مرت قبل مدة الذكرى الثانية لرحيل الباحث العربي السوري جورج طرابيشي (توفي في 16 آذار 2016). وبهذه المناسبة سأقرأ معكم نقدياً كتابه المهم «مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام» تحية لذكراه ولجهده العلمي الكبير والريادي.تنبع أهمية هذا الكتاب من أن الباحث الراحل تصدى فيه لمقولات ومفاهيم متأثرة إلى هذه الدرجة أو تلك بالفكر الاستشراقي المناوئ للثقافة والحضارة الشرقية عموماً وللمنجز الفلسفي العربي الإسلامي منها. هنا قراءة في الفصلين الثاني والثالث من الكتاب. وكنت قد توقفت قارئاً عند مقدمة الكتاب والفصل الأول منه في مناسبة أخرى:
في الفصل الثاني من كتابه، وعنوانه «عذابات الفلسفة في المسيحية الأولى»، يقدم طرابيشي جرداً تاريخياً إضافياً لوقائع علاقة مسيحية القرون الأولى بالفلسفة والفلاسفة سنتوقف عند ما بدا لنا الأهم فيه. إن طرابيشي، هنا، لا يفاضل بين موقف الدينين المسيحية والإسلام من الفلسفة، بل يحاول إفهامنا السياق المعرفي والتاريخي لكل منهما منظوراً إليهما في شرطهما التاريخي الحقيقي. ولذلك فهو يكرر منطلقه التفكيكي للظاهرة موضحاً أنه «يطعن في الإشكالية ذاتها. ذلك أن المسيحية كالإسلام، دين وحي، ومرجعيته، مثله، إلى نص أول مطلق ينزع إلى تأسيس نفسه في عقيدة قويمة (أرثوذوكسية) تتنافى والروح الفلسفي الذي يقوم على البحث الشخصي، المستقل والحر، عن الحقيقة». (ص 25 في مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام).
ومن الأمثلة على وقائع الصدام الطويل والمرير بين المسيحية الأولى والفلسفة والفلاسفة يستعرض طرابيشي العديد من الأمثلة نذكر منها بإيجاز الآتي: يمر طرابيشي على موقف الرسول بولص، وكان واضح العداء للفلسفة. فهو لم يكتف بتحذير المسيحيين منها بل أعلن الاستغناء عن الحاجة إلى الحكمة البشرية (بعدما بزغت، على جناح الرسالة المسيحية، الحكمة الإلهية... ولئن حسب أحدكم نفسه حكيماً ليوم الدينونة هذا العالم، فليعمل على أن يكون مجنوناً كيما يصير حكيماً، إذْ حكمة هذه الدنيا هي جنون أمام حكمة الله/ رسالة بولص إلى أهل قولوس ك 2 ف9).
وبعد بولس جاء ترتليانس، ليواصل مهمة الدفاع عن «صحيح الإيمان» المسيحي والهجوم على الفلسفة ويدافع عن الحكمة الإلهية، إذ جعل المسيحيين الأوائل الأنبياءَ في مواجهة مباشرة مع الفلاسفة. بل أن ترتليانس اتهم الفلاسفة بأنهم انتحلوا حكمة الأنبياء ثم حرفوها وشوهوها ومن ثمَّ حكم على «تاريخ الفلسفة» بأنه ليس تاريخ تقدم بل «تاريخ انحطاط»! ثمَّ تراجع مستوى النقد المسيحي للفلسفة أكثر، ودخل بعض رجال الدين مرحلة التشويه والنيل من كرامة الفلاسفة وآدميتهم. فأُلِّفت الكشاكيل الحاوية للنكات والنوادر الجارحة بحقهم، فقد ألف يوستينس كتاباً سخر وتهكم فيه من الفلاسفة اليونانيين وصورهم كأنهم ضفادع وجناة يجمعون بين سوء الخِلقة وسوء الخُلق. من ذلك مثلاً ما قاله عن أفلاطون وكيف بِيعَ بَيْعَ العبيد لأنه شره، واتهم أرسطو بالغباء وتملق الإسكندر المقدوني. أما ديوجانوس، فقال عنه إنه أكل أخطبوطاً نيئاً ومات ببطنته وشرهه للطعام، واتهم الفيلسوف أرستيس بأنه كان يتعاطى الفجور والفسق تحت قناع الوقار.
أما القديس ثيوفيلوس أسقف انطاكيا، فكان يكن كرهاً شديداً للفلسفة والفلاسفة، وواصل خط التشنيع عليهم جميعاً، متهماً كل فيلسوف منهم بتهمةٍ تتراوح بين التهتك الجنسي لدى أفلاطون، وزنى المحارم عند أبيقور، واللواط عند الفلاسفة الرواقيين، بل إنه اتهم زينون وديوجانس بأكل لحم البشر. (ص35 مصائر. م.س.).
ومع تنصر الدولة الرومانية في عهد قسطنطين في القرن الرابع، كفت المسيحية عن أن تكون ديانة مضطَهَدَة لتغدو ديانة دولة قامعة. وبدأت عملية قمع الهرطقات والمذاهب المختلفة والمخالفة لدين الدولة. وولدت العقيدة «الصراطية المسننة» وأصبحت الفرق الجديدة متهمة بأنها من قبيل «المبتدِعة». أما «الفرقة الناجية»، فهي فرقة الدولة وحدها.
إنَّ تاريخ الفرق والانشقاقات والهرطقات في تاريخ المسيحية الأولى يبدو لا نهاية له. ويحصي طرابيشي ثلاثة وعشرين اسماً من أكبر وأشهر أسماء تلك الفرق والجماعات. وبعد مجمع نيقا المسكوني الديني، الذي عقد بدعوة من الإمبراطور قسطنطين سنة 325م، وافتتحه شخصياً. وكان الهدف منه مواجهة وتصفية الإريوسية بوصفها هرطقة مضادة للعقيدة المسيحية. وانتهى الصراع معها بولادة ما سمي «العقيدة الصراطية المسننة»، في نص عرض للتوقيع عليه من قبل الحاضرين في المجمع وقرر الإمبراطور معاقبة الرافضين للتوقيع عليه بالنفي من البلاد، فاختار الرافضون النفي.
واعتُبِرَت الفلسفةُ والتراثُ الإغريقي نوعاً من المرض بحسب تعبير الأسقف ثيودورايس الذي ألف كتاباً كان له رواج عظيم عنوانه «طريقة لشفاء الأمراض الهلينية». وعُزل وقُتل وسُجن رجال دين وحكم كثيرون، وأحرقت ودمرت مدن عدة. ففي مجزرة واحدة قتل ثلاثمائة وخمسين راهباً في كمين نصبه لهم سايروس الأنطاكي، رئيس البطريركية الأنطاكية، لأنهم من «الخلقيدونيين». وقد قمعت جميع مظاهر الثقافة اليونانية وأصدر الإمبراطور قنسطنسيوس بن قسطنطين مراسيم إمبراطورية بإغلاق جميع المعابد ومنع الدخول إليها تحت طائلة قطع الرأس ومصادرة جميع الأملاك للمخالفين.
وطاول الإرهاب الديني الفلاسفة في الأقاليم البعيدة، فقد لاحق أسقف الإسكندرية أثناسيوس الفلاسفة واضطهدهم، وقُتلت الفيلسوفة الإسكندرانية الأفلاطونية هيباثيا سنة 415 على أيدي الغوغاء. وفي منتصف القرن السادس، بدأت حملات التنصير القسري وفرض دين الدولة بالقوة على الناس، وشملت عاصمة الإمبراطورية القسطنطينية. وكان كهنة المعابد الوثنية يعتقلون وتبتر أطرافهم، ويطاف بهم وهم عراة في المدن، وتحرق كتبهم في الساحات. وبدأ الفلاسفة والعلماء المطاردون بالهرب واللجوء إلى بلاد فارس المجوسية، حيث أمر كسرى أنوشروان باستقبالهم وإكرامهم وأمر بترجمة عدة محاورات أفلاطونية إلى اللغة الفهلوية والسريانية.
يخلص طرابيشي في نهاية استعراضه المهم لوقائع اضطهاد الفلسفة والفلاسفة والهراطقة والمنشقين المسيحيين على العقيدة الرسمية في عهد المسيحية الأولى إلى الخلاصة التالية: «إنَّ تاريخ الفلسفة في مسيحية القرون الأولى هو تاريخ قطيعة وغياب. وكما أن العقيدة القويمة لا تقبل فلسفة خارجها لأنها لا تفرز فلسفة من داخلها... الفلسفة حتى لو كانت مسيحية، فإنها لا تملك إلا أن تكون سؤالاً وإلا كفت عن أن تكون فلسفة». (ص 66، مصائر م.س).
ولكي يكتمل مشهد مثلث العلاقات بين الفلسفة والمسيحية والإسلام، يكرس طرابيشي فصلاً خاصاً هو الثالث من كتابه لوقائع الارتكابات المعادية للفلسفة في الإسلام، لا بقصد المفاضلة بين طرفين بل بهدف قراءة تلك العلاقات في سياقاتها التاريخية الواقعية، كاشفاً ومفنداً في الآن ذاته الدعوات الاستشراقية الرينانية أو اشتقاقاتها العربية، بادئاً بقراءة الدراسة التاريخية العينية التي قدمها أبرز ممثلي الرينانية المستشرق غولدزيهمر سنة 1915. ويسجل أن العرض الطويل الذي قدمه غولدزيهمر لارتكابات السلطات والجهات الدينية الإسلامية كشواهد على سوء مآل الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي يخلو من أي إشارات حقيقية إلى وجود الفلسفة العربية الإسلامية نفسها. ويخلص إلى الاستنتاج التالي: إنَّ تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية الذي قدمه غولدزيهمر «هو تاريخ غياب لا تاريخ حضور».
بعد أن يعرض طرابيشي عشرات الأمثلة التي أوردها غولدزيهمر على الانتهاكات العربية الاسلامية بحق الفلسفة يلاحظ أنها ليست موضع تشكيك، ولكنها كلها منتزعة من السجلات التاريخية في القرن السادس والسابع والثامن ولا وجود لشاهد واحد يعود إلى ما قبل القرن الخامس الهجري. ويسجل كيف أن تلك الارتكابات المعادية للفلسفة بلغت ذروتها مع ابن تيمية، الذي اعتبر ابن سينا وأصحابه الفلاسفة «من أخسِّ الناس علماً وعملاً وكفار اليهود والنصارى أشرف علماً وعملاً منهم من وجوه كثيرة». أما فتوى ابن الصلاح ضد الفلسفة والمنطق، فأفتى فيها بأن «الفلسفةَ أسُّ السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة... فالواجب على السلطان أعزه الله أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم من المدارس ويبعدهم».
ويعلل طرابيشي توقف غولدزيهمر عند حملة المتوكل العباسي ضد الفلسفة والفلاسفة واضطهادهم بأنها لم تكن تعبر عن عداء المتوكل للفلسفة بما هي فلسفة، بل جاءت كرد فعل سياسي حاد على تجربة المعتزلة، الذين هيمنوا على السلطات السياسية والثقافية والقضائية في عهد المأمون. وكانت تجربة الهيمنة الفلسفية المعتزلية على تلك السلطات تجربة لا مثيل لها في كل التاريخ الأوروبي الغربي أو الشرقي.
ينتهي طرابيشي إلى خلاصة مفادها أن وقائع التاريخ العربي الإسلامي تقول إنَّ الفلسفة العربية الإسلامية قد وجدت، وإن عشرات من الفلاسفة من المسلمين، سنة وشيعة، ومن النصارى واليهود والصابئة قد عاشوا ونبغوا في القرنين الثاني والثالث والرابع للهجرة، وألفوا كتبهم بالمئات، واصطنعوا بالعربية لغة فلسفية لا تصمد في المقارنة معها، قبل ثورة الحداثة الأوروبية، سوى اللغة اليونانية في العصر الهلينيستي أو لاتينية العصر الوسيط المتأخر. وكانت الكلمة الأخيرة لابن رشد غرباً والرازي شرقاً، قبل أن يدخل العالم العربي الإسلامي في دورة انحطاط حضاري طويل بدأ مع سقوط بغداد والمشرق العربي تحت سنابك خيل المغول سنة 1258م.
أما «نظرية الضربة القاضية» التي وجهها الغزالي إلى الفلسفة، فيعتقد طرابيشي أنها نظرية ساذجة أو سيئة النية، ساذجة لأنها تعتقد أن بمستطاع فقيه متكلم، كان فضلاً عن ذلك موظفاً أيديولوجياً لدى الدولة السلجوقية، والمقصود الغزالي، أن ينهي بمفرده الفلسفة ويدمر صرحها، وهي سيئة النية لأن الغرض المسكوت عنه فيها هو أن الفلسفة العربية الإسلامية هشة بتكوينها وسريعة العطب بطبيعتها «المستوردة» وقابلة للسقوط من الضربة الأولى لأنها مزدرعة ولا جذور لها في تربة الحضارة العربية الإسلامية. وفي كلتا الحالتين، السذاجة أو سوء النية، فإن نظرية «الضربة القاضية»... «ليس لها سوى مؤدى ضمني واحد هو أن الفلسفة في حضارة الإسلام عرض عارض، مصادفة تاريخية، بينما هي في حضارة المسيحية جوهر ثابت وقانون تاريخي». وبكلمات معبرة أخرى يلخص طرابيشي الوضع: «تنقلب الحقيقة التاريخية مرتين: فمنفى الفلسفة في مسيحية القرون الأولى يغدو وطناً، وتوطن الفلسفة في إسلام القرون الأولى يغدو مهجراً».
إن طرابيشي لا ينكر واقع وحدوث «ضربة الغزالي» الموجهة إلى الفلسفة لكنه يسجل أن الفلسفة العربية، وبعد ازدهارها في القرنين الثاني والثالث وجزء من الرابع الهجري ماتت فعلاً، وأن ضربة الغزالي جاءت موجهة إلى جثة ليس فيها حياة. فالفلاسفة الذين كفرهم وبدَّعهم، اعتبارهم من أهل البِدَع، كانوا قد ماتوا قبل نصف قرن تقريباً ولم يعد بوسعهم الرد عليه، والذي رد عليه هو ابن رشد في كتابه «تهافت التهافت» بعد خمسة وسبعين عاماً، وبعد أن دخلت الفلسفة حالة من السرية في الأندلس حيث كان ابن رشد يعيش بحماية البلاط ليسلم، من قمع ممثلي «العقيدة المسننة القويمة».
أسباب موت الفلسفة العربية الإسلامية هي نفسها التي أدت إلى موت الفلسفة اليونانية في عهد المسيحية الأولى


أما أسباب موت الفلسفة العربية الإسلامية، فهي نفسها الأسباب التاريخية التي أدت إلى موت الفلسفة اليونانية في عهد المسيحية الأولى، ومنع ولادة فلسفة مسيحية. وبكلمات طرابيشي، فما قتل الفلسفة مرتين في مسيحية القرون الأولى قتلها للمرة الثالثة في إسلام القرون المتأخرة، إنه تسنين العقيدة القويمة. وهو يعيد بدايات «تسنين العقيدة القويمة» إلى أحمد بن حنبل في القرن الثالث الهجري أو بالأحرى إلى الحركة التي قادها أهل الحديث وشريحة متعاظمة من الفقهاء تحت اسمه، والتي بلغت ذروتها المتشددة مع ابن تيمية (661-728هـ) الذي لقب بحق مجدد الحنبلية في القرن الثامن.
لعل أبرز ما يوضح المراد بهذه المدرسة الإجماعية هو قول ابن حنبل «ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية»، أي أن الاجتهاد والإبداع والتساؤل الفردي صار حراماً وممنوعاً لأنه يعني الخروج على الجماعة والإجماع. ثم يسجل طرابيشي ميزتين حاسمتين للمدرسة الحنبلية هما: إنها أكثر تمسكاً من غيرها بالعقيدة القويمة لأنها مدرسة حديث في حين كانت المدراس الأخرى كالحنفية والشافعية والمالكية تعتمد على الاجتهاد والقياس والترجيح، والميزة الحاسمة الثانية أن الحنبلية كانت مدرسة فقه وكلام معاً بعكس المدارس الفقهية الأخرى التي كانت إما مدارس فقه كالحنفية والشافعية والمالكية أو مدارس كلام كالمعتزلة والأشاعرة.
فرق آخر يسجله طرابيشي بين الحنبلية وسواها هو أنها كانت تتوجه إلى الجمهور العريض أو «العامة»، بخلاف المدارس الكلامية التي كانت تتوجه وتخاطب النخبة المثقفة في المجتمع. ولهذا كانت الحنبلية تجند دعاتها ممن هم على صلة بالطبقات الشعبية العميقة. وعلى هذا النحو، امتلكت طاقة تعبوية لم تتح لأي فرقة سُنية أخرى. وبالنظر إلى واقعنا المعاش في القرن الحادي والعشرين يمكننا القول: إن الحركات السلفية التكفيرية المعاصرة ونسخها التيمية المستحدثة كالوهابية في زماننا لا تزال تنحو نحوَ المدرسة الحنبلية في توجهها إلى الطبقات الشعبية العميقة لتبني لنفسها حاضنة جماهيرية واسعة تساعدها على تحقيق وبناء هيمنة عقيدتها الشمولية الصارمة الواحدية.
في نهاية كتابه، يلخص طرابيشي دروس ثلاثية الفلسفة والمسيحية والإسلام بأن العالم المسيحي بعد انحطاط دام ألف سنة بدأ يتقدم، والعالم الإسلامي بعد تقدم خمسة قرون طفق يتراجع. العالم المسيحي انتهى إلى ما بدأ منه العالم الإسلامي، والعالم الإسلامي انتهى إلى ما بدأ منه العالم المسيحي... وفي كل هذا، كان الموقف من الفلسفة أي من مسألة العقل من العوامل التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار فالتقدم وبالتالي التأخر، هو أيضاً، وربما أساساً مسألة عقل ومسألة عقليات.
* كاتب عراقي