حين كانت المعركة الجويّة تدور في سماء سورية ولا أحد يعلم إن كانت الساعات القادمة ستحمل معها الحرب الشاملة، كنت كعشرات الآلاف من اللبنانيين في ذلك اليوم الذين لم يجعلوا الأمر يؤثّر على جدولهم وخططهم، ولم يتردّدوا بل انطلقوا كعادتهم الى الجّنوب، قرب حدود فلسطين، في يوم العطلة. هم يعرفون جيّداً أنّ الطّرقات، حين تبدأ المعركة، تتحوّل فوراً الى ميدان موتٍ، وأنّ الجّسور ستُقصف وتُضرب المواصلات وتُعزل المناطق بعضها عن بعض.
هؤلاء النّاس لا يستخفّون بحياتهم ولا هم يملكون مناعة تجاه الحرب وأهوالها، ولكنّهم أصبحوا ببساطةٍ يفهمون اللعبة وما فيها، واختبروها مرّاتٍ عدّة صاروا يعرفون أنّ لا فائدة من التوقّي الزّائد ولا من الخوف الكثير، فالمسألة ــ بعد حدّ معيّن ــ تصبح قدريّة وهي ليست في يدك. أكثر العاقلين في النصف الجنوبي للبنان قد حضّر، أصلاً، «خطّة حربٍ» لساعة الصّدام هذه، وخطّة بديلة وخطّة ثالثة؛ والكثير منّا قد عقد، منذ سنوات، صداقاتٍ مع أناسٍ من الهرمل والأقضية القصيّة ــ تحسّباً لهذا اليوم الآتي.
نحن نعرف ما ينتظرنا ولكنّه الطّرف الآخر الذي لا يعرف (جيشاً ومجتمعاً) ماذا يجب أن يتوقّع من الحرب القادمة، وهو الطّرف الذي سيواجه حالةً لم يعهدها من قبل ولم يعتدها ولا يمكنه، حتّى، تخيّلها. ما يعطي النّاس في بلادنا ثقةً واطمئناناً هو ليس اطّلاعهم على تفاصيل سلاح المقاومة وموازين القوى؛ بل أساساً وقبل كلّ شيء لأنّنا نلمس الخوف لدى الصهيوني، والتردّد والفزع، من خوض الحرب ضدّنا، وهو حالٌ لم نشهد له مثيلاً طوال حياتنا.

اشتباكٌ في الجوّ

لا أفهم لماذا يحتفي الكثير من اللبنانيين والعرب بالتقارير الإسرائيلية التي تتكلّم عن قدرات المقاومة وعن سيناريوهات الحرب، ويعتمدونها مراجع وتصديقاً على قوّة المقاومة، ويأخذون على محمل الجدّ إحصاءاتٍ من النّوع الذي خرج به تقريرٌ أخير (سيكون لدى المقاومة في لبنان أكثر من ألف صاروخ دقيق التوجيه خلال سنوات، ولو اعترضت الدفاعات الاسرائيلية 90% منها، سيسقط 100 صاروخٍ على الأقل على أهداف حساسة، الخ). التّاريخ يقول لنا إنّ الاستخبارات والجيش الصهيوني (ناهيك عن الصحافة والإعلام لديهم) لم تتمكّن يوماً من تقدير قوّة المقاومة، وسلاحها وخططها، ومعرفة ما ستحمله الحرب. فلنتذكّر أنّهم فتحوا الأنخاب في غرفة القيادة، في اليوم الثاني من حرب تمّوز 2006، وهم يعتقدون بأنّهم قد دمّروا القدرة الصاروخيّة لحزب الله، وأن الحرب قد دخلت «مرحلتها الثانية». بالمثل، لا شيء يدفعنا اليوم الى الاعتقاد بأنّ الصهاينة يعرفون ما ينتظرهم شمال الحدود؛ وإن كانت المواجهة والملاحقة في العقود الماضية قد جرت ضمن جغرافيا صغيرة ومحصورة، كلبنان، ولم تتمكّن اسرائيل من كشف ما يجري تحت أنفها، فمن الساذج التصديق بأنّها ــ حين تصبح خطوط الإمداد والقتال على طول المشرق العربي ــ ستتمكّن من رصد البناء العسكري، أو التحكّم به عبر غارةٍ هنا و ضربةٍ هناك.
بمعنى مشابه، نحن لا نعرف عن أحداث يوم السبت، بالتأكيد، سوى أنّ مقاتلةً اسرائيلية أُسقطت، وأنّ الجيش السوري قد أسقطها. أكثر التفاصيل التي يتناقلها الإعلام هي افتراضات واشاعاتً انتقلت بالتواتر. نحن لا نعرف، مثلاً، أن صاروخ سام-5 هو الذي أصاب الطائرة، مع أنّه قد تمّ إطلاق صاروخين على الأقل من هذا الطراز، بل إنّ بعض الخبراء العسكريين يشككون في أن يكون السام-5، الثقيل والضخم والذي صمّم أساساً لاصطياد طائرات الرادار والتزويد بالوقود عن بعد، وهي أهدافٌ كبيرة لا تقدر على المناورة، هو الذي أسقط طائرة «سوفا» المتقدّمة (وهي نموذجٌ من الاف-16 بتعديلٍ اسرائيلي لا تملك اميركا نفسها مثيلاً له، وهي بمقعدين وتحمل ــ بطبيعة الحال ــ أنظمة مضادّة والكترونيّة هي الأكثر تقدّماً لدى اسرائيل). بل إنّ فكرة أنّ ما جرى كان «كميناً جويّاً» هو الآخر غير مؤكّد، وقد وصل مراقبون الى هذه الخلاصة بالنّظر الى الكمّ الكبير من الصواريخ الذي أُطلق في وقتٍ واحد، ما يوحي بتحضيرٍ مسبق. ولكنّ التفسير قد يكون، ببساطة، ما ورد في البيانات الرسمية لسورية وللمقاومة، وهو أنّ قراراً قد اتّخذ وقواعد الاشتباك والردّ قد تغيّرت، وما جرى السّبت كان نتيجة ذلك. بالمناسبة، الصّواريخ السوريّة التي تمّ جمع حطامها وتأكّد استخدامها (وهي من طراز سام-3 وسام-6 وسام-5) كلّها أنظمة «قديمة»، أحدثها جاء الى سوريا في الثمانينيات، وإن خضع أكثرها لتطويراتٍ مع مرور الزّمن. بمعنى آخر، لم يتمّ الإعتماد على أنظمة أكثر حداثة تملكها سوريا، مثل سام-17 (بوك-ام1)، الذي يعتبر مثالياً لعمليات «الكمين»، وتعمل وحداته بشكلٍ مستقلّ ومتحرّك، ولا تنفع معه غارات «الإسكات» التقليديّة، والضربات على مواقع ثابتة للدفاع الجوي من مسافات بعيدة ومن خارج الحدود.

سلاح الضّعيف

منذ بداية القرن العشرين، ترافقت فكرة «سلاح الجوّ» مع تفوّق القوى الغربيّة على جيوشنا المحليّة. لولا الطيران، لما تمكّن البريطانيون من إخماد ثورة العشائر في عراق العشرين، وهي كانت من أوائل الحروب في التّاريخ التي تجري أساساً «من الجوّ»؛ وقد جرّدت الغارات القبائل من ميزتها الأساسيّة ــ في المناورة واختيار زمن المواجهة والإختفاء في الصحراء ــ وسمحت لبريطانيا بالسيطرة على مساحاتٍ واسعة بعددٍ قليلٍ نسبياً من الجّنود والخسائر. الكيان الصهيوني ايضاً ثبّت تفوّقه العسكري في اقليمنا بعد أن كدّست فرنسا الطائرات الحديثة في الكيان قبيل حرب 1956، كالـ«ميستير» والـ«ميراج»، وأعطته تفوّقاً جوياً مطلقاً، ثمّ تبعتها اميركا في أواخر الستينيات. أيّام الحصار في العراق، ظلّت الطّائرات الأميركية تنتهك شمال البلد وجنوبه، وتغير وتضرب، من دون أن يشفي العراقيون غليلهم بإسقاط أحد المعتدين ــ مع أنّهم حاولوا باستمرار رغم الفارق المادّيّ السّاحق، وقد استنبط المدافعون العراقيون الشجعان وسائل بسيطة لتجنّب صواريخ «هارم» الأميركية، ولم تتمكّن أميركا من إسكات دفاعاتهم ورادارتهم بشكلٍ كامل طوال هذه السنوات.
هناك قاعدةٌ في العلوم العسكرية عن أنّ التطوّر التكنولوجي يُعطي أفضليّة للمدافع على المهاجم (بافتراض تساويهما تقنياً)، وأنّ قفزات تقنية صغيرة لدى المدافع الفقير تقدر على خلق تغييراتٍ مهمّة في ميزان القوى. التقرير الاسرائيلي المذكور أعلاه (وقد كتبه آليكس فيشمان في «يديعوت احرونوت») هو إثباتٌ على هذه الفكرة؛ هو يحتفي بتغيير في عقيدة سلاح المدفعية الاسرائيلي، يقوم على خلق قوّة صاروخية دقيقة، تضرب أهدافاً كان يتولاها سلاح الجو أو المدفعية في السابق. المفهوم ليس جديداً ويتم الترويج له في الكيان منذ سنوات: لو أردت أن تقصف منزلاً في جنوب لبنان، تقول النظرية، فأنت ــ بدلاً من إشغال عشرات الجنود في بطارية مدفعية، والقصف لدقائق طويلة قبل أن تصيب الهدف وتدمّره، وبدلاً من أن تطلب غارةً جويّة تتكلّف وذخائرها مئات آلاف الدولارات ــ انت ستقدر على توجيه صاروخٍ واحدٍ دقيقٍ من عمق الكيان، يصيب هدفه وينفّذ المهمّة بكلفةٍ أقلّ وطاقمٍ صغير. المسألة هنا هي أنّ اسرائيل، حتّى مع هذه التقنية الجديدة، لم تكتسب «قدرةً» لم تكن موجودةً لديها من قبل، فاكتسبتها. بتعابير أخرى: هم كانوا قادرين على ضرب المنزل في جنوب لبنان في كلّ الأحوال، ولكنهم وجدوا «طريقة مختلفة» لفعل ذلك. أمّا التقنية نفسها، حين تنتشر لدى الخصم، فهي تعطي مفعولاً مختلفاً بالكامل. توجد نقطة ذهبيّة في تقرير فيشمان، حين يعترف بأنّ تقنيات الصواريخ الدقيقة قد أصبحت منتشرة، والايرانيون والسوريون واللبنانيون قد أضحوا قادرين على إضافة أنظمة توجيه على الصواريخ الموجودة تجعل دقّتها بالأمتار. هذا التطوّر، على عكس الصواريخ الاسرائيلية، يغيّر كلّ شيءٍ، ويعطي المقاومين قدراتٍ على الأذى لم يكن المخططون الاسرائيليون يتخيلونها قبل عشر سنوات. اليوم، لو حاول زعيمٌ اسرائيلي الاعتداء علينا، فإنّ قلقه لا يقتصر على أن يضطرّ لتبرير مقتل جنوده في سورية أو لبنان، بل قد يجد نفسه واقفاً، بعد الحرب، أمام خسائر اقتصاديّة كبرى، ومصالح مالية تأذّت، ومنصّات غازٍ تشتعل، ومطاراتٍ تشلّ بالكامل.
المعادلة نفسها تنطبق على الدّفاع الجوّي، ونحن في اقليمنا لن نحوز على مقدارٍ من الاستقلالية والسيادة حتّى تصبح هذه التقنيّات منتشرة في منطقتنا، مثل الصواريخ، وننتج وحلفائنا رادارتٍ خاصة بنا وأنظمة كفؤة وبكثرة، وننسخ خبرات بعضنا البعض ونستفيد منها. ليس لدينا اليوم اتّحاد سوفياتي واندروبوف ليعطينا أسلحة «كاسرة للتوازن»، ولهذا السّبب تخوّف اسرائيل (ومعها حلفاؤها العرب) من «الدور الايراني»؛ ونحن يجب أن نفهم بالمقابل أنّ إسقاط الطائرة الصهيونية فوق سوريا، إن لم يكن متّصلاً بضرب الطائرات السعودية في اليمن، وكلّ تطوّرٍ يحصل في ايران وفلسطين، فهو يجب أن يتّصل، لأنّ هذه الحروب كلّها خلفها عدوٌّ واحد (ومن كان يعتقد أنّ في وسعه التفريق بين اميركا وبين اسرائيل من جهة وبين حلفائهم العرب من جهةٍ أخرى، فليراقب ردود فعلهم اثر الاشتباك الأخير، إن كنتم لا تعرفون أنّهم مع اسرائيل فهم يعرفون موقعهم جيّداً ويتصرّفون على هذا الأساس ــ والوقح الصريح بينهم يظلّ أفضل من الخجول الموارب). بالمناسبة، الطائرة المسيّرة التي أشعلت الموقف منذ يومين هي، بحسب الصور والمعلومات، نسخةٌ عن الطائرة الأميركية السريّة RQ-170 («سنتينل» الملقّبة بـ«وحش قندهار»). وهي الطائرة نفسها التي تحكّم بها الايرانيون في الجوّ وأسقطوها في يدهم قبل سنوات، وها نسخٌ منها تخترق اليوم أجواء فلسطين - بحسب الكاتب تايلور روغواي في موقع «ذا درايف»، أنتج الايرانيون نسختين بنيتا على النموذج الأميركي، إحداهما تقودها المراوح وهي أقلّ خفاءً وأكثر بساطة من الأصل الأميركي، فيما الثانية تملك محرّكاً نفّاثاً صغيراً كنظيرتها «سنتينل»؛ ويضيف أنّ الطائرة التي أسقطها الاسرائيليون هي على الأرجح من النموذج الأقلّ تقدّماً.

خاتمة

غير أنّ الأساس في المقاومة هو ليس في الصّاروخ والتقنيّة، بل في السّياسة والإرادة، وهل انت تبني بلداً واقتصاداً على افتراض أنّ الحرب قادمة، وأنّك بلدٌ مهدّدٌ باستمرار، أم تعطي الأولوية لحيتان المال والخبراء الأجانب، ويكون لديك نظامٌ لديه رجلٌ في واشنطن ورجلٌ في دبيّ، ويخاف باستمرار على الأبنية الزجاجية في عاصمته من الحرب، وعلى الفنادق والسياحة ومصالح شركائه؟ إن كان هناك من درسٍ لأحداث الأيّام الأخيرة فهو أنّ هذه الحرب قادمة، والخيار هو بين أن تتحضّر لها وتعي كلفتها وبين منزلق التنازل السياسي الذي لا ينتهي. سقوط البلاد والأنظمة يأتي على صورتين: امّا أن يضعك عدوّك في حالة ضعفٍ ودونيّة (كما حصل مع السلطنة العثمانية أو العراق بعد حرب الخليج) ولا تتمكّن من المناورة وحيازة استقرارٍ يغيّر ميزان الأمور، أو أن تستسلم النخب الحاكمة من الدّاخل وتضعك على طريقٍ لا يسمح بالمقاومة ويجعلها خياراً مستحيلاً وخارج الأولويّات. كلّ التّجارب النّاجحة في المقاومة، من ستالينغراد الى فييتنام، المشترك بينها أنّها أعطت الفقراء في هذه الدّول سبباً للقتال والدّفاع عن بلدهم، واعتبروا أنّ الحرب حربهم والعدوّ عدوّهم بالمعنى الشخصي المباشر. الترجمة السياسية لهذا الكلام هي أنّ الدّولة يجب أن تكون للفقراء، وليس لأيّ أحدٍ آخر، فهم من يقاتل في اليمن وسورية والعراق، وهم من دفع الثمن الأغلى للحرب، وهم من دافع عن بلاده حين استباحها الأعداء والمرتزقة، وهم من ضغط صباح السّبت على زرّ الإطلاق، وراقب صاروخه وهو يلتحم بالطائرة المعادية. أيّ خطابٍ آخر عن السياسة والحكم ونصائح «الخبراء» هو خارج المرحلة وضروراتها، ولا ينتمي الى فكر المقاومة. السؤال هنا، بصيغة أخرى، هو: هلّ تعلّمنا شيئاً حقيقياً من سنوات الحرب المدمّرة ومن المأساة ومن تكالب الأعداء؟ وماذا تعلّمنا؟