أفرجت السلطات المصرية عن السيد أحمد قذاف الدم، أحد كبار المسؤولين الليبيين السابقين في عهد العقيد معمر القذافي، وهو قريبه في الوقت نفسه. كان الرجل يقيم في مصر بصفته مبعوثاً ديبلوماسياً لبلاده (منسق العلاقات المصرية الليبية السابق) ولاجئاً سياسياً (بعد استقالته)، فألقي القبض عليه وأودع السجن، بعد «الثورة» في ليبيا و«الثورة» في مصر وتسلّم جماعة الإخوان المسلمين السلطة فيها. يبدو أن القضاء المصري لم يجد، بعد مضي تسعة أشهر على حبسه، مبرراً لإبقائه قيد الاعتقال، فأعلن براءته!يذكر أحمد قذاف الدم أنه كان قد استقر في القاهرة بناءً على دعوة من المجلس العسكري ووزارة الخارحية. وعند تسلم جماعة الإخوان السلطة في مصر، تمت المساومة عليه، على أن تدفع ليبيا ملياري دولار لمصر و500 مليون دولار لجماعة الإخوان، وقد تم، حسبما يؤكد، دفع 70 مليون دولار رشى للأطراف التي شاركت في العملية. وهكذا أقدمت فرق من القوات الخاصة للشرطة المصرية ومجموعة من المخابرات الليبية على دهم مقر إقامته عند الساعة الواحدة والنصف ليلاً لتنقله على متن طائرة كانت تنتظره في مطار القاهرة وفيها مدير المخابرات الليبية. لكن بعد مقاومة الرجل واستنفار أنصاره الذين حاصروا قوات الشرطة بعد معركة بالأسلحة داخل الشقة جرح على اثرها 3 من المهاجمين واستمر الحصار لعشر ساعات، اتفق معهم على أن يسلم نفسه إلى النائب العام الذي أودعه السجن بتهمة مقاومة السلطات وحيازة أسلحة.
ومهما يكن، فإن إطلاق سراح الرجل في مصر، واستضافته في برنامج تلفزيوني، يذكّرك من جديد بليبيا التي صارت أو تكاد نسياً منسياً. «شكراً» عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية السابق الذي توكل باسم الدول الأعضاء طلب تدخل قوات حلف الناتو . «شكراً قطر» التي «انضمت» مؤقتاً إلى حلف الناتو تلبية لمقتضيات «الثورة» في ليبيا، «شكراً» للقرضاوي الذي امتهن النفاق والتجارة بالدين، ولم يرتدع عن التطاول على ذكرى النبي العربي، فقال إنه «لو كان محمد حيّاً لوضع يده بيد الأميركيين»! شكراً أيضا لإعلاميي ومفكري قطر، وفي مقدمتهم الفلسطيني الخادع، عضو الكنيست الاسرائيلي السابق، عزمي بشارة!
نعم هذا هو مجموع الأدوات التي استخدمت في ليبيا، من أجل «الديمقراطية وإرساء الدولة العادلة»... وهي الأدوات نفسها التي استخدمت في مصر ثم في سوريا. ولكن مقاومة السوريين اضطرت اللاعبيين الحقيقيين إلى الكشف عن وجوههم القبيحة، فظهر آل سعود و«الإخوان» الوهابيون، إلى جانب السيدين أوباما الأميركي وهولاند الفرنسي... على حقيقتهم مستعمرين وعملاء!! ألم يبتزّ الرئيس الفرنسي السابق نيقولا ساركوزي معمر القذافي الذي وافق على تمويل حملته الانتخابية بمبلغ خمسين مليون دولار؟ من المحتمل أن يكون الزعيم الليبي قد ظن أن دفع «الجزية لملك فرنسا» يجنّب بلاده أذية هذا الأخير!
ماذا يجري الآن في ليبيا، بعد «ثورة» الناتو، وما أدراك ما «ثورة» الناتو؟ كم من الليبيين سقطوا تحت قنابل وصواريخ وغارات هذا الحلف العدواني؟ يقول المسؤول الليبي الذي كانت تحتجزه حكومة الإخوان المسلمين في مصر إن الوضع في بلاده هو برأيه أسوأ مما كان عليه أثناء الاحتلال الإيطالي والمقاومة التي قادها عمر المختار. أي بتعبير آخر، إن الوضع في ليبيا اليوم، بعد «الثورة»، يمكن أن ينعت بالكارثي! فالمسألة لم تعد، من وجهة نظره، مسألة موقف سياسي أو حزبي، مؤيد أو معترض على أسلوب حكم القذافي، بل هي قضية شعب ووجود كيان وطني تتهددهما خطورة كبيرة. وما يحصل في بعض الأقاليم من محاصرة لمصادر النفط هو فضيحة بحدّ ذاته، برأيه، و«شاهد على ضعف السلطة والرغبة الغربية في تقسيم ليبيا الى أقاليم متنازعة». وبصرف النظر عن تقييم المسؤول الليبي لأداء ابن عمه العقيد القذافي وعن التشكر للجهات التي أحسنت، بحسب رأيه، صنعاً بطريقة أو بأخرى لليبيين، فإن الرجل لا يجانب الحقيقة عندما يصف الأوضاع الراهنة في بلاده، التي باتت كمثل «جزر بركانية» تتقاذف الحمم في ما بينها، بأنها تتميز بانتشار الفوضى وانعدام الأمن وسيادة شريعة الغاب. لكن ما يهم، أو بالأحرى العبرة التي يمكن استخلاصها من الأزمة الليبية، هي أنه اجتمعت فيها، دون غشاوة وغير ذلك من وسائل التمويه الأخرى، مجمل المقومات التي استخدمت في تكوين القوة المحركة لما اصطلح على تسميته ربيعاً عربياً أو ثورات...
ــ فلا تجنٍّ في القول إن الدور الذي لعبه في مسار «الثورة» الليبية المثقف الفرنسي ذو النجومية الإعلامية والدعائية المعروفة، السيد برنار هنري ليفي، كان في جوهره خدمة للمستعمرين الإسرائيليين. أعتقد أن الرجل كان صادقاً، على غير عادته، عندما أفصح عن هذا الأمر. (هذا لم يمنع بعض المعارضين السوريين من إقامة علاقات معه).
ــ ليس من حاجة إلى أن نطيل الشرح لإثبات مساهمة أصحاب الأموال من مشايخ النفظ في الكارثة التي حلت بالليبيين، والأصح أن نقول النكبة ارتجاعاً للنكبة الأولى في فلسطين.
ــ تجب الإشارة أيضاً إلى الخطاب التحريضي الذي كان يتلفظ به القرضاوي وصحبه من على منبر قناة «الجزيرة»، مناوبة مع الباحث الليبرالي عزمي بشارة الذي منحته إمارة قطر صفة «المفكر العربي»، والذي كان يتحف المشاهد بالمسوغات النظرية للعربدة الأطلسية الإسرائيلية في ليبيا، من تحت عباءة آل ثاني وشيوخ «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»!
ــ من مقومات قوة «الدفع الثورية»، كما لا يخفى، نذكر جامعة الدول العربية التي يبدو أن الخصخصة طاولتها، فامتلك أسهمها مشايخ النفط الذين استبدلوا «اتفاقية الدفاع العربي المشترك» بالاعتماد على الوكالات الأمنية الأميركية، من صنف «بلاك ووتر»، وعلى الحلف الأطلسي، لاستئصال العروبة ومحو التراث الحضاري في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين، وكادوا يفعلون ذلك في وادي النيل.
ــ بقي أن نذكر أخيراً أميركا وأتباعها، حيث إن حلف شمالي الأطلسي تشكيل من بين تشكيلاتها العسكرية. طبعاً نتمنى أن يلقى نداء المسؤول الليبي السابق أحمد قذاف الدم، الخارج من سجون الإخوان المسلمين في مصر، صدى له في ليبيا، فيتوحّد الليبيون في جبهة لإنقاذ بلادهم من الضياع، ويتّفقوا على مشروع جمعي وطني جديد، يجنّبهم أخطاء الماضي. قال إن «الصراع لم يعد على السلطة، بل على بقاء ليبيا كدولة، بعد أن تحولت ليبيا إلى مكبّ للنفايات النووية، وتم سرقة قرابة 400 مليون دولار من الحكومة التي نصّبتها صواريخ الناتو، وشُرّد مليون ونصف مواطن، ويقبع في السجون قرابة 22 ألفاً، منهم 3500 امرأة وطفل، ولم يعد حلف الأطلسي ومجلس الأمن يهتم بحماية المدنيين الذين يتساقطون بالعشرات في ليبيا والجرحى بالمئات في طرابلس وبنغازي، وكذلك جامعة الدول العربية قبل أن تترأس ليبيا دورتها الحالية دون إكتراث بما يجري على الأرض، رغم أنه، على مسمع من أمين الجامعة العربية، يقطن 850 ألف مواطن ليبي في مصر وحدها لا يكادون يحصلون على قوت يومهم، الى درجة أن يتندر الليبيون بتصريح لوزير خارجية الصومال يحذر فيه الصوماليين من الذهاب إلى ليبيا لأنها دولة غير آمنة».
في الختام، لا نستطيع إلا أن نلاحظ أن مكونات قوة الدفع «الثورية» التي أشرنا اليها في سياق هذا الفصل تستخدم منذ ما يقارب ثلاث سنوات في الحرب على سوريا. لا شك في أن هناك فوارق موجودة، ولكنها تقتصر فقط على درجات شدة العنف وليس على المحتوى، إذ لم يضطر عمرو موسى إلى الاستجداء أمام مجلس الأمن الدولي بالصورة المهينة التي لجأ اليها الأمين العام الحالي، ولم يرسل المستعمرون الإسرائيليون طائراتهم الحربية لمساعدة «إخوان» آل سعود مثلما فعلوا في سوريا، ذلك أن دول حلف الأطلسي ترددت هذه المرة في دخول الحرب مباشرة. وحده الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته أظهرا حماسة لها. لحسن الحظ أن حملاتهما العسكرية في مالي وأفريقيا الوسطى تشغلهما في الراهن!
* كاتبة لبنانية