عندما تبحث في سجلِّ الدول التي يتمُّ فيها تجنيد المُتطرِّفين من تنظيم داعش الإرهابيِّ تجد أنه يحوي جنسيّات تُمثِّل دولاً عديدة تنتمي إلى القارّات السبع بكلِّ أصقاعها. وعندما تُفتِّش عن جنسيّات عشرين ألف مُتطرِّف من ثمانين دولة لن تجد اسم سلطنة عُمان؛ لأنَّ هذا البلد ميّال إلى الوسطيّة والاعتدال يعيش فيها أهلها من الإباضيّة، والسُنـَّة، والشيعة على نغمة التعدُّديّة والسلام، وكأنَّ الجميع فيها عَزَمَ على أن لا يُسجَّل اسمه في سجلِّ حُرُوب المنطقة المُستعِرة، وللابتعاد من أمّة مُهيَّأة للقتال، ومُستعِدة للسباب والشتام؛ بسبب صورة مُزوَّرة صنعها فوتوشوب، أو جملة مُزيَّنة بمكياج سياسيٍّ في حرب طائفيّة باردة.
وقد لا نستغرب ذلك على أهل السلطنة وسياستها على الرغم من أنها جغرافياً ليست بعيدة عن تطاير شرارات الأزمات، وبالقرب من قلب فوهة بركان المنطقة، ولكن لديها العديد من المواقف التي اتسمت فيها دبلوماسيّتها الناعمة بالحياد الإيجابيِّ، فأحبَّت طاولة الحوار وعشقت التفاوض، ونظّرت له، وابتعدت عن فخاخ التوتر، وطبَّقت الوساطة في حلِّ الأزمات، أو بالأحرى كانت هي صاحبة الميزان في المنطقة، وعلى الرغم من ذلك كلـِّه لا تبحث عن الأضواء، أو صخب مَن يبحث عن دور، أو تنافس قياديّ.
هذا الاتصال السياسيّ مع كلِّ الأطراف مُستمِرّ تاريخيّاً حين قرَّر العرب قطع العلاقة مع مصر على إثر زيارة السادات، وأبقت عُمان علاقاتها، وحين تحالفت دول الخليج مع نظام صدام حسين في حرب الخليج الأولى لم تنضمَّ إلى التحالف الخليجيِّ مع العراق ضدَّ إيران، وحين شاركت في حرب الخليج الثانية، أبقت العلاقة مع بغداد بعد انتهاء الحرب.

الواقعيّة تعني التعامُل
الدبلوماسيَّ الذكيَّ في
تحقيق التوازن بين المصالح

وتستمرُّ سلسلة الحياد الإيجابيِّ في الأزمة السوريّة، فهي لم تقطع الصلة مع دمشق، ولم تطرد السفير، ورُبّما لاحقاً ستكون مسقط «جنيف العرب» لحلِّ الأزمة، ولها موقف واضح من درع الجزيرة في البحرين، وترفض الحرب في اليمن.
وعندما نقف امام الاتفاق التاريخيّ بين طهران والدول الكبرى نجد بصمات المُساهَمة العُُمانيّة واضحة جداً، وبواقعيّة أبجديّة المصلحة. السلطنة لا تعادي إيران؛ لأنها الجار الأقرب إليها، وهما يشتركان معاً بالإطلالة على مضيق هرمز أهمِّ مضيق استراتيجيٍّ في المنطقة والعالم، ويهمُّ السلطنة أن لا يكون هناك توتر، علاوة على أفضل العلاقات الاقتصاديّة التي تجمع البلدين، فقد وقّعت عُمان مع إيران عام 2014 اتفاقيّة قيمتها 60 مليار دولار تقوم بموجبها إيران بتزويد عُمان بـ 350 مليون قدم مكعب من الغاز عبر أنابيب الغاز المُمتدّة على طول 420 ميلاً تحت مياه الخليج، واتفاقيّات أخرى جعلت حجم التبادل التجاريِّ بين عُمان وإيران يصل إلى 250 مليون دولار، ونأت عن كلِّ أشكال المُواجَهات السياسيّة، والإعلاميّة مع الجمهوريّة الإسلاميّة، وكانت أوَّل زيارة للرئيس روحاني خارج إيران إلى مسقط.
هذه الصداقة الاستراتيجيّة تحوَّلت إلى أدوار مُهمّة في الوساطة؛ إذ كان لها الدور الأكبر في المُفاوَضات النوويّة بين إيران ودول الخمسة الكبار، وقد ذكرت هيلاري كلينتون في مُذكَّراتها Hard Choices تفاصيل الوساطة العُمانيّة منذ عام 2011، وقالت إنَّ السلطان قابوس أحد القادة النزهاء الذين يتمتعون بعلاقة وثيقة مع واشنطن وطهران والخليج، وكيف كانت تلك الوساطة في مُقدّمة جُهُود التقارب بين واشنطن وطهران خُصُوصاً في مراحل الاتفاق الأوليِّ، وقد نمت القناة التفاوضيّة العُمانيّة بحماسة، وكيف كانت منح موقف عُمان المُحايد، وامتلاكها Back-channel لعب دور الوسيط في أكثر من مُناسَبة مثل إطلاق سراح البحّارة البريطانيِّين الذين ألقت إيران القبض عليهم عام 2007، والبحّارة الأميركيِّين عام 2011.
الواقعيّة في سياسة السلطنة قائمة على إيجاد شخصيّة مُتميِّزة لها خُصُوصيّتها النابعة من باقة التعدُّديّة الاجتماعيّة التي تتسم بها، والهدوء النسبيِّ في الحركة في عزف المُبادَرات وسط ضجيج، وصافرات الحرب التي تعمُّ المنطقة، وعدم الانفعال مع موجات التفكير، والاصطفاف، والمُبالغات في تقدير عُمق الأزمات التي تمرُّ على المنطقة، والبحث عن الاتزان، وحساب المصلحة، والتفكير في أنَّ الأزمة التي تمرُّ بها المنطقة لن تكون حرباً بين علي وعُمَر.
الواقعيّة في سياسة السلطنة تعني التعامُل الدبلوماسيَّ الذكيَّ في تحقيق التوازن بين المصالح في منطقة تشتدُّ فيها الاصطفافات الحادّة، وفي حرب الإيديولوجيّات، وفي البحث المُستمِرِّ عن مُعادَلة كسب الجميع، بل الواقعيّة في قدرة سلطنة عُمان على الجمع بين المُتناقِضين بقنوات سِريّة وأخرى علنيّة، وصندوق صنع القرار لجمع القوى المُتحاربة.
هذا الدور كان لمُعالجات سابقة لسياسة خارجيّة عُمان التي اتصفت بأنها أقرب إلى العزلة Policy of isolation، ولكن إن كانت هذه هي عزلة فهي عزلة عن فِتَن، ودوَّامات الصراع والاضطراب الاجتماعيِّ، والسياسيّ.
الواقعيّة تجعل كلَّ طرف يُريد الإفادة من التعاون العقلانيِّ المُمنهَج، فهي عبَّرت عن رفضها بوضوح المُشارَكة في عاصفة الحزم اليمنيّة، ورفضت مشروع الاتحاد الخليجيِّ الذي قدَّمته السعوديّة، والعملة الخليجيّة عشيّة قِمّة الكويت؛ بسبب رفض الرياض دور مسقط في الوساطة بين طهران وواشنطن، وتحفّظت على قرار درع الجزيرة في البحرين، ونأت بنفسها عن الغارات العسكريّة التي قادتها دول المجلس ضدَّ أنصار الله الحوثيِّين في اليمن، وتقوم عُمان بدعم الحلِّ السلميِّ في اليمن، وتبذل جُهُوداً واسعة في الوساطة بين الأطراف الذين يتفق الجميع فيها على أنها الشريك الثقة لمُمارَسة هذا الدور.
هناك أسباب كثيرة لهذه المواقف، ولكنَّ أبرزها هو احترامها الواقعيّة بكلِّ صُوَرها في مفاهيم علم السياسة الدوليّة، والبحث عن أبجديّات التعاون والمصالح المُشترَكة عبر منهج التوازن؛ انطلاقاً من زاويا عمليّة في علاقاتها الخارجيّة، كما يقول الوزير المسؤول عن الشُؤُون الخارجيّة يوسف بن علويّ: «الخلافات لا تحَلُّ إلا بالسِلم»؛ ولهذا فإنَّ الواقعيّة في السياسة الخارجيّة العُمانيّة عبر وساطات ناجحة، وحياديّة تضمن نجاح مساعي السلام، وكسب الأطراف المُتناقِضة.
* مدير مركز بلادي للدراسات
والأبحاث الاستراتيجيّة ــ العراق