ما الذي يجمع بين مقتل بائع السمك في مدينة الحسيمة، شمال أقصى المغرب، في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، الذي قُتل «مطحوناً» بين كماشتي شاحنة جمع الزبالة، ومقتل 15 امرأة في مدينة الصويرة، وسط غرب المغرب، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي لقين حتفهن اختناقاً بسبب تدافعهن للحصول على مساعدات غذائية، ومقتل شقيقين شابين خلال الأسبوع الماضي في مدينة جرادة، شرق المغرب، لقيا حتفهما مطمورين في عمق إحدى آبار استخراج الفحم الحجري؟
ما يجمع بين كل هذه الحالات هو الفقر. إنه القاتل الصامت الذي يقتل سنوياً الآلاف من فقراء المغرب يموتون عوزاً وعجزاً واحتقاراً ببطء وفي صمت.
كان يمكن أن يموت كل هؤلاء في صمت، فالفقر يحصد سنوياً وببطء العديد من الفقراء من دون أن يثير موتهم غضباً أو احتجاجاً أو إدانة. وما جعل من وفاة فقراء حدثاً إعلامياً هو قسوة طريقة موتهم وبشاعتها وفظاعتها، وليس موتهم في حد ذاته.
بشاعة الموت هي التي حولت فقراء منسيين إلى شهداء. بائع السمك ذهب «شهيداً للحكرة»، أي للاحتقار الذي تعرض له من طرف رجال سلطة مدينته، وهو ما جعله يقفز وراء بضاعته المصادرة داخل صندوق شاحنة جمع الزبالة فمات بطريقة بشعة مطحوناً بين كماشتي آلة طحن المخلفات التي عصرته هو وسمكه حتى اختلط الدم بالدم. ونساء الصويرة ارتقين «شهيدات للدقيق» عندما كنّ يتدافعن من أجل الفوز بمساعدات لا تتجاوز قيمتها 15 يورو، عبارة عن قليل من الدقيق والسكر والزيت قد تسدّ بالكاد رمق أبنائهن لأسبوع أو أقل بقليل. والشقيقان اللذان توفيا مطمورين في عمق بئر في مدينة جرادة أصبحا «شهيدَي الفحم» الذي غامرا بحياتهما من أجل استخراج كيلوغرامات قليلة منه لبيعها بثمن زهيد يوفر لهما لقمة عيش مخضبة بسواده المتسخ.
كان يمكن أن يموت بائع السمك في صمت وببطء كما مات الكثيرون من أبناء مدينته قبله، وكما يموت اليوم ببطء وفي صمت آخرون مثله عوزاً وفقراً من دون أن ينتبه إلى موتهم أحد. وكان يمكن أن تقضي نساء الصويرة في صمت من دون أن يجدن من يذرف عليهن دمعة صامتة إلا أيتامهن الأربعين الذين خلفنهن وراءهن. فالعشرات من النساء المغربيات الفقيرات يمتن يومياً ببطء وهن يعانين في صمت من التهميش والنسيان، أو يتسولن على قارعة شوارع كبريات المدن المغربية، أو يمارسن مهناً تعرضهن للإهانة والإذلال من أجل لقمة عيش مرة. كذلك كان يمكن الشقيقين الشابين أن يموتا في صمت تحت وطأة مرض «السيليكوز» الذي ينخر في صمت صدور الآلاف من العمال الذين مروا بمناجم الفحم الحجري في جرادة التي تحولت منذ عدة سنوات إلى «مفاعلات» تنفث سمومها القاتلة في صدور فقراء المدينة المنسية.
الفقر ليس جديداً في المغرب، لكنه تزايد في السنوات الأخيرة، وحسب إحصاءات رسمية فإن عدد الفقراء في المغرب يبلغ نحو 4.2 ملايين فقير، أي ما يناهز 12% من السكان البالغ عددهم 35 مليون نسمة. وطبقاً لخريطة الفقر التي سبق أن وضعتها هيئة حكومية رسمية، فإن نسبة الفقر في البوادي والقرى المغربية تصل إلى نحو 24%، ما يعني أن كل قروي من أصل 4 قرويين مغاربة هو فقير يعاني فقراً مدقعاً ولا يتجاوز دخله اليومي دولاراً واحداً!
وحسب معطيات رسمية، فإن الحرمان من التعليم يبقى السبب الأساسي وراء تفقير أكثر من 56% من الأسر الفقيرة. يضاف إلى ذلك انعدام البنى التحتية المتعلقة بالخدمات الاجتماعية الأساسية من صحة وطرق، وهو ما يفسر حالة بؤس 20% من الفقراء، فيما يفسر عدم التوافر على سكن لائق حالة فقر 11% من فقراء المغرب.
المفارقة أن عدد الفقراء في المغرب ازداد، وحالات الفقر تضاعفت خلال السنوات الأخيرة التي تضاعفت فيها الثروة الإجمالية للمغرب، حسب ما خلص إليه تقرير «بنك المغرب» (البنك المركزي) و«المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي» (هيئة رسمية).
ففي الوقت الذي تضاعف فيه غنى المغرب، ازداد مواطنوه فقراً. هذا ما خلصت إليه تقارير رسمية. ما دفع الملك محمد السادس إلى التساؤل ذات خطاب رسمي: «أين ذهبت الثروة؟»، في إشارة إلى سوء توزيع ثمار النمو الاقتصادي على المواطنين وعلى مناطق المغرب.
فالنمو الاقتصادي الذي شهده المغرب في العقدين الماضيين (أي منذ وصول الملك محمد السادس إلى الملك عام 1999)، أتى على حساب الشرائح الواسعة من المغاربة، لأنه أغلق قنوات التوزيع الأساسية لثمار أي نمو اقتصادي، التي هي فرص الشغل. إذ تراجع عدد فرص الشغل التي كان الاقتصاد المغربي يخلقها سنوياً في الفترة ما بين 2001 و2008، من 186 ألف وظيفة إلى 70 ألف وظيفة جديدة كمتوسط سنوي في الفترة ما بين 2008 و2015.
ومقابل هذا التراجع في خلق مناصب الشغل ارتفع عدد المغاربة البالغين سن العمل من نحو 20 مليون شخص عام 2001، إلى أكثر من 24 مليون شخص عام 2015.
لقد أدى تفقير جزء كبير من المغاربة إلى تعميق الفوارق الاجتماعية خلال العقدين الماضيين. ودائماً وطبقاً لنفس التقارير الرسمية، فإن 10 في المئة من مجموع الأسر المغربية، تصنفها هذه التقارير على أنها الأكثر غنى، تستهلك وحدها أكثر من 33.8% من إجمالي نفقات الاستهلاك لدى مجموع الأسر المغربية، فيما يكتفي عُشر السكان من الفقراء بـ2.6% من مجموع ما تستهلكه باقي الأسر.
الحديث عن الفقر في المغرب لم يعد من التابوهات، بل أصبح جزءاً من الخطابات الرسمية، ففي آخر خطاب رسمي للملك اعترف فيه بفشل «النموذج التنموي» الذي اعتمده طوال فترة حكمه، وهو ما يفسر تضاعف حالات الفقر وارتفاع عدد الفقراء وتباين الفوارق الاجتماعية.
ولعل هذا ما يفسر ارتفاع حالات الاحتقان الاجتماعي التي يعرفها المغرب وازدادت وتيرتها خلال السنوات الأخيرة لعدة أسباب: أولها ارتفاع نسبة الوعي وسط فئات الشباب، خاصة في المناطق المهمشة والمنسية، الذين أصبحوا يقودون الحركات الاجتماعية في مناطقهم. وثانياً وجود وسائط تواصلية متطورة سهلت مهمة التواصل ونقل الأحداث وتعبئة المتظاهرين وتوعية المحتجين بحقوقهم، وهو ما أدى إلى وجود «تنسيقيات» محلية أصبحت تؤطر الاحتجاجات الاجتماعية وتقودها في مناطقها. وثالثاً فقدان الثقة في الوسائط التقليدية، خاصة الأحزاب السياسية التي فقدت صدقيتها، والأجهزة الرسمية الممثلة في الإدارة المتهمة دائماً في نظر المغربي بالفساد.
ما يجعل موجات الحركات الاجتماعية في المغرب تتردد بشكل متواتر مثل ارتدادات زلزالية هو وجود هذه الكتلة الحرجة من الفقر والفقراء الذين يشكلون صلب المجتمع. وما يعطي لهذه الحركات الاجتماعية بعداً احتجاجياً بنبرة وشعارات سياسية هو حالة الاختناق السياسي الذي تفرضه السلطة الحاكمة من أجل فرض تحكمها.
لقد أظهر النظام السياسي في المغرب طوال العقود الماضية قدرة كبيرة على كبح الحركات الاحتجاجية التي عرفتها البلاد من خلال اعتماد عدة مقاربات مختلفة كل مرة حسب السياق، سواء تعلق الأمر بإعلان إصلاحات جزئية سرعان ما يجري الالتفاف عليها، أو باللجوء إلى المقاربة الأمنية الصارمة. وفي كل مرة كان يؤجَّل البحث عن حلول لحالة الاحتقان الاجتماعي التي تبقى مثل احتياطات هائلة من الغضب تغذي الحركات الاحتجاجية.
أما ما يروَّج عن مقولة الانتقال الديمقراطي البطيء الذي استمر زهاء عقدين من الزمن في المغرب، فلم ينجح في إخراج البلاد من حالة الاختناق السياسي التي تعيشها، والدوران في نفس الدائرة المغلقة التي وضعتها داخلها السلطة الحاكمة.
وداخل هذه الطاحونة الكبيرة المكونة رحاها من احتقان اجتماعي واختناق سياسي، سيبقى فقراء المغرب مثل العصافير الضعيفة يختبئون ليموتوا في صمت، وقليل منهم من يحتسبون شهداء، اللهم إلا إذا ماتوا مطحونين أو مختنقين أو مطمورين.
* كاتب مغربي