عقب دخول اتفاقات أوسلو، التي وقعها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تحت شعار «سلام الشجعان» مع رئيس حكومة العدو إسحاق رابين في تسعينيات القرن الماضي، حيّز التنفيذ، شرعت حكومة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، في وضع المشروع الأميركي ــ الإسرائيلي، بإقامة «نظام شرق أوسطي جديد» موضع التطبيق العملي، فنظمت أول مؤتمر لتحقيق هذه الغاية تحت اسم «القمة الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، الذي عقد أول دوراته في الدار البيضاء المغربية في نهاية تشرين الثاني 1994، أي بعد ثلاث سنوات كاملة من بدء مؤتمر مدريد للتسوية، وقد عقدت تلك القمة بعد ذلك ثلاث دورات أخرى في القاهرة وعمان والدوحة (1997).
وصف الأميركيون تلك المؤتمرات بأنها تمثل «فرصة استثنائية لا مثيل لها لتعزيز التطورات الدراماتيكية» في المنطقة، وأيضاً «فرصة لا مثيل لها لرجال الأعمال كي يستكشفوا إمكانات المنطقة الاقتصادية» التي يعيش فيها 300 مليون مستهلك. وقد جاء البيان الختامي لمؤتمر الدار البيضاء ليعلن رسمياً «التداخل» الاقتصادي ــ السياسي بين الدول العربية والكيان الصهيوني بعد أن دشّنت اتفاقات أوسلو بين قيادة «منظمة التحرير الفلسطينية» والأردن، وقبلها مصر، مع الكيان، مرحلة التطبيع، إضافة إلى اتفاقات الاتصالات السياسية ومكاتب الارتباط التنظيمية بين دول عربية أخرى مع الكيان (تونس، المغرب، قطر، سلطنة عمان، البحرين).
وتركز اللقاءات والاقتراحات الخاصة بالعلاقات العربية ــ الإسرائيلية كافة على ضرورة الربط التكتيكي والاستراتيجي بين الدول العربية، وخاصة بلدان الخليج العربية، والكيان الصهيوني، بشبكة علاقات في جميع المجالات الاقتصادية، وذلك بهدف بناء اقتصاد مشترك وسياسة مشتركة يجني منهما الكيان القسط الأكبر من الفوائد والأرباح، فيما يحصد الطرف العربي خيبات الفشل التنموي والاقتصادي، إذ يفترض مشروع السوق الإقليمي (الشرق أوسطي) انتفاء ونهاية جميع الارتباطات المؤسساتية العربية، رغم أن هذه التجمعات لم تثبت نجاحها في حمّة التشرذم العربي والتصارع والتسابق على عقد «صفقات السلام» مع الكيان. فبعد أن انتهى «مجلس التعاون العربي» في أعقاب اجتياح العراق للكويت في آب 1990 وتجميد عمل «اتحاد المغرب العربي» بفعل الخلاف المغربي ــ الجزائري وقضية الصحراء الغربية، جاء دور إنهاء «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» بفعل حصار نصف الدول الأعضاء على قطر، فيما تتصاعد مؤشرات علاقات الإمارات والسعودية والبحرين مع الكيان الصهيوني.
ورغم مضي 20 عاماً على توقف مؤتمرات التطبيع الاقتصادي العلنية، فإن الحلم الإسرائيلي القديم بالتداخل (الشرق أوسطي) الذي يعني «الارتباط التفاعلي والانصهار الكلي في دائرة شروط الوجود والبقاء» وفي الحالة العربية الإسرائيلية، سيكون عالم الاندماج المصلحي والاقتصادي تحت الهيمنة الأميركية ــ الإسرائيلية مع الدول العربية. ويجري تنفيذه من خلال الانقضاض على الذات العربية، وهي فكرة ظلت تسير بخطى متعرجة منذ عهد ثيودور هيرتزل الذي طرح في نهاية القرن التاسع عشر مشروع بناء كومنولث عربي ــ يهودي، إلى أن جاءت التسعينيات من القرن الماضي وما رافقها وأعقبها من تحولات وتغييرات سياسية وإقليمية ودولية توجت انفراد الولايات المتحدة بقوتها العسكرية، فاتجهت إلى المنطقة لفرض مشروع إسرائيل التقليدي بإقامة سوق إقليمية شرق أوسطية لمواجهة التحديات التي اعتقد شمعون بيريز أن التنمية في المنطقة كفيلة بإزالتها.
ما الذي قدمته اتفاقات أوسلو في هذا المجال؟ العديد من الخبراء والباحثين الاقتصاديين، من بينهم إلياس توما وستانلي فيشر ويوسف الصايغ، وجدوا أن تلك الاتفاقات وما نجم عنها من اتفاقات أخرى تربط الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي بنحو محكم وتجعله تابعاً له، نتج منها أن قطع الكيان الصهيوني العلاقات التجارية الفلسطينية مع الأردن وغيره من الأقطار العربية (ما قبل أوسلو)، وهذا سيستمر ويقلل آمال الفلسطينيين في تنسيق اقتصادي مستقبلاً مع السوق العربية الواسعة وتنمية اقتصادية متوازنة ضمن مجموعة دول العالم. إذ إن البروتوكولات الاقتصادية، ومن بينها «بروتوكول باريس»، التي تحظى بدعم ناشط من الدول الغربية، وخاصة الدول المانحة والمؤسسات الدولية (مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ونادي باريس) تتيح للكيان الصهيوني أن يؤسس قواعد لاستخدام الاقتصاد الفلسطيني الرهين والتابع كجسر للتغلغل في الأسواق العربية (ابتداءً من التجارة الحرة والمشاريع المشتركة واتفاقات الكويز والمناطق الصناعية المؤهلة في مصر والأردن والمجمعات الصناعية في منطقة الحدود الشمالية من قطاع غزة) وانتهاءً بالاندماج الاقتصادي.

في تلك الاتفاقات كسبت إسرائيل الأرباح وحصد العرب خيبات الفشل التنموي


لكن هذا لا ينفي وجود مشكلات خطيرة في بنية تلك الاتفاقات الإسرائيلية مع قيادة «منظمة التحرير» وسلطتها في رام الله، ومع الدولة الأردنية، إذ تعطي الكيان الصهيوني سلطة واسعة للتأثير في الإطار المؤسسي للاقتصادات العربية، فيما لا تتيح للعرب أي رأي في الشؤون الاقتصادية للكيان الصهيوني. ولم تترك الترتيبات الإسرائيلية مع سلطة رام الله وما يصحبها من مخططات ومشاريع اقتصادية إقليمية أو متعددة الأطراف سوى إيجاد اقتصاد فلسطيني خاضع وتابع وقابل للاستغلال.
وبدلاً من توفير شروط الصمود ومواجهة الاحتلال ومشاريعه، يعمد رئيس السلطة محمود عباس وكبار مساعديه إلى تعزيز المشروع الصهيوني السياسي ــ الاقتصادي بتسهيل عملية التطبيع مع الكيان عبر مواصلة دعوة العرب لزيارة الضفة المحتلة، بما فيها القدس تحت شعار «زيارة السجين لا السجان»، كأنه تمكن زيارة السجين دون موافقة السجان.
إن الاقتصاد السياسي لـ«السلام» وفق التصور الأميركي ــ الإسرائيلي هو تحقيق الوجه الذي يراد أن تكون عليه المنطقة اقتصادياً ثم سياسياً بعد ذلك في سياق عالمي ميزته الليبرالية المتوحشة ومنافسات السوق والاقتصاد الحر وهيمنة المؤسسات الاقتصادية الكبرى والضخمة. وسيتكفل الاقتصاد وحده بتغيير السياسة التي ستتحمل هي الأخرى تغيير الذهنيات. ويسعى الكيان الصهيوني إلى أن يبقى الاقتصاد العربي في مواجهة اقتصاده المدعوم أميركياً وأوروبياً رخواً كسيحاً بشكل يحقق ذوبان الاقتصادات العربية في الاقتصاد الإسرائيلي بالتبعية وحتمية الارتباط، وهذا هو فحوى عملية التداخل. وقد تكفل الاحتلال الأميركي للعراق وأعمال التدمير التي أعقبت ما سمي «الربيع العربي» في تكسيح اقتصادات بلدان عربية رئيسية لمصلحة اقتصاد الكيان.
وقد سبق للكاتب الإسرائيلي حاييم بن شار الإشارة إلى أن تطوير شبكة متنامية من العلاقات الاقتصادية بين العرب والكيان الصهيوني من شأنه أن يجعل كلفة الانفصال عالية جداً بالنسبة إلى الأطراف العربية التي تريد الانسحاب من دائرة الترتيبات الإقليمية الجديدة، والأخيرة تهدف كما يقول قادة الكيان إلى «الانتقال من صنع السلام إلى تعزيز السلام وتقويته».