مدخل
يبدو لافتاً الإجماع الممنهج بين أغلب وسائل الإعلام الرئيسية في كل من مصر والسعودية والإمارات والبحرين، في عناوين أخبارها التي نشرتها في الخامس من نوفمبر الماضي، على تفسير النقد البحريني للأداء القطري في قضايا الحدود القديمة بين البلدين، على أنه اتجاه رسمي لدى حكومة المنامة للقول إن «البحرين تطلب استعادة أراضيها من قطر»، كما كتبت الأهرام المصرية، و«قطر اقتطعت أراضي منا (البحرين) ومن حقنا استعادتها»، كما عنونت فضائية العربية السعودية، و«البحرين تفتح ملف اغتصاب آل ثاني لأراضي المنامة..

وتؤكد: سنستعيد ما استولى عليه تنظيم الحمدين.. أجلنا طلب حقوقنا فتمادت قطر في التغول وهددت أمننا.. نمتلك حق استرداد ما اقتطع من ترابنا»، كما جاء في عنوان مطول لصحيفة اليوم السابع المصرية. تلك العناوين ذاتها تقريباً اختارتها صحيفة الأيام البحرينية شبه الرسمية، وصحيفة الاتحاد الناطقة باسم أبو ظبي.
لكن، بعكس ما تُظهر العناوين الصاخبة في وسائل إعلام الدول الأربع المقاطعة لقطر، التي تحدثت بوضوح لا لبس فيه عن اتجاه حكومة المنامة «للمطالبة بأراضٍ سيادية استقطعتها قطر من البحرين»، لم يحوِ التقرير البحريني المستند إليه، والمنشور في وكالة أنباء البحرين الرسمية (بنا)، في الرابع من نوفمبر ٢٠١٧، أي إشارة إلى نية السلطات البحرينية لإعادة النبش في قضية الحدود مع الدوحة، التي يفترض أنها سويت بقرار من قبل محكمة العدل الدولية في ٢٠٠١.

أولاً، محتويات التقرير البحريني

أشار التقرير المذكور إلى «أن البحرين خسرت جزءاً من كيانها السيادي حين اقتطعت الدوحة من حدودها السيادية، وتلك حدود يوثقها التاريخ المعاصر، ويعرفها القاصي والداني في بدايات القرن الماضي».
وفي مقطع آخر، يشير التقرير إلى أن البحرين «خسرت مرة أخرى جزءاً آخر من كيانها السيادي في الخمسينيات (من القرن الماضي) حين اقتطع منها البر الشمالي بقوة إسناد أجنبية، رسمت الحدود القطرية الجديدة جبراً، وفقاً للحدود البترولية الجديدة، فتوسعت تلك الحدود على حساب حقوق البحرين الشرعية»، شمالاً، وجنوباً.

عدّد التقرير البحريني ما سمّاه مظاهر التغول القطري في التعامل مع الخلاف الحدودي المرير


وعدّد التقرير البحريني ما سماه مظاهر التغول القطري في التعامل مع الخلاف الحدودي المرير، بيد أنه لم يشر مطلقاً إلى نية السلطات في البحرين إعادة طرح ملف الحدود مع قطر.
ولأسباب سأحاول مقاربتها تالياً، اقتطع إعلام الدول الأربع عبارة «حق البحرين في استعادة أراضيها» من سياقها، وتعاطى مع التقرير وكأنه قرار حكومي مستحدث، ستعلن بموجبه مملكة البحرين عدم التزامها الحدود القائمة، وعدم إقرارها بشرعية الأراضي والمياه الإقليمية التي حصلت عليها دولة قطر، سواء بحكم التبدلات في حدود الدول ضمن صراع القبائل في النصف الأول من القرن العشرين، أو عبر القرارات القضائية الدولية التي انتهت إليها محكمة لاهاي. في حين أن التقرير كان يتحدث عن أن الحق البحريني كان متاحاً، في فترات سابقة، لإثارة مسألة النزاع مع قطر حول جزر حوار ومنطقة الزبارة، لكن سلطات المنامة أجلت أو قبلت النظر في النزاعات الحدودية لمصالح خليجية أسمى.
بشأن ذلك، يشير التقرير البحريني إلى حادثتين، الأولى: عندما أجّلت البحرين إثارة الإشكال الحدودي مع الدوحة مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، مع عزم دول الخليج العربية الست على تأسيس مجلس التعاون الخليجي، «إكراماً لطلب الاشقاء».
الحادثة الثانية: حين قبلت البحرين، في أغسطس 1990، إحالة النزاع الحدودي مع الدوحة على محكمة العدل الدولية، بما يعنيه ذلك من «تعرّض جزء من كيانها السيادي للتحكيم الدولي، من أجل المصلحة الجماعية، ومن أجل عودة الشرعية للكويت الشقيقة».
ويقول الخطاب البحريني الرسمي إن قطر رفضت، إبان اجتماع القادة الخليجيين في الدوحة في صيف ١٩٩٠، بحث غزو صدام حسين للكويت، إلا بعد توقيع البحرين على بروتوكول الموافقة على إحالة القضية الحدودية على محكمة العدل الدولية.

ثانياً، التوقيت والدلالات

لم يرد في التقرير البحريني أن المنامة ستمزق اتفاقات الحدود المعتمدة، وستلقي بها في البحر، بيد أن تحريك الموضوع الحدودي في وسائل الإعلام العربية التابعة للخط السعودي لا يمكن التعاطي معه ببراءة، ودون تفحص في غايات إبرازه.
لقد تزامنت إثارة الخلاف الحدودي، الذي ما عاد خلافاً، مع محاولة الدول الأربع الزج بأدوات أخرى في صراعها مع قطر، بعد اتضاح أن حصار قطر والتنمّر عليها لم يؤدّيا أغراضهما، خصوصاً لجهة إعادة قطر إلى الحظيرة السعودية، ذلك أن المطالب الثلاثة عشر التي تقدمت بها الدول الأربع، بما في ذلك طلب إغلاق قناة الجزيرة، ما هي إلا غطاء لحقيقة الصراع على النفوذ والهيمنة، التي يراد فرضها على الدوحة.
ولعل قطر تكسب على غير صعيد، فقد تمكنت من اقناع الغرب بأن معظم الدول ذات صلة بالإرهاب في سوريا والعراق، ولا يقتصر ذلك على قطر. كذلك كسبت قناة الجزيرة تعاطفاً غربياً من باب دعم الحريات الإعلامية، لكن المكسب الأهم تمثل في مضي الدوحة في تمتين حلفها الإقليمي مع أنقرة، وإضافة حلفاء جدد، مثل السودان الذي لا يقف على الحياد إلا ظاهراً.
وإزاء ذلك، فإن الأذرع الإعلامية القطرية المتمكنة، بقيادة قناة الجزيرة، قادرة على إلحاق الأذى بصورة الدول الأربع وسياستها، من دون أن تجنح قطر للانفتاح على إيران، كما كان يعتقد.
ولعل حكومة الدوحة ترى في زيادة قناة الجزيرة لجرعة النقد لطهران أمراً حيوياً لتبرير استمرار نقد السعودية والإمارات. أي إبقاء الصراع ضمن المحور السني، واعتبار إيران لا تعدو كونها شريكاً صغيراً في مناوئة الدوحة للمحور السعودي.

ثالثاً، الغايات المحلية

بحسب أحد التفسيرات، كانت البحرين تأمل استثمار الخلاف السعودي الإماراتي المستعر مع قطر للزجّ بقضية الحدود من جديد، كذلك دفعت بالإشكال الداخلي في أتون هذا الصراع، واتهمت قيادات في جمعية الوفاق المعارضة على أنهم كانوا على صلة بقطر في تحريك تجمعات دوار اللؤلؤة الحاشدة في ٢٠١١.
وفي الحالتين، سيبدو الافتعال جلياً: في الشأن الداخلي، ركزت المنامة منذ الصيف الماضي على اتهام قطر بدعم المعارضة البحرينية، عوضاً عن الاتهام التقليدي لإيران.
وأخيراً، استدركت الحكومة، ووجدت من الأصلح لروايتها المعطوبة ربط المعارضة بطهران والدوحة معاً، ما دامت العاصمتان متهمتين بدعم الإرهاب، وفق الرواية السعودية.
من هنا، زُجَّ بشاهد زور يدعي أن زعيم الوفاق الشيخ علي سلمان، لوّح بطلب العون من إيران عشية تدخل القوات السعودية في البحرين في مارس ٢٠١١.
اللافت أن الشاهد تقدم بروايته المزيفة إبان جلسة محاكمة، انعقدت في الرابع من يناير ٢٠١٨، مخصصة للنظر في ما يسمى تخابر سلمان واثنين من قيادي الوفاق (الشيخ حسن سلطان وعلي الأسود) مع قطر.
إن التكييف فاقع، خصوصاً حين يأتي الادعاءان: التخابر مع قطر وطلب التدخل الإيراني، بعد سنوات من الوقائع المدعاة، لاستثمارها في سياق محلي وإقليمي مضطرب.

رابعاً، الخلاف الحدودي: جرح مندمل

حسمت المحكمة الدولية ما سمي أطول نزاع قضائي دولي بين بلدين، في ٢٠٠١. وقضت المحكمة الدولية بسيادة البحرين على جزر حوار وقطعة جرادة.
وتمثل جزر حوار ثلث مساحة جزر البحرين، بحسب الخطاب الرسمي البحريني. وكانت الإدارة البريطانية المهيمنة على ما كان يسمى مشيخات الساحل المتصالح قد أصدرت قراراً، في ثلاثينيات القرن الماضي، بتبعية هذه الجزر للبحرين، وهو الأمر الذي ظلت قطر ترفضه على الدوام، حتى حسمت محكمة لاهاي الأمر.
كما قضت المحكمة الدولية بسيادة دولة قطر على جزيرة فشت الديبل، وجزيرة جنان، ومنطقة الزبارة الواقعة على الشاطئ الشمالي الغربي لقطر.
وكانت الزبارة خاضعة لعائلة آل خليفة، قبل أن يستقروا في جزر البحرين ذات الموقع الاستراتيجي الحيوي، والغنية بالماء والنخيل واللؤلؤ، في مطلع القرن الثامن عشر.
وعلى الأرجح، كانت الزبارة ممراً لوصول آل خليفة إلى البحرين، أكثر منها مقر حكم دائم لفرع العتوب القادمين من الكويت نحو الساحل الشمالي القطري في ١٧٦٦.
وتأكيداً لذلك، جاء في حيثيات الحكم الدولي أنه «في الفترة بعد عام 1868 تم تدعيم سلطات شيخ قطر على الزبارة تدريجاً، بحيث تم الاعتراف بها في المعاهدة الإنجلو عثمانية في عام 1913، وتدعمت في عام 1937». ويكاد يكون الحكم الدولي تصديقاً على ترسيم الحدود الذي أقرته السلطات البريطانية بين البحرين وقطر بين عامي ١٩٣٧ (قرار تبعية الزبارة لقطر) و١٩٤٧ (قرار تبعية جزر حوار للبحرين).

خامساً، الموقف السعودي الإماراتي

ولا يبدو واضحاً في ما إذا كان قراراً سعودياً إماراتياً قد اتخذ لإعادة تفجير الملف الحدودي بين الدوحة والمنامة، وذلك للخطورة الكبيرة للصراعات الحدودية.
بيد أن الحماسة الإعلامية للتلويح بهذا الملف يعني أن خياراً كهذا معروض للإخراج من الأدراج، وفق نظرية كل الخيارات فوق الطاولة.
وفي الواقع، فإن خطورة القضايا الحدودية تتمثل في إمكانية فتحها باباً للحروب، وفق ما تشير إليه عدة محطات تاريخية، سواء بين البحرين وقطر حيث حادثة سيطرة قطر على فشت الديبل (١٩٨٦)، وإعلان ضمنها للفشت، أو التدخل العسكري السعودي في موقع الخفوس القطري (١٩٩٢).
وكما يظهر، فإن في جعبة مختلف الأطراف الكثير من الأوراق التي لم يجرِ تفعيلها بعد، بما في ذلك خيار الحرب. وصحيح أن الوجود العسكري التركي في قطر، وتدخل الأمير الكويتي، أجّل تنشيط بند اللجوء إلى القوة، بيد أن النزاع قابل للتفجر.

سادساً، تحديات تمزيق الاتفاقات

رُسمت الحدود بين المنامة والدوحة من قبل محكمة العدل الدولية، ورحبت بها الدولتان، والإقليم والمجتمع الدولي. ولا تتيح أطر المحكمة الاعتراض على مقرراتها، ولا استئناف الأحكام.
لذا، يرجَّح أن أي قرار بشأن الاعتراض على الحدود المرسومة في ٢٠١١ لن يجرِ التفوه به رسمياً. وهذا لا يمنع استمرار المناكفة، وزيارة وتيرة الجعجعة، التي تزيد من مناخات الشد، ويبدو هذا هدفاً يستحق العناء، بحرينياً وإماراتياً وسعودياً.
وصحيح أن السعودية لم تثر قضية الحدود مع قطر في الوقت الراهن، لكن لنتذكر أن البحرين تتصدر في حالات عدة مشهد التوتر، ضمن دورها المرسوم في المحور السعودي.

خلاصة

الخلاف البحريني القطري تاريخي، تتداخل فيه قضايا ذات صلة بما كان، وبما يفترض أن يكون من وجهة نظر البحرين على الأقل، التي ترى أنها خسرت البر الشمالي القطري الغني بالنفط والغاز.
ولعل الحكم البحريني يزداد حسداً وخنقاً كلما اتضح حجم كميات الغاز التي ينتجها حقل الشمال القطري. ومع أن الحقل يقع على الجانب الآخر من قطر، بمحاذاة إيران، وليس البحرين، فإن فرص المنامة للحصول على جزء من حقل الشمال كان ممكناً لو افترضنا سيطرتها على البر الشمالي، ولنلحظ أن التقرير البحريني لا يتحدث عن الزبارة فقط، بل البر الشمالي.
والتقدير المستقر لدى الجميع أن محكمة العدل أسدلت الستار على النزاع في حكمها الذي أصدرته في منتصف مارس ٢٠٠١، بعد نحو شهر على حصول ملك البحرين على دعم شعبي منقطع النظير لإطلاق إصلاحات سياسية، وذلك بالتصويت بالإيجاب على ميثاق العمل الوطني (فبراير ٢٠٠١)، الأمر الذي أشاع أجواءً استثنائية من الارتخاء والأمل، محلياً وإقليمياً.
لقد بدأ ملك البحرين عهده بدعم داخلي وإقليمي كبير، وفي الحالتين انتهى الأمر إلى مأساة، فالوضع الداخلي لم يبلغ هذا القدر من السوء من قبل، فيما أصوات الحرب تتعالى في الإقليم.
مع أن قطر لم تعلق على التقرير البحريني، ربما لكونها تقرأه كمناكفة، فإن الضجيج والقنابل الصوتية والدخانية قادرة على وضع مزيد من الملح على الجرح الخليجي الغائر، وزيادة تدخلات الدول الكبرى في وضعه المتردي.
*رئيس مركز البحرين للدراسات