يتواصل تمدّد الجماعات الاسلامية المتشددة ضمن المعارضة العربية المسلحة في سوريا وتتوسع سيطرتها الميدانية، على اختلاف تنويعاتها السلفية الجهادية والقاعدية والإخوانية. وآخر حلقة في سلسلة هذه الجماعات هي الجبهة الاسلامية التي تم الاعلان عنها أخيراً، والمكونة من أكبر الفصائل الاسلامية العاملة سابقاً تحت إطار ما يسمى الجيش الحر. جبهة باشرت فور إعلانها السيطرة على مخازن ومستودعات الذخيرة التابعة لذاك الجيش في المناطق الشمالية، وصولاً الى السيطرة على معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا. حراك يشي بتقلص الجيش الحر كي لا نقول اضمحلاله، وهو الذي كان منذ البدء مجرد اسم هلامي فضفاض لا يتوافر على هيكل قيادي هرمي منظم ومركزي. وليس خافياً أن الجماعات المتشددة، وضمنها آلاف مؤلفة من الجهاديين الغرباء القادمين من كل حدب وصوب، باتت العمود الفقري للمعارضة المسلحة، ما اضطر واشنطن ولندن إلى تعليق المساعدات العسكرية غير الفتاكة للمعارضة، إثر إعلان هذه الجبهة سيطرتها على مواقع ومقار الجيش الحر في مناطق الشمال السوري. وهذا كله إنما يدل على مدى استفحال واقع التفكك والتخبط العاصف بالمعارضة العربية الطائفية السورية بشقيها السياسي والمسلح، والتي لطالما راهنت على تدخل عسكري دولي لم ولن يحدث كما بات واضحاً.
فالائتلاف الذي لطالما نصّب نفسه مظلة جامعة للقوى العسكرية، دع عنك السياسية حيث فشل فشلاً ذريعاً لجهة محاولة احتكار التمثيل السياسي للمعارضة، ها هو مع النفوذ المتعاظم للجبهة الاسلامية، فضلاً عن داعش والنصرة، يغدو بلا أي فاعلية وتأثير على القوى المسيطرة على الأرض. قوى لطالما كان يشوب علاقتها مع هذا الائتلاف وسلفه غير الصالح المجلس الوطني السوري المد والجزر تبعاً للأجندات المتعددة التي تحرك الطرفين. ولعل القاسم الأعظم المشترك بينهما كان العداء للكرد ولثورة غرب كردستان (كردستان سورية) وتحالفهما في خوض حرب تكفيرية تعريبية على المناطق الكردية.
والراهن أن تأسيس هذه الجبهة الاسلامية يسهم في تطييف الصراع أكثر فأكثر وتعقيد الوضع فوق ما هو معقد، ما يدفع الى عدم التعويل كثيراً على مؤتمر جنيف 2 حيث إن الواقع الميداني يشي بانفلات خطير وبضمور الجيش الحر لمصلحة صعود القوى الظلامية المتطرفة التي كانت على كل حال مكوّناً عضوياً ومؤسّساً لذاك الجيش، لكنها الآن تبتلعه ككل، وتحل محله تلك الجماعات الاسلامية وآخر تكتلاتها: الجبهة الاسلامية التي، ويا للنكتة السمجة، يصفها البعض بأنها معتدلة وهي التي تعلن جهاراً نهاراً سعيها الى إقامة دولة إسلامية في سوريا، وقس على ذلك.
فعشية جنيف 2 ومحاولات واشنطن، بدفع أساساً من أنقرة وبعض العواصم الخليجية، تنصيب الائتلاف العربي السنّي إطاراً أوحد للمعارضة السورية، تأتي كل هذه التطورات الميدانية لتثبت فشل هذه المقاربة. ولئن لم تمانع واشنطن في فتح قنوات اتصال مع هذه الجبهة الاسلامية، فمن باب أولى ان تنفتح على مجمل ألوان الطيف المعارض والمكوناتي في سوريا، وفي مقدمها المكون الكردي الساعي الى التمثل في المؤتمر الدولي للحل عبر الهيئة الكردية العليا كطرف مستقل يمثل القضية الكردية، بما هي محك التغيير الديموقراطي البنيوي في البلاد. قضية هناك محاولات حثيثة لتغييبها وعدم إدراجها على جدول أعمال المؤتمر، خضوعاً لأجندات عروبية وإقليمية معادية للكرد، ما يطعن في جدية القوى الراعية للمؤتمر في التوصل الى حل شامل ويجعله مجرد محطة للعلاقات العامة، ما دام يتجاهل قضية وطنية مزمنة ورئيسية كالقضية الكردية. فالهيئة الكردية العليا تتبعها قوة عسكرية كبيرة تقدر بعشرات آلاف المقاتلين والمقاتلات (وحدات حماية الشعب) تسيطر على أكثر من 20 ألف كيلومتر مربع، وأثبتت الوقائع أنها قوة دفاعية منضبطة ومنظمة وخاضعة في حراكها ونشاطها العسكري للمبادئ والاخلاقيات الحربية. ولعل حمايتها لمختلف مكونات غرب كردستان، كرداً وغير كرد، خير شاهد، سيما في تصديها ودحرها لأفرع القاعدة السورية (النصرة وداعش)، ما يجعلها القوة العسكرية الوحيدة على الارض السورية غير المتورطة في ارتكاب جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الانسان والتورط في حرب طائفية دموية باتت عابرة للحدود السورية وجاذبة للمنظمات المتطرفة السنية والشيعية على حد سواء. وحسبنا الإشارة الى التورط المتعاظم لتنظيم القاعدة عبر جبهة النصرة ودولة داعش، فضلا عن قوات حزب الله، في هذه الحرب الأهلية الطائفية الطاحنة، لنتبين أن الخيار الثالث الديموقراطي التعددي الذي اختاره الكرد عبر النأي بالنفس عن الدخول في هذه الحرب الطائفية هو الخيار الجدير بالدعم دولياً، بل وجب اعتباره خارطة طريق لإخراج البلاد من دوامة الدم والعنف، خاصة مع الشروع في تطبيق مشروع الإدارة الذاتية الديموقراطية في غرب كردستان، والتي تشكل وصفة خلاص لسوريا برمتها على أسس التعدد والتوافق وحق مختلف المكونات والمناطق في إدارة نفسها ذاتياً، في إطار دولة لامركزية اتحادية.

* كاتب كردي