العمليّة بأنها توطئة «لإنزال أميركي» (12). أما «النداء» فقد اعتبرت العمليّة «محاولة رجعيّة فاشلة للتحريض على القوى التقدميّة» (13). وحزب البعث الموالي للنظام السوري اعتبر العمليّة «خطة عمل إرهابيّة». لم يدافع جهاراً عن «الحركة» إلاّ حزب البعث الموالي للنظام العراقي في بيان من صياغة موسى شعيب (الذي عرف علي شعيب عن كثب)، وبيان آخر لـ«الخلايا العماليّة الثوريّة» من صياغة روجيه نبعة. وأصرّت جريدة «الحياة» يومها أن «منظمة العمل الشيوعي» هي وراء العمليّة، مما زاد من تنصّل «المنظمّة» من العمليّة.
أصبح علي شعيب بطل العمليّة في المخيال الشعبي، ولا يزال اسمه معروفاً فيما اختفى اسم القائد مرشد شبو، الذي لم يُكتَب عنه شعرٌ ولم يتغنَّ به أحد. علي شعيب عرفه الجنوب من قبل باسم «ثائر الشرقيّة»: فتى من فتيان تلك المرحلة من الذين نذروا حياتهم للدفاع عن الفقراء ولتحرير فلسطين. تأثّر بفكر فرانز فانون وقرأ لنوال السعداوي وكانت قضيّة تحرير المرأة تشغله. علي نَهَر اخته ذات مرّة محذّراً: «إيّاكِ أن تسمحي لأحد أن يضربك، لا أبيك ولا أخيك ولا زوجك في المستقبل» (14). كتب عنه الشاعر عباس بيضون قصيدة جميلة غنّاها مارسيل خليفة، لكن بيضون عاد وتنصّل منها بعد أن «تحوّلَ».
كانت وحشيّة السلطة اللبنانيّة في الرد على عمليّة الاقتحام فائقة ومستقاة من ممارسات العدوّ الإسرائيلي. وكانت السفارة الأميركيّة تواكب تعامُل الدولة مع العملية، وهي أصدرت الأوامر لها على الأرجح. تثبت وثائق أميركيّة مفرج عنها أن الحكومة الأميركيّة كانت تتابع العمليّة على مدار الساعة، ويبدو أن السفارة الأميركيّة ساهمت في التخطيط لاقتحام المصرف. لكن التنظيم كان مخترقاً، إذ إن الدولة كانت على معرفة بأعضائه وقيادته وطاردته في كل أنحاء لبنان، واعتقلت نحو ٣٥ من آل شعيب في بيروت، من المصيطبة إلى الشيّاح (تحوم الريبة حول شخص من مؤسّسي الحركة، وهو حادَ في ما بعد نحو خطّ سياسي مغاير، وكان على صلة مصاهرة بقائد تنظيم شيوعي إصلاحي). وعلى طريقة العدوّ، اقتحمت القوى الأمنيّة منزل مرشد شبو وخطفت والدته وشقيقته وجرّتهم إلى شارع المصارف، حيث ظنّت أن شبو كان يقود العمليّة بنفسه (فيما كان هو في مخيّم برج البراجنة في حماية «الجبهة الشعبيّة»). ثم اعتقلت السلطة شقيقيْ مرشد، وكان أحدهم موظّفاً في الأمن العام. ومارسوا التعذيب الوحشي على كل المعتقلين، ولم يتورّع القاضي العسكري عن صفع أحد المعتقلين بنفسه. وواحد من فريق الاقتحام في قوى الأمن قضم أذن «جهاد» بعد أن أوقعه أرضاً، وغرز سكيّناّ في قلبه زاهياً بالثأر (بسبب مقتل زميل له في قوى الأمن). ثم تولّى آخر اغتيال علي شعيب. (ينفى الحسيني أن يكون مروان شربل هو الذي قتل علي شعيب). لم تكتف السلطة بالقتل والتعذيب والقمع بل هي فرضت عبر استخباراتها تصوير أعضاء التنظيم بأنهم مجرّد أفراد في عصابة سرقة (15) فيما كانت أهداف العمليّة تتلخّص بجمع عشرة ملايين دولار للمجهود الحربي في سوريا ومصر والمقاومة الفلسطينيّة، والإفراج عن جميع الفدائيّين المعتقلين، إضافة إلى معتقلي «الحركة» في سجون السلطة. لم يطلب هؤلاء فلساً واحداً لهم.
يستحق عباس الحسيني الثناء والتقدير على الجهد الكبير الذي بذله في جمع المعلومات عن موضوع قلّما تعرّض للدراسة والتغطية. كما أن عمله الاستقصائي أحاط بالموضوع من مختلف جوانبه. لكن شابَ العمل بعض النواقص الهنّات: كان يجب العمل على تحرير الكتاب (لغويّاً) أكثر، لأن بعض الجمل طويلة ومتشعّبة ويصعب فهم مرماها على القارئ أحياناً. كما أن التنقّل بين الأسماء الحقيقيّة والحركيّة وأسماء الكنية للرفاق لم يكن موفّقاً. وقصّة أن العدوّ استهدف طائرة مدنيّة في آب ١٩٧٣ لأنه كان يبحث فيها عن مرشد شبو (16) (لا عن جورج حبش كما هو معروف) ليس صحيحاً، وإن كان ذلك من حكايات رفاق مرشد. كما أن خطف الكولونيل مورغان لم يكن من تنفيذ «الحركة»، كما جاء في الكتاب (17)، بل من تنفيذ «منظمة العمل الإشتراكي الثوري». ورواية خطف واغتيال السفير الأميركي فرنسيس ميلوي كما وردت مغلوطة. لم تمت «الحركة» بعد عمليّة «بنك أوف أميركا». حاولت خطف سفير تشيلي في بيروت في عام ١٩٧٤ ونسف مقر شركة «بروتيين» لكميل شمعون، والذي أشعل تأسيس احتكارها الحرب الأهليّة من صيدا. وشاركت في الحرب الأهليّة خصوصاً على جبهة الشياح حيث استشهد قائدها العسكري إبراهيم حطيط. لكن «الحركة» «جمّدت أي نضال ثوري» في بيان في عام ١٩٧٦ (18)، لكن مرشد لا يمكن أن يهدأ: أسّس «منظمة الإشتراكيّين الثوريّين» في عام ١٩٧٩. مات شبو في عام ١٩٨٦، ووجدوا بين أوراقه وثيقة بتعداد الاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان. شبو - في زمانه - كان الشعب وكان الجيش وكان المقاومة. أما الدولة، فقد عمل على نسفها.

المراجع:
(1) راجع «النهار» في ٢٥، ٢٦، و٢٧ آذار، ٢٠٠٤.
(2) راجع رواية جورج حدّاد الموثوقة: «أضواء على انشقاقات الستينات في الحزب الشيوعي اللبناني»، «الحوار المتمدّن»، ٢١ آب ٢٠٠٤.
(3) راجع نص المحاورة بين جورج حاوي ومرشد شبو المنشورة في كتاب عباس الحسيني، «٢٦ ساعة: بنك أوف أميركا»، ص. ٦٧.
(4) راجع الحسيني، ص. ٦٩.
(5) راجع «الصيّاد»، «الحركة الثوريّة الإشتراكيّة اللبنانيّة»، ٢٥ كانون الثاني، ١٩٧٣.
(6) الحسيني، ص. ٧٢.
(7) الحسيني لا يعطي تفاصيل ولا يذكر مصادر هنا. أنظر ص. ٧٤.
(8) راجع «الصيّاد»، مذكور أعلاه.
(9)الحسيني، ص. ٩٠.
(10) راجع كتاب جيمس كريغ، «شملان: تاريخ مركز الشرق الأوسط للدراسات العربيّة».
(11) الحسيني، ص. ١٤٣.
(12) الحسيني، ص. 142.
(13) الحسيني، ص. 163.
(14) الحسيني، ص. 214.
(15) راجع عدد «الصيّاد» المذكور أعلاه.
(16) الحسيني، ص. 191.
(17) الحسيني، ص. 307.
(18) راجع، فضل شرورو، «الأحزاب والتنظيمات والقوى السياسيّة في لبنان: ١٩٣٠-١٩٨٠»، ص. ٣٥٥.
*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)