ليس للسوري الأسماء والصفات العادية التي تطلق على غيره من البشر. ليس لديه رفاهية الصفات المجلوبة من زمن الآخرين على أرضه أو من زمن من أفتى له بوجوب الموت لقاء شعارات مزعومة، لا لأنه أكثر أو أقلّ من غيره، لا لتبجّح عنصري أو دونية مزروعة، إنما لأن لديه محنة ومحنة فقط، يعيشها بأحرفها الثماني وعشرين وكتائبها الألف، منذ سبع سنوات وهو يجوب اللغة بحثاً عمّا يصف توهته في الصراع والاختيار، منذ سبع سنوات وهو يبحث عن اسم له يقيه شرّ التوصيف المقيت: لاجئ في أرضه وفي أرض غيره، في حياته وفي حياة غيره، لديه أسماؤه الخاصة به، أو لنقل ملحقات أسمائه المنحوتة من أعمار تذوي وأرواح تجفّ، سماؤه ليست كسماء الآخرين، أرضه ليست كأرض الآخرين، أنفاسه الجافة، ملابسه المهترئة، أحلامه المصنوعة من حطام أجساد ومبان، سلاحه الفردي.
السوري المتخفّف إلا من كيس من البلاستك المقاوم للماء، يضع فيه القليل من حياة سابقة كانت صعبة لكنها ثرية أيضاً، ليعبر البحر، ويلفه حول خصره أو يربطه بحبل حول عنقه حين يقفز في الماء ويتابع سباحة إلى برّ مريب.
قال لي جوان، وهو أحد الأكراد الذين استطاعوا أن ينجحوا في العبور إلى اليونان في محاولته الثالثة، أنه كان يخشى فقط على صورة جده لأبيه الوحيدة في محفظته عندما قفز إلى الماء، وتفاجأ أنه كان قد نسيها أصلاً على طاولة الطعام في بيته في القامشلي.
ليس للسوري رفاهية الخيارات، ليس لديه رفاهية الانهيارات النفسية التي تصاحب حرباً مشتعلة. الأطباء النفسيون القليلون أصلاً في سوريا اختفوا خلال الحرب. تفاجأت بوجود طبيب نفسي في مدينة اللاذقية عيادته تكاد تكون مقهى «قصيدة نثر» حيث يلتقى بمرضاه أو أصدقائه هناك على طاولة موضوعة في الشارع، أو يتمشى معهم في محيط المقهى وهو يستمع إلى قصصهم التي لا تنتهي، يعالجهم في الشارع، في المقهى، على كرسي متهالك، وثمن الجلسة فنجان قهوة لا أكثر، والغرابة أن جميع من عالجهم بطريقته الغريبة هذه أخبروني مدى نجاح العلاج - لكنها رفاهية فعلاً هذه الأمراض الطارئة، يلزمنا أطباء لمعالجة الحروق الناتجة عن مدفع جهنم والقنابل الفراغية. أطباء لعلاج الأعضاء الناقصة والعظام المكسورة، الثغرات التي تخلّفها طلقات القناص والجروح التي تتركها الشظايا المتفجرة، يبحث السوري عن رغيف لا يبالي بما هو مدهون، زيت زيتون أو زيت صناعي أو مجرد ماء. الاضطراب النفسي بدعة أغنياء وثرثرة كسالى، ليس للسوري في بلده وقت يصرفه على الكآبة أو الحنين، الوقت يلزم للهروب من الرصاصة القانصة، من القذيفة العمياء، من الانتحاري الأحمق، للحاق بالحياة حيثما شرّقت أو غرّبت.
زياد شاعر شاب يخدم في إحدى مناطق حلب الساخنة، يقول جواباً على سؤال: ماذا تكتب الآن؟ ماذا أستطيع أن أكتب وثمة بندقية بفوهة سوداء مصوبة إلى رأسي؟ أكتب نجاة ما، أكتب خدعة تدعى العيش في مناطق التماس، أكتب حياة مغمسة بالانتظار، انتظار الموت أو النجاة، أكتب مصيراً غامضاً بقلم رصاص.
كان للسوري اسم كما كل مخلوقات الله، لكن في الحرب اختفى اسمه القديم وظهرت أسماء أخرى له، منهوبة من خزائن الصفات، فالاسم انطباق معرّف، انطباق على حافر الموت ومعرّف بمأساة بلغت من العمر سبع سنين لكنها طرية بعد كجرح حصل للتو، بجثة تبرد على الرصيف بين معبرين، بسجين يحنّ إلى شجيرات زيتون مثقلة، الاسم أيضاً رفاهية للسوري. يقول صديقي غسان: لدينا روح سورية لا تشبه أرواح الآخرين، ربما هي على هيئة قط بسبع أرواح، أو أحياناً على هيئة خشبة طافية على وجه المياه لا أكثر وربما أقلّ.
صرنا نقول السوري كأنه جمع جميع السوريين مثلما نقول صنوبرة ونحن نعني غابة، نقول غيمة قاتمة ونحن نقصد شتاء غاضباً في كانون، والسوري أيضاً هو القاتل الذي اكتشف في نفسه قدرة وحشية كنا ظننا أنه تخلى عنها طواعية منذ زمن، وهو الجسور الذي يقطع سبعة بحار وسبعة أودية في سبيل الهروب إلى جنة مفترضة، وهو اللعوب الذي يجد وقتاً بين نوبتي حراسة ليكتب قصيدة على فيسبوك لحبيبة منتظرة، وهو العاشق الذي يردّد أبيات العتابا على خط تماس في منطقة ساخنة، وهو السجّان والسجين والضحية والأضحية... هو المارد الذي خرج من قمقم الحكومة الضيّق إلى خرم اللجوء الواسع، وهو الخجول الذي يستحي من اسم والدته أو زوجته فيقول عائلتي، وهو الخائف من طمع الآخرين في أرضه فيمنحهم إياها أملاً بالخلاص، وهو الكفيف والأخرس والخائن واللص الذي يسرق قبلة من قبض ريح، هو الضعيف والبارد والمتهتك واليائس من ألاعيب السياسة والنائم في أحضانها، الخفيف أثراً على رمال الخليج الظالم والخفيض صوتاً في مخيمات تركيا الباردة. المشّاء والعابس والمنكفئ الذي يأكل فلا يُنقص الرغيف والذي يتنفس فلا يُقلّ الهواء، المفكّك والبليد والمرتعب والراعب الذي ينتفض صدفة فلا يجد غير جسد أخيه ليزرع فيه سكينه والذي يثور فيحطم طاولة طعامه ويحرق بيدر قمحه، الكابت ألماً والمضمر حزناً، الفقير والمرتجف والعاصي والكسير والمنقوص والناقص، المكسور جناحاً والمدمّى عضداً، المتهوّر الذي يتصدّى بمفرده لرتل مدرعات مؤمناً بقدرته على صدّها ويفعل، الذي يهاتف أولاده قبل موته بدقائق موصياً إياهم بريّ مساكب النعنع، المرسوم بألوان خفيفة على جدار يتهدّم، البائع عمراً يملكه لشراء أيام أكثر لأخوة لا يملكونها، الشاري أمتاراً من الأرض بروحه لأجل أن يتقدّم الرفاق، البسيط والرئيف والحنون، الغامض واللغز والعنيد والمعجزة السيّارة، البريء البريء والجائع الجائع والجندي الذي يتجمهر، منفرداً، في قبر ضيق.
* كاتب سوري