تنعكس التغيرات التي يشهدها النظام الدولي باستمرار على النظام الإقليمي العربي الذي يتأثر بما يجري على الساحة الدولية، حيث تؤدي هذه التغييرات إلى تهشيم بعض أركانه وقدراته وتؤثر في مقدرته على اتخاذ قرارات مستقلة، خصوصاً أمام تنافر مصالح دوله. فالدول العربية فضلاً عن أنها لم تستطع حلّ النزاعات والخلافات في ما بينها، لم تعمل جدياً على تخفيف التوتر والحد من موجة الإرهاب والتطرف. في 22 مارس/ آذار 1945 نشأت جامعة الدول العربية، في مرحلة وإن كانت جداً خطيرة إلا أن المرحلة التي يمر بها الوطن العربي منذ 2011، لا تقل أهمية وخطورة، نتيجة انتشار قتل وعنف وتطرف ليس لها مثيل في العصر الحديث إلا بما قام به الكيان الإسرائيلي من مجازر بحق الشعوب العربية.وبالتالي فإن هذا النظام لم يعد يلائم ما تمر به الدول العربية من تقلبات وتحديات أمنية، كادت أن تؤدي ـ ولا تزال ـ إلى تفككها بل وزوال بعضها إن لم تسارع إلى تحسين أوضاعها وتمتين علاقاتها لمواجهة هذه التحديات التي اعتبر تنظيم «داعش» ـ ومن معه من منظمات متطرفة ـ أكبرها، لا سيما أن هذا التنظيم يعبّر عن فكر أكثر مما يعبّر عن تنظيم قائم بذاته فقط، وبالتالي فإن هذا الفكر لن ينتهي بسهولة، طالما أن هناك دولاً تدعم هذا التطرف من دون مواربة فتشارك في تقوية هذه التنظيمات بهدف استخدامها ضد الدول التي تقف بوجه سياساتها وهذا ما حصل مع سوريا على مدى 7 سنوات.

لماذا التركيز على الأمن القومي العربي؟
لأن الأمن من الأمور الهامة التي تتصدر أولويات الأمم وإن اختلفت في قوتها وحجم الأخطار التي تتعرض لها، حيث يقاس نجاح أي أمة بقدر ما توفره لشعبها من أمن، ولقد برز تعبير الأمن القومي على الصعيد السياسي واضحاً في العصر الحديث، وارتبط بالأحداث العسكرية على وجه الخصوص وبالتوازنات الإستراتيجية وصراعات القوى. ويعرّف هنري كيسنجر الأمن بأنه: «أي تصرف يسعى المجتمع عن طريقه لتحقيق حقه في البقاء».
مفهوم الأمن القومي العربي وإن كان يرتبط بالمرحلة التالية لحروب التحرير الوطني والاستقلال السياسي وطرد المستعمرين من المنطقة العربية، فإنه يدور «في المرحلة الراهنة حول مجموعة المبادئ التي تضمن قدرة الدول العربية على حماية الكيان الذاتي للأمّة العربية من أية أخطار قائمة أو محتملة (هيثم الكيلاني، دراسات الأمن القومي العربي، ص 21). فالأمن القومي العربي يستند في الأساس إلى وحدة الأمة العربية وإلى وحدة الانتماء وإلى مفهومي الأمّة الواحدة والمصير الواحد، (علي الدين هلال، - الأمن القومي العربي، دراسة في الأصول، شؤون عربية عدد 35 ‏سنة 1984 ص 21).
ويعرف الأمن العربي بأنه «مجموعة الإجراءات التي يمكن أن تتخذ للمحافظة على أهداف المنطقة العربية وكيانها وأمانها في الحاضر والمستقبل، مع مراعاة الإمكانات المتاحة وتطويرها (أمين هويدي، الأمن القومي المستباح، مجلة المنابر، العدد 9، 1986، ص 22).
وقد يطرأ سؤال جديد، ما هي النتيجة التي وصلنا إليها حتى اليوم؟
لقد كانت المحصلة في نهاية الأحداث التي تمر بها منطقتنا تراجعاً للأمن القومي العربي لأسباب منها ما هو سياسي كالنزاعات، ومنها ما هو اقتصادي كالمديونية والتبعية الاقتصادية، ومع أن جامعة الدول العربية عندما تأسست وأعلنت ميثاقها عام 1945 أوردت جملة من الأهداف التي تنوي تحقيقها، أمام عجز دولها على مواجهة الأخطار التي تتهددها منفردةً، إلا أن ميثاق الجامعة لم يذكر حفظ الأمن القومي، لكنه ذكر في المادة السادسة، أنه «إذا وقع اعتداء من دولة على دولة من أعضاء الجامعة، أو خشي وقوعه فللدولة المعتدى عليها، أو المهددة بالاعتداء، أن تطلب دعوة المجلس للانعقاد فوراً، وهناك تفصيل في هذا الموضوع. ولم يشكل ذلك مصداقاً للدفاع عن هذه الدول، ولم يحدد الوسائل اللازمة لردع العدوان وظلت بندقية هذه الجيوش المتفقة في مستودعات التخزين، ولم يبصر هذا التعاون النور، بدءاً من الاعتداء على مصر عام 1956 مروراً بحرب 1973، وقد شهدت الساحة العربية أربع جولات من الصراع العربي – الإسرائيلي منذ إعلان « إسرائيل» في أيار 1948 وحتى حرب تشرين الأول 1973 وصولاً إلى عدوان تموز 2006 والتأمر على المقاومة.
قضية التراجع لمفهوم الأمن القومي العربي، لم تنته هنا، بل تفاعلت لتدخل في مرحلة جديدة أكثر خطورة، بعد «ثورات الربيع العربي»، وانطلاق الحرب على سوريا، والتي شكلت الضربة الأكبر للأمن العربي، بعد أن دخلت جامعة الدول العربية في هذه الحرب على سوريا، بدل أن تعمل على إرساء السلام فيها والحفاظ على أمنها وسيادتها وكيانها الذي كان أمام خطر التقسيم إلى دويلات، بل ساعدت الجامعة بعض الدول العربية المتهمة بتمويل المجموعات المسلحة وتسليحها، على تأجيج النار الكبرى في سوريا بدلاً من إخمادها، لا سيما بعد أن قامت بتعليق عضوية سوريا من الجامعة في اجتماع وزراء الخارجية العرب في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011. ما تقدم جعل هناك شرخاً كبيراً بين سوريا والجامعة العربية، حتى أن دمشق تغيرت نظرتها إلى الجامعة، فالجامعة العربية لم تقم بدورها، وهي تمثل بعض الأنظمة العربية لا أكثر. لكن مع ذلك لا يمكن القول أن ليس هناك أمن عربي اليوم، على رغم التخاذل العربي، لأن الأمن العربي الذي يصنع اليوم مختلف كلياً لأنه أمن الشعوب المدافعة عن قضايا أمتها.
وبنظري هذا الأمن الجديد هو أمن قوى المقاومة التي تحفظ الأراضي وتحرر الأوطان وتدافع عن نفسها، من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، هذه الشعوب التي لن تقف مكتوفة الأيدي ضد أي تهديد لهذه المنطقة سواء من قبل الكيان الصهيوني أو الإدارة الأميركية أو بعض الدول العربية أو من قبل الوكلاء والأدوات المتمثلة في التنظيمات الإرهابية المدعومة من هذه الأطراف.

* باحث لبناني