قد يكون من الأدقّ لغاياتنا هنا، بدلاً عن الكلام على «أزمة هوية» في بلادنا، أن نتكلّم على «ترهّل الهويّة»؛ بمعنى أنّ الدّول القطريّة التي نشأت اثر الحرب العالمية الأولى لم تنجح في «بناء أممٍ» مكتملة تملك هيمنةً وعقداً مع المواطنين؛ والوحدة العربية ظلّت فكرة ولم تتمثّل في مؤسساتٍ وكيان؛ فيما الهويات الطائفية والمحليّة، على استمرارها ونفوذها، الّا أنّها لم تتحوّل هي الأخرى الى بديلٍ تاريخي (والّا لأصبحت الطوائف أمماً وانقضى الأمر هكذا).
بمعنى آخر، أنت تعيش بين هويّات متنازعة ولكن لا الأمّة العربيّة تحققت بشكلٍ ماديّ، ولا الدّولة القطرية أصبحت أمّة مستقرّة، ولا زالت الهويات الطائفية والمحلية أكثر تأثيراً عليك كفرد، وأكثر قدرةً على التحشيد وتوليد الولاء، من أحلامك الوحدوية ــ التي ظلّت أفكاراً ومبادئ ــ ومن دولتك القطريّة الهزيلة.
المشكلة ليست على المستوى الوطني الداخلي فحسب، بل هي تطال نظرتنا الى انفسنا واقليمنا ومكاننا في العالم وبين من هم حولنا. وهذه ليست اشكالية «ثقافية» أو معنويّة فحسب، بل لها مفاعيل سياسية ومادّيّة عميقة. هذا ينطبق حتّى على مسألة مثل فلسطين، فما هي القضية هنا؟ هل هي قضيّة «بلد» اسمه فلسطين و«شعبٌ اصلي» تعرّض للتهجير والسّلب؟ أم هي قضيّة عربيّة وجزءٌ من أرضنا قد سرق منّا؟ أم فلسطين قضيّة اسلاميّة، تحريرها فرض كفايةٍ على مجموع المسلمين؟ هذه الإجابات لا تتّسق مع بعضها البعض، والطّريف أنّ تسمع من يهرب من هذا السّؤال عبر كليشيهات من نمط أنّ «فلسطين قضية انسانية»، أو أنها «قضيّة أخلاقيّة» وكفى (ماذا يعني هذا الكلام؟ هل انتصرت، في التّاريخ يوماً، قضيّةٌ لأنّها «اخلاقية»؟ هل تظنّ أنّ هناك أحداً، بمن فيهم الصهاينة، لا يعتبر نفسه «أخلاقياً»؟ وهل تعتقد أن الأخلاق مفهومٌ مفرد، موجودٌ في رأسك ويتّفق عليه الجميع؟ المعركة تحديداً هي حول تحديد هذه «الأخلاق»، وترويج مفهومك عنها في وجه مفاهيم معارضة. حتّى حين تتفحّص التّاريخ وتقول السّرديّة بأنّ «الخير» قد انتصر ــ على النازيّين مثلاً ــ فإنّ القضيّة هنا قد أصبحت «أخلاقية» باتّفاقنا، غالباً، لأنها قد انتصرت وليس العكس).
العبرة الأساس هنا هي أنّه لا يمكننا مقاربة الهوية السياسية باعتبارها مجرّد «خطاب» أو «نصّ سردي» (script)؛ كلّها احتمالات متساوية وانت تختار بينها كما يختار المرء زوجاً أو يعتنق فكرةً تعجبه في الاكاديميا. يوجد أساسٌ ماديّ وتاريخي جعل أشكالا معيّنة من الهويات تظهر وتسود وأخرى تنحسر، وكلّ عمل الباحثين وجدالهم هو تحديداً حول تعريف وشرح هذا الأساس التاريخي والمادّي الّذي أوصلنا الى هنا. الفكرة «اللغوية» البحت عن الهويّة، أي التي لا تراها الا بما هي «خطاب»، تشابه في تبسيطها ولاتاريخيتها من يرى الهويّة على أنّها «حقيقة» وبداهة ما عليك الّا «اكتشافها» (لو كانت هناك ــ من بين كلّ سرديات الهوية المعروضة علينا في هذه البلاد ــ «هويّة\حقيقة»، لاكتشفناها واعتمدناها جميعاً خلال هذا القرن، ولما كنّا نعقد هذا النقاش).

القومية الحديثة: قصّة من فصلين

المثير في كتاب مايكل رينولدز هو أنّه لا علاقة له، في المنهج أو في النظرية أو الموضوع، بأدبيات «ما بعد الاستعمار» ونظرياتها، فمنهجه تاريخي تحقيقي بحت، وهو في النظرية متأثّر بأمثال تشارلز تيللي وماكس فيبير، ولكنّه يصل في حالاتٍ كثيرة (مثل انتشار فكرة القومية من اوروبا الى العالم) الى نتائج تقارب ما يقوله معسكر «نظرية ما بعد الاستعمار». الفارق هو أنّه، مع رينولدز، فإنّ عملية استنساخ المفاهيم الأوروبية وفرضها على العالم لم تكن «لغويّة»: «خطاب قوة» اوروبي يخلق خطاباً تابعاً أو يعرّف نقيضه في «الشرق» ويشكّله، الخ. بل هي عمليّة ماديّة وسياسيّة، يتتبّعها عبر الوقائع والأرشيفات.
فلنبدأ من البداية. القوميّة انتشرت في اوروبا، وتحوّلت الى النمط الناظم للسياسة في القارّة، لأسبابٍ عسكريّة اساساً. اثر الحروب النابليونية، يقول رينولدز، تيقّنت القوى الأوروبية المتنافسة بأنّ الجيوش «الوطنيّة» الشعبية (كجيش الثورة الفرنسية) ستتفوّق دوماً على الجيوش الصغيرة المحترفة، أو وحدات المرتزقة وميليشيات الاقطاعيين. احتاج الأمر حينها الى 7 أو 8 أحلافٍ كبرى، كلّ واحدٍ منها كان بحجم حربٍ قاريّة، والى اجتماع بريطانيا مع روسيا والنمسا وأكثر ألمانيا، من أجل إخضاع نابليون ومنع فرنسا من التهام اوروبا. العملية هنا لا علاقة لها بمنطقٍ بنيوي تاريخي أو بمسارٍ محتّم، أو بأنّ القومية «حقيقة» كان لا بدّ أن تسود، بل هي مرتبطةٌ بالتنافس بين الدّول في عالمٍ صراعيّ منفلت، هو عالم القرن التاسع عشر؛ وضرورةً نشأت في ظرفٍ تاريخيّ، احتاجت فيها الحكومات الى اللجوء لسواد الشّعب من أجل تأدية مهام الحرب والدّفاع. أصبحت مضطرّاً لأن تنظّم بلدك على أساس أنّه «وطن»، له علمٌ ونشيدٌ وتربية مشتركة ويرتبط أهله به كمواطنين، ويتجنّدون جماعيّاً للدفاع عنه (والكثير من عناصر السياسة الجمعيّة، وتطوّر حقوق المواطنة والتصويت والمشاركة، قد بدأت من هنا تحديداً وليس من أيّ مكانٍ آخر).
لم تنتقل هذه الصّيغة الى بلاد الشّرق عبر محض المحاكاة والتقليد (تذهب نخبٌ عربيّة الى اوروبا، فـ«تلتقط» فايروس القوميّة وتنشره في بيئتها، الخ)، بل ايضاً لأسباب سياسيّة وعمليّة ترتبط بالمصالح وموازين القوى. لم تكتفِ دول اوروبا بأن ترى العالم على شاكلتها بل هي، حين بدأت بتقسيم اقاليم السلطنة التي سقطت، اعتمدت النّمط ذاته وقرّرت ــ في مؤتمر برلين ــ تحويل البلقان الى دولٍ وطنيّة، كلٌّ يتطابق مع مجموعة لغوية أو اثنيّة، واعتبرت بأنّ هذا هو التقسيم «الطبيعي» للأمم، والشّكل الذي يتماشى مع رغبات الشّعوب. بالنسبة الى رينولدز، فإنّ مؤتمر برلين عام 1878 لم يكن مجرّد فاتحة لتقسيم السّلطنة، وتحويل أقاليمها الى دول مستقلّة، بل كان حدثاً تاريخياً فاصلاً غيّر كلّ شيء.
أرسلت معاهدة برلين، الى كلّ جماعات ونخب الدّولة العثمانيّة يومها، رسالتين. الأولى هي أنّها ــ على حد تعبير المؤرّخ الأميركي ــ أصبحت تملك «خياراً ثانياً»، بديلاً عن الخضوع للسلطان وقوانينه، فالقوى الأوروبية أصبحت في الدّاخل، وهي قادرة على فرض تنازلاتٍ هائلة على الحكّام في اسطنبول، وهي «تتبنّى» شعوباً وقضايا وتجبر العثمانيين على السّير وفق «قواعد» معياريّة، حتى على المستوى الدّاخلي. الرّسالة الثانية هي انّك، لو شئت أن تستمع اليك هذه القوى الاوروبية ولأن تحوز قضيّتك شرعيّة، فإنّ عليك إخراجها كقضيّة «قوميّة» وانّك تمثّل شعباً وكياناً قوميّاً وتنطق بمطالبه. الهوية القوميّة، في العرف الاوروبي، ليست الهوية «الطبيعية» في السياسة فحسب، بل هي ترتقي الى مستوى «حقٍّ مقدّس»، يعلو على أيّ خطابٍ آخر ويوازي الاستقلال القومي، هنا، «حقّ تقرير المصير».
لهذا السّبب أصبح قائدٌ كرديّ، مثل عبيد الله، حين يختلف مع الدّولة على امارته وحدود قوّته في الأناضول ــ بعد سنتين من مؤتمر برلين ــ يعلن أنّ عصيانه هو لتشكيل «دولة مستقلّة للكرد»، مطالباً بريطانيا العظمى بالدّعم باسم «أمّةٍ كرديّة» يمثّلها هو (بالطّبع، فإنّ الكلام عن قومية كردية عام 1880، كالكلام عن قومية يونانية او رومانية عام 1827، هو مجرّد مزحة. وعبيد الله كان قومياً كرديّاً بقدر ما كان الشريف حسين قوميّاً عربيّاً وبقدر ما أنا قوميّ فنلندي). بالمثل، خلال إعدامات 6 أيّار في بيروت هدّد أحد المحكومين، عبد الكريم الخليل، «سوف نطالب كلّ الدول المتحضّرة في العالم باستقلالنا وحريتنا». أمّا المحكوم الآخر الذي حافظ على إصراره وتحدّيه قبيل الإعدام، فقد كان ضابطا عثمانيا سابقا هو سليم الجزائري، الذي صرّح ببساطة أنّه يكره الأتراك (أمّا باقي من تمّ إعدامهم في بيروت، فقد دفع أكثرهم بالبراءة من التّهم والتجسّس، وأنّهم لا يريدون أن يموتوا عملاء وخونة، فيما طلب آخرون الرّحمة واعتبروا أنّ الأحكام قاسية ولا تتناسب مع ذنبهم). لا يجب أن نغفل هنا أنّ «الدّول المتحضّرة»، في عرف الخليل، كانت على مثال بريطانيا العظمى، التي كانت تفرض حصاراً على بلاده حينها وتقتل نسبةً لا بأس بها من شعبه، جوعاً وتهجيراً، خلال ثلاث سنوات ــ ولا أحد في لبنان اليوم يحقد على البريطانيين بسبب الإبادة والمجاعة القصديّة، ولكنهم يحفظون قصصاً كثيرة عن «التّركيّ» وأيامه.

الهويّة والسياسة الدوليّة

نحن هنا نتكلّم على سياسات نخب، فتحت لها أبواب احتمالاتٍ لم تكن موجودة (كأن تحلم بدولةٍ مستقلّة)، تتلاقى مع سياسات ومصالح اوروبيّة، ولكنّها لا تعكس ــ رغم ادّعاءاتها ــ حركةً «من تحت» أو ارادةً شعبيّة جماهيريّة. حتّى نقرّب الموضوع من السياق الحالي، فلنتذكّر حالة «الرّبيع العربي» وأكثر الاحتجاجات الشعبية حول العالم في العقدين الأخيرين. في عصر الخطاب الليبرالي المهيمن، ممثّلاً بمؤسسات دولية وحكومات قويّة وعواصم تقرّر شؤونك، أصبح أيّ خروجٍ لأناسٍ في الشّارع يتمّ وضعه اوتوماتيكياً في صيغة مطالبة ليبرالية. لو صاح المتظاهرون «نحن نكره اسرائيل» يُقال «يريدون ديمقراطية وانتخابات»، لو صرخوا «نحن جياعٌ نريد خبزاً»، يُقال «يريدون ديمقراطيّة وانتخابات». بل وأصبحت النّخب «الشبابية» تتسابق لتوصيف حراكها عبر هذا الخطاب، والتحوّل الى «وسطاء سياسيين» لأنهم يعرفون أنّ هذه هي المطالبة التي ستحظى بالشرعيّة والاهتمام في الإعلام الدّولي، واعترافاً محتملاً من حكومات الغرب ومنظّماته، فهم سيجدون فيك «التعبير الطبيعي» عن مطالب الناس (بل وأصبحت الحركات اليسارية والماركسية ــ والاسلامية أحياناً ــ تخوض التظاهرات تحت العناوين اياها: «تحسين» الرأسمالية و«الحوكمة» وإصلاحات مؤسسية معيارية).
في حالة سوريا والمشرق العربي في الحرب، وصلت هذه «الاستراتيجيا الخطابية» الى حالةٍ شبه كاريكاتورية: على الأرض، وباللغة العربيّة، خطاب طائفي وإبادي لا يخفي نفسه أو يناور، وعلى أساسه يجري التحشيد والقتال (فلا أحد سيقاتل ويموت من أجل الليبرالية والحوكمة، هذه أمور لا تستحقّ حرباً أهلية ومجازر)، بينما الخطاب «الرسمي» تجاه الخارج والمجتمع الدّولي يتكلّم عن الديمقراطية وحقوق الناس ومقارعة الاستبداد (أو ثوّار عشائر) والنّخب تقدّم قضيّتها بهذا الشكل بكل جديّة ــ واللعبة، على طول السنوات الماضية، هي في أن لا يختلط الخطابان أو يعترف أحدهما بالآخر. أمّا القادة والكوادر، فهم أكثر اهتماماً بنفي العلاقة مع «القاعدة» وتجنّب لوائح الإرهاب الغربيّة من معاملتهم لشعبهم أولوياته. الفكرة هنا هي ليست أنّ الخطاب الأوّل «أصيلٌ» والثاني «زائف»، فالإثنان هم نتيجة تلاقي ظروف محلية وإقليمية وسياسات قوة (من الخليج الى المخابرات الأميركية) صنعت هذا السياق وحوافزه.
اكتشفت هذه النّخب العربية اليوم، مثلما اكتشفت نظيراتها في القرن التاسع عشر، أنّ التماهي مع الغرب أو حتّى الحظي بدعمه لا يضمنان أن تنتصر. مثلما كان هناك النموذج اليوناني «النّاجح» (أو اللبناني، حيث تمكّنت كيانات من نيل استقلالها عبر الدعم الاوروبي، وحظيت نخب وأقليات، بالفعل، بفوائد عظمى جرّاء ضعف السلطنة وانهيارها؛ وإن كان الوجه الآخر لهذا الإزدهار هو مجازرٌ واحتلالات في اقاليم أخرى، وتدمير مجتمعاتٍ كاملة، وهو ما سنخوض فيه في الجزء الأخير من المقال)؛ الى جانب «النموذج اليوناني» كان هناك ايضاً النموذج الأرمني، الذي انتهى الى كارثةٍ وإبادة، أو النموذج العربي الذي أنتج استعماراً وتقسيماً. بل إنّ السياسات الأوروبية ذاتها قد لعبت دوراً سلبيّاً في حقّ أناسٍ راهنوا عليها. كما يكتب رينولدز، حين ترهن نفسك للسياسة الخارجية الأوروبية، فأنت ايضاً ستعتمد على إجماع هذه الدّول حتّى تتقدّم قضيّتك، وأن تتفق اميركا مع روسيا وبريطانيا، وحين تختلف هذه القوى لسببٍ ما، يتأجّل مصيرك الى ما شاء الله.
اليوم كما في الماضي، ليس في إمكانك أن تشتكي حين لا تسير رغبات الأمم وفق مصالحك، فأنت قد دخلت في ميدان التّذاكي و«الواقعيّة» وانت تعرف جيّداً أنّ حكومات العالم (سواء في القرن التاسع أم اليوم) تعمل ايضاً بحسابات واقعيّة ومصلحيّة، ولا تهمّها ــ في العمق ــ المبادئ ولا تحرير الشعوب ولا الديمقراطية حين لا تناسبها (بل إنّ الاستخدام الأداتي لهذه الشعارات كان واضحاً وغير ملتبس، يروي رينولدز مثلاً أنّ بريطانيا، حين أرادت منع روسيا من ضمّ مرفأ باتومي على البحر الأسود، بحثت واكتشفت أقلية اثنية هي مسلمو «اللاز» في تلك المنطقة، فتبنّتها وطالبت بحقوقها وأجبرت روسيا على وضع نظامٍ خاصٍّ لها، تضمنه بريطانيا. وقد جاء ذلك بعد فترةٍ قصيرة، بالمناسبة، على إبادة وتهجير أكثر مسلمي القوقاز). أمّا أن تعتبر فشل قضيّتك هو نتيجة «تآمر» حماتك عليك، فهذا ليس أكثر من طفوليّة، والعميل لا يملك ترف الإختيار.
المفارقة الثانية والأهمّ هي في أنّ الكثير من هذه الحركات القوميّة، كالعروبة، قد تحوّلت في أوطانها ــ خلال عقودٍ ــ الى شيءٍ مختلفٍ تماماً: تيّارات شعبيّة تحشّد لمحاربة الاستعمار وطرد الاحتلال وبناء دولةٍ اجتماعية والحفاظ على ثروات البلاد. هذه العمليّة هي من ألاعيب التاريخ التي انتبه اليها جوزيف مسعد في كتابه عن الهويّة الوطنيّة الأردنيّة، وهي تفتح الباب على قصّة جديدة (يتبع).