لم تقم أي من الدول العربية حتى الآن بتجربة تنموية حقيقية، عدا ما تمّ آنفاً في عقد الستينيات من خلال التجربة الناصرية ونظائرها. لكن هذا لا يمنع من أن نقلب الأبصار بحثاً عن «ضالة المؤمن» ولو في اليابان. فماذا يمكن أن نستفيد من المسيرة التنموية والابتكارية اليابانية، على المستوى العربي عموماً، وفي جمهورية مصر العربية خصوصاً؟
لعله يمكن البدء بأن الأمر يوجب القيام بالمزاوجة الحصيفة بين مقتضيات إعداد أسس وقواعد البناء الابتكاري الوطني الفعال والمتجانس في المستقبل، وبين ضرورات تفعيل القدرات التكنولوجية المتاحة بالفعل في الوقت الراهن، ومحاولة بث الحياة الابتكارية فيها. وهذه مهمة كبرى تستدعي القيام بدراسة موضوعية لمنظومات الابتكار الوطنية في العالم وفي اليابان كمثال دالّ، على أساس معقول من التخصص والقدرة المهنية، حيث الكثير من الدروس التي يمكن استقاؤها من التجارب العالمية بما فيها التجربة اليابانية محل الدراسة.

مداخل لتنمية القدرة التنافسية

باستخدام نموذج «المنظومة الوطنية للابتكار»، يمكن الخروج بالمداخل التالية لتنمية القدرة التنافسية في السياق العربي، بالتطبيق على حالة جمهورية مصر العربية، في ضوء الخبرة اليابانية بالذات.
أولاً: ثنائية السياسة العامة والنظام الانتاجي هي الأساس المؤسس لنظام الابتكار المرتجى، وإن شئت الدقة: لتنمية وتفعيل القدرة التكنولوجية المصرية – يدعمها نظام تعليمي قوي، خاصة جامعات كثيفة البحث.
ثانياً: قد نبدأ بالتقليد، بواسطة الهندسة العكسية، وليس بالابتكار نفسه.
ثالثاً: يمكن أن تتبنى البلدان العربية المعنية، كمصر، من السلسلة الصناعية الدولية، الصناعات الناضجة Mature لتمارس فيها ميزة تنافسية في المرحلة الأولى لتطورها التكنولوجي المرتقب، ونوضح هذا في ما يلي:
1ـــ لا تتوفر لدينا الآن القدرات العلمية – التكنولوجية اللازمة لركوب موجة الصناعات البادئة introductory أي الآخذة في التوسع عالمياً، ولا حتى الصناعات النامية أي الصناعات المتوسعة بالفعل، هذا من جهة.
2ــ من جهة ثانية، يتعيّن أن نستبعد خيار الاندماج في صيغة للتخصص الصناعي الدولي ضمن الصناعات المنحدرة أو المضمحلة (وهي التي ينحدر عليها منحنى الطلب بشدة، والتي تقل فيها -إن لم تنعدم- فرصة تنويع المنتج ومن ثم تقل فرص الربحية)، وتلك هي الصناعات الملوثة للبيئة خاصة في حال عدم توافر احتياطات الأمان البيئي (مثل صناعة الأسمنت التقليدية) وتصنيع القطن قصير التيلة، وكذا الصناعات ذات القيمة المضافة بالغة الانخفاض (صناعات التجميع أو «ربط المفك» – وصناعات تعبئة الخامات المستوردة: من لحوم مجمدة وشاي وقهوة، وأدوات تنظيف... إلخ).

يجب عدم التعويل في المدى القصير على الشريك الياباني

3ــ فيتبقى لنا أن نركز على بناء ميزة تنافسية في أقل الصناعات «الناضجة» ضرراً، جنباً إلى جنب مع الدخول على خط الصناعات النامية والبازغة بصورة موسعة، وذلك كمرحلة انتقالية، ولكن على أن نعمل على خفض تكلفة المنتج، وتجويده وتنويعه للصمود في المنافسة، خاصة في ضوء تزايد الدخول إلى مثل تلك الصناعات في منطقة «جنوب شرق آسيا». وأهم المجالات التي يمكن ولوجها في هذا الشأن ما يلي:
ـــ تصنيع أشباه الموصلات Semi - conductors على نطاق تجاري واسع، وهي المواد المصنوعة من مادة الرمل أو السيليكون والتي تمثل ما يسمى بالشرائح الرقيقة التي تطبع عليها «الدوائر الإلكترونية المتكاملة» باعتبارها عصب الإلكترونيات الدقيقة أو المصغرة.
ـــــ المشاركة في الحركة العالمية لتصنيع – وليس مجرد تجميع – الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية (الراديو والتلفزيون ومسجلات الصوت والصورة).
ـــ تصنيع السيارات.
ــــ تصنيع أدوات «الورش الصناعية» المنتجة لمختلف المعدات المتخصصة في العمليات الصناعية كالخراطة وسبك المعادن.
ــــ تصنيع القطن طويل التيلة (في حالة مصر والسودان، وهما منتجان تاريخيان لهذه السلعة على المستوى العالمي).
ــ التوسع في صناعة الصلب، وبناء السفن (كما في الترسانة البحرية في مدينة الإسكندرية... إلخ).
وبالتوازي مع الدخول إلى بعض الصناعات الناضجة والصناعات النامية، يجب العمل على بدء اكتساب القدرة اللازمة في التكنولوجيات الجديدة وخاصة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا الحيوية والدوائية.
والحق أن ركوب موجة بعض الصناعات الناضجة والنامية سعياً إلى اكتساب أسرار التكنولوجيات البازغة، ينتج عنه ما يلي:
أولاً: اشتداد المنافسة مع المنتجين الآخرين لمنتجات مماثلة، أي منتجات على الطرف السفلي والأوسط من السلسلة الصناعية – التكنولوجية، ويتركز هؤلاء المنتجون في دول رابطة «الآسيان» في جنوب شرق آسيا، وكذلك الصين.
وأهم دول الآسيان من الزاوية الصناعية تايلند والفيليبين واندونيسيا وماليزيا وسنغافورة. وإذا كان لنا أن نقدم إشارة خاصة إلى مصر، فإننا نلاحظ أنه ليست هناك علاقات تجارية ذات وزن بينها وبين الفيليبين، وهي ضعيفة مع تايلند. أما أندونيسيا وماليزيا فلهما علاقات اقتصادية وثقافية متنوعة مع مصر، بحكم الإرث التاريخي المعاصر وبحكم الاشتراك في منطقة الحضارة الاسلامية. ولكن العلاقات الاقتصادية (تجارية واستثمارية) ليست كثيفة على أي حال. لذلك لا خوف من إمكان تأثير الواردات الصناعية من دول الآسيان على الصناعات الناشئة المتوقعة في مصر، ولكن يخشى من آثار المنافسة معها على الأسواق الأخرى «الثالثة» Third country وهي أسواق أوروبا وأميركا بصفة أساسية، ثم السوق اليابانية نفسها وهي سوق تتميز بخصائص معينة في مقدمتها أن وارداتها تأتي أساساً من مشروعات مشتركة مع الدول المضيفة في جنوب شرق آسيا. والمنافسة مع هذه الدول سعرية وغير سعرية. وفي حالة الصناعات الناضجة تتقلص آفاق المنافسة غير السعرية (المنافسة على النوعية) نظراً للمحدودية في إمكانية تنويع المنتجات أو تمييز المنتج.
وتشتد في المقابل المنافسة السعرية، إذ يتسابق المنتجون على خفض التكلفة، وعلى خفض السعر حتى لو كانت التكلفة مرتفعة نسبياً (ما يسمّى بالإغراق). وهذا مما يفرض على المنتجين العرب ضرورة خفض التكلفة بطريقين:
1ـــ زيادة الإنتاجية والكفاءة (بالتجديدات في العمليات الإنتاجية).
2ـــ ترشيد هوامش التكلفة غير الأجرية، والناتجة عن الإهدار والضياعات في العملية الإنتاجية. وعموماً يجب عدم المساس بالأجور، خاصة في ضوء المعدل المتسارع للتضخم السعري، وسبْق الأسعار للأجور في الرهان المزدوج: أسعار/ أجور.
ونعلم هنا أن دول جنوب شرق آسيا (وكذا الصين) تتميّز بانخفاض مستوى الأجور، وبارتفاع درجة عنصر العمل مما يعطيها ميزة تنافسية في مواجهة البلدان العربية المعنية كمصر.
وهناك ميزة أخرى لتلك الدول في التنافس مع الدول العربية المعنية: إذ أن مصر مثلاً «قادم متأخر» late comer بل «ومتأخر متأخر» إذ صح هذا التعبير late late comer مما يعنى أن الأسبق (الصين و«الآسيان») قد أسس مواقع له في الأسواق الدولية الرئيسية، على صعيد كل من: الجودة، والسعر المنخفض، والشهرة (وخاصة الصين). لذلك تحتاج مصر مثلاً إلى عناصر تكميلية للميزة التنافسية، غير معطيات عوامل الانتاج التقليدية في الميزة المقارنة، وأهم هذه العناصر أو الموارد التكميلية ما يتعلق بتمويل الصادرات والائتمان، والتسويق، والترويج، والتعبئة أو التغليف... إلخ. والمهم هنا أن يتوفر «الوعي التسويقي» في عملية اكتساب الميزة التنافسية في مواجهة المنتجين الأقدم، المنتجين للطراز «الصيني».
إذا كان الوعي الإنتاجي والتسويقي لدينا مطلوباً في التنافس مع المنتجين المماثلين للدول العربية، فإن الحرص والحذر مطلوبان تجاه فئة أخرى من الدول: في آسيا وفي شرق آسيا، في الشرق الأقصى تحديداً. وهي الدول الواقعة على الطرف الأعلى من السلسلة الصناعية – التكنولوجية للصناعات الناضجة والنامية، وتتركز في كوريا الجنوبية وتايوان، وخاصة في قطاع المنسوجات والأقمشة. ومصدر الحرص والحذر هنا أن المنتجين «الأعمق» deeper – إذا صح هذا التعبير – يمكن أن يحولوا دون دخول العرب ومصر على خط التعميق الصناعي – التكنولوجي، ويبقون هم مصدر إمداد الصناعات (المضمحلة) القائمة عندنا (وخاصة صناعات التجميع والتعبئة والاسمنت... إلخ) بالمدخلات الوسيطة والمعدات الرأسمالية والمكونات كثيفة البحث والتطوير.
ونحن نقصد هنا كوريا الجنوبية بالذات، إذ نستبعد تايوان، نظراً لضيق مساحة العلاقات الاقتصادية الرسمية أو المباشرة معها، لعدم اعتراف العرب -وسائر العالم- رسمياً بها وللعلاقة الوثيقة لمصر بالذات –لعوامل تاريخية- مع الصين الشعبية الأم.
أما كوريا الجنوبية فعلاقاتها الاقتصادية مع مصر قوية: سواء على صعيد المبادلات التجارية (مبادلة القطن والبترول بالالكترونيات الاستهلاكية). أو على صعيد الاستثمارات (خاصة في صناعة التجميع للتلفزيون والسيارات).
لذلك ستحاول منشآت كوريا الجنوبية عابرة الجنسيات في صناعتي التلفزيون والسيارات بالذات (دايوو، سامسونغ، غولد ستار، هيونداي) أن تؤخر تعميق التصنيع في مصر في هاتين الصناعتين، وأن تعيق دخولها إلى الأسواق الصناعية الرئيسية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية واليابان، وذلك بوسائل متعددة من بينها توسيع هامش الميزة التنافسية الكورية في الأسواق العربية، خاصة في المجال السعري: بخفض أسعار المنتجات الكورية، ولو بالإغراق.
ولذا يجب أن تكون هناك سياسة صناعية – تجارية قوية للبلدان العربية المعنية، تشرف على وضعها الهيئات أو الوكالات المختصة (وزارات الصناعة – هيئات الاستثمار... الخ)، وبحيث تعطى حوافز محسوبة للمنشآت التي تخوض المنافسة في مجال الصناعات الناضجة والنامية بالتعميق الصناعي – التكنولوجي، وتصنع بدائل للإمداد بالمدخلات والمكونات اللازمة، خاصة المكونات كثيفة البحث والتطوير.
يترتب على ما سبق مباشرة:
1ــ أنه إذا كان لنا أن نرتب أولوياتنا في البلدان العربية، وخاصة جمهورية مصر العربية، وذلك في مواجهة آسيا، فلتكن أولوية تعاملنا موجهة إلى اليابان لا إلى كوريا الجنوبية. فاليابان ليست منافسة لنا بأي حالة على السلسلة الصناعية – التكنولوجية للصناعات الناضجة والنامية محل الاعتبار، إذ هي دولة تركب «القمة» العالية للتكنولوجيا.
وقد قامت المنشآت اليابانية – في وقت سابق - بتزويد منشآت كوريا الجنوبية ببعض التكنولوجيات الأعلى تقدماً، كما هو الحال بين «هيتاشي» و«غولد ستار»، وبين «توشيبا» و«سامسونغ»، وبين «هوندا» و«هيونداي». لذلك يمكن أن تعتمد الدول العربية على المنشآت اليابانية في الدخول إلى طرف عال من السلسلة الصناعية – التكنولوجية للصناعات الناضجة.
الشعار الرئيسي هنا إذن هو: اليابان لا كوريا الجنوبية أو على الأقل: اليابان قبل كوريا الجنوبية.
2ــ إنه من الصعب أن تتحول المنشآت اليابانية الكبرى للاستثمار على نطاق واسع في الأسواق العربية، وذلك لأسباب بعضها مفهوم وبعضها غير مفهوم تماماً، وقد ينتج عن الطابع المتردد والحذر لليابانيين في التعامل الخارجي، وأسلوبهم البطيء المتدرج في اختراق الأسواق – غير السوق الأميركية التقليدية.
لذا يجب عدم التعويل في المدى القصير على الشريك الياباني. بيْد أنه يجب، بصفة عامة، توسيع مدى التعاون التكنولوجي الخارجي للعرب، بعدم قصره على أوروبا وأميركا، وإنما إحداث التنويع فيه شرقاً وشمالاً وجنوباً، بما في ذلك، بالطبع، الاتجاه إلى اليابان، كأحد البدائل المتاحة. فاليابان إذن تمثل فرصة للتنويع الضروري، وإن لم تكن فرصة لكسب شريك رئيسي جاهز في الأجل القصير.

خاتمة ضرورية

لعل من المهم أن نشير بأصابع التركيز إلى الاعتبار الدينامي في التعامل مع التغيرات المتلاحقة في بنية العلاقات الدولية، الاقتصادية منها والسياسية، وفي هيكل النظام العالمي. وقد أصبح من المهم أن نعيد النظر في شبكة التحالفات الاستراتيجية للعرب، بأعمق ما يمكن وعلى أوسع رقعة ممكنة أيضاً. من هذا المنظور، نجد راهناً أن روسيا والصين شريكان محتملان قويان للوطن العربي بأقطاره المختلفة. وقد برهنت روسيا خلال السنوات القليلة الأخيرة على مقدرة عالية في مضمار «ممارسة القوة» في العلاقات الدولية، خاصة في دوائر الأمن القومي الروسي اللصيقة، كما بدا في الموضوعين الأوكراني والعربي السوري، من دون منازع.
وبرهنت الصين على دينامية عالية في الفضاء الاقتصادي العالمي، على محاور متنوعة مبهرة، كما في آسيا الوسطى وأوراسيا (من خلال منظمة شنغهاي) وفي الامتداد الآسيوي-الأوروبي مروراً بقوس شبه الجزيرة العربية وقناة السويس (من خلال ما يسمّى بمبادرة الحزام وطريق الحرير)، وكذا في القارة الإفريقية كما هو معروف.
لذا، ينبغي إحداث التوازن في دوائر الحركة العربية المرتقبة، بعيداً عن «البوصلة» الأميركية التي طال بها الأمد وتقادم بها العهد، فغدت بالية وتمثل نوعاً من «العبء» الحقيقي على أمة العرب: تأخذ ولا تعطي لا بل تأخذ ثم تعطي في المقابل حزماً متتابعة من الأفعال الكارثية، كما في قضية «القدس» وقبلها قضية «داعش». فهل آن الأوان حقاً لإحداث التنويع الملائم في خريطة المعاملات الدولية للعرب، تقليلاً للخسائر في الأقل، وتعظيماً للمكاسب، إن أمكن ذلك؟
* أستاذ في معهد التخطيط القومي ــ القاهرة