يصرّ باحثون على اعتبار «الحشد الشعبي» العراقي صورة طبق الأصل عن «داعش»، على اعتبار أن «داعش» تمثل التطرف السني فيما «الحشد» يمثل التطرف الشيعي، ولكن الإعلام يركز على «داعش» ليس إلّا، وفق رأيهم. ويكرر هؤلاء ذلك عند كل جريمة يرتكبها «داعش»، عبر استحضار جريمة من هنا وهناك تورط فيها «الحشد»، أو قيل إنه تورط فيها... أو عبر «تعميمات لفظية» تخلو من مضامين واقعية.
صحيح أن الصراعات المسلحة الراهنة بجملتها تحتمل الإجرام المتبادل، فهي حرب تخرج المتحاربين عن طورهم الإنساني، وربما تحوّل بعضهم أو كثيرين منهم إلى وحوش ضارية تفتك بكل شيء يقف في طريقها. مثلاً، الحرب العالمية الأولى والثانية، شهدت قتلاً متبادلاً على نطاق واسع، ذهب فيه أطفال ومسنون ونساء ومدنيون ليس لهم علاقة بالميدان العسكري المباشر، ولكن هل تمكن المساواة بين جرائم أدولف هتلر والمقاومة الفرنسية مثلاً، وإن اتفقتا في شيوع القتل والتدمير المتبادل؟ أو بين ضرب اليابان بالقنابل الذرية وبين هجمات الكاميكاز الياباني على خليج بيرل هاربر؟
هذه هي حال الصراعات الدامية الراهنة الآن في عالمنا العربي، ليس فيها المسيح ولا مهاتما غاندي، ولكنها حروب ضارية تأكل الأخضر واليابس، على أنه ثمة فرق جوهري بينهما. فتاريخياً ولد «داعش» من رحم تنظيم «القاعدة»، ولكن ضمن رؤية تجسيد التراث الإسلامي في إطار دولة فرامانات صارمة، وضمن مساعي أبو مصعب الزرقاوي إلى إقامة دولة سنية في العراق، بعد الاحتلال الأميركي للبلاد وحل الجيش العراقي. فيما انبثق «الحشد الشعبي» كرد فعل على نجاح «داعش» أخيراً في السيطرة على الموصل وصلاح الدين وتهديد بغداد، واستجابة لفتوى المراجع الشيعية بالتجند لدفع هذا الخطر المفاجئ.
أيضاً، انبثق «داعش» من إطار فكري سلفي سنّي باعتبار ابن تيمية مرجعاً وموجهاً رئيسياً في رؤية التنظيم وفقهه الشرعي، باعتبار الشيعة روافض مرتدين يجب قتلهم بالجملة. فيما انبثق «الحشد» ضمن إطار مرجعي شيعي يرى وحدة الشعب العراقي بكل أطيافه المذهبية والعرقية، وإن أُخذ عليه تهميش دور أهل السنة وفق جهات عديدة محايدة، وهو تهميش متصل بخلفيات سياسية منذ حكم صدام حسين الصارم.
كذلك اتسم خطاب «داعش» الإعلامي بالصراحة التامة في وجوب القضاء على الشيعة باعتبارهم روافض مرتدين يمثلون العدو الأول للمسلمين السنّة، فيما حرص خطاب «الحشد» على تأكيد وحدة الشيعة والسنّة في مواجهة خطر «داعش» المشترك ضد كليهما، بل ضم في صفوفه قطاعات سنية، وأقام علاقات وثيقة ببعض العشائر السنية، ولكن طبيعة الشعارات التي رفعها «الحشد» اتسمت بما اعتبره كثيرون شعارات مذهبية تؤكد مظلومية الإمام الحسين، مثل شعار «لبيك يا حسين». كما اعتبر «الحشد» أن مظلومية الحسين لا تحمل بعداً طائفياً كون الشيعة والسنة مجمعين على حب الحسين. ولكن أكثر الأطياف السنية رفضت هذا التبرير بما تحمله هذه الشعارات من رمزية شيعية لا تخفى، فأهل السنة وإن أحبوا الحسين لكنهم لم يرفعوا مظلمته كشعار سياسي متجدد أسوة بالشيعة.
أيضاً، يعمد «داعش» إلى ربط كل بياناته وسلوكه السياسي أو الميداني باعتباره أحكاماً شرعية، ضمن خطاب ديني مذهبي ثابت. فيما يرتكز خطاب «الحشد» على الفعل السياسي المتصل بطبيعة نشأته كرد فعل على نجاحات «داعش» الميدانية، ضمن مستجدات الميدان العسكري، وإن بصبغة شيعية أحياناً.
من جهة أخرى، اتفق خطابا «داعش» و«الحشد» على العداء مع أميركا، وشاركتهما أميركا الموقف نفسه، فهي تعتبر «الحشد» امتداداً إيرانياً، وإيران عدو دائم لأميركا، وإن اتفقت الحال على معاداة «داعش»، لكن الفارق الأساسي أن الطيران الأميركي يتحرك في سماء العراق وسوريا ضمن مهمة عنوانها محاربة «داعش»، حيث يقصف تجمعاته ضمن آلية ضبط إيقاع الحرب على الأرض، من دون أن يعمد الوصول إلى مرحلة كسر عظم، بما يخدم مخططاً أميركياً اتضحت معالمه بعد تحديد خطوط تحرك كردية أو شيعية أو حتى «داعشية»، وإلّا فالقصف الأميركي يطاول الجميع من دون فرق.
وكان «الحشد الشعبي» قد اشترط لمشاركته قوات الجيش العراقي في إعادة السيطرة على تكريت عدم تدخل الطيران الأميركي، لأنه يشكك في حقيقة النيات الأميركية ويراها تدعم «داعش» بطرف خفيّ، وأنها تحتل سماء العراق من أجل مخططات بعيدة الأمد، ولكن «الحشد» لا يمارس ضغطاً جوهرياً على الحكومة العراقية لتتراجع عن طلبها الرسمي بالدعم الأميركي، بما يقلل من قيمة خطابه السياسي في هذا الصدد.
أيضاً وأيضاً، حارب «داعش» كل من اختلف معه، أو حتى كل من امتنع عن مبايعة أميره، باعتباره خليفة شرعيّاً تجب طاعته في المنشط والمكره، فيما حافظ «الحشد» على علاقات جيدة بكل الأطراف الرسمية والشعبية على اختلاف توجهاتها. في الوقت نفسه، مارس «داعش» صنوف القتل والإعدام والذبح والتعذيب والاستعباد وتفجير المساجد والآثار وتبنى ذلك رسميّاً باعتبار ما يفعله شريعة إسلامية أفتى بها علماء الأمة من أهل السنة وبخاصة ابن تيمية، فيما ظل «الحشد» ينفي ما نُسب إليه من قتل أو تعذيب أو استهداف لمساجد أهل السنة، بغض النظر إن كان صادقاً أو كاذباً.
«داعش» أقام أسواقاً لبيع العبيد والإماء من الأيزيديات خصوصاً، غداة السيطرة على مدينة سنجار الأيزيدية، واعتبر ذلك حكماً شرعياً طبقه المسلمون، وأفتى به العلماء، بل إن ابن تيمية كما برر «داعش» فعلته، بما قالته عبر مجلتها (دابق العدد 4) أفتى باستعباد جميع الفرق الإسلامية الضالة، وليس الجماعات الوثنية التي لم تدخل الإسلام كالديانة الأيزيدية. برغم أن القرآن الكريم كافح الرق والعبودية، وفتح أبواب تحرير العبيد والإماء، وختم ذلك بإلزام السادة مكاتبة عبيدهم وإمائهم على تحررهم بأموال يجمعونها من سادتهم أنفسهم.
كذلك حرص «داعش» على توثيق جرائمه بتقنية إعلامية قلّ نظيرها، وكان أشهرها عملية إعدام الطيار الأردني بالحرق، وعملية إعدام أقباط مصر العاملين في ليبيا على شاطئ البحر ذبحاً، وحرق بعض أئمة المساجد في الموصل، وارتكاب مجازر جماعية بحق كثير من العشائر السنية، ورجم النساء بتهم الزنا، ورمي بعض الصبية عن جدران عالية بتهمة ممارسة الفاحشة، وذبح كثير من قادة وعناصر الجيوش العربية، بل ذبح كثير من أعضاء الفصائل الإسلامية السنية كـ«جبهة النصرة» و«جيش الإسلام» ممن لا يختلفون مع «داعش» فقهياً، إلّا رفضهم بيعة البغدادي.
في المقابل، صدرت تقارير إعلامية على نطاق واسع من مؤسسات الأمم المتحدة، ومن هيئات وعشائر سنية، ومن مؤسسات إعلامية كثيرة، تؤكد قيام «الحشد الشعبي» بجرائم تتعلق بالقتل الطائفي والتعذيب والاعتقال واستهداف المساجد، بل إن رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي اعترف ببعضها، وهو ما يؤكد حقيقة وجود أساسٍ لها، لكن الفارق الذي ينبغي تلمسه بهذ الخصوص: هل ما قيل بحق «الحشد» يعبر عن منهج دائم في سياسته الميدانية، أم أن الأمر يعبر عن وجود ضباط وجنود متطرفين في صفوف «الحشد»؟
هو أمر لا يمكن إنكاره بأي حال، فـ«الحشد» يضم عشرات الألوف من المتطوعين المتحرقين لقتال «داعش» ودفع خطره، ومن الطبيعي أن تكون بينهم نسبة غير قليلة من الغلاة والمتطرفين الذين لا يفرقون بين «داعش» وبين حواضن «داعش» السنية من المغلوب على أمرهم، أو حتى من المتعاطفين من المدنيين العزل، أو ممن لا يفرقون بين المسجد السني وبين اتخاذ «داعش» مسجداً ما قاعدة تحرك، وربما يوجد في «الحشد» من يعتبر كل سنيّ «داعشياً» محتملاً!
لو أخذنا جميع التقارير السالفة بعين التصديق وسلمنا بها، هل يمكن عندها المساواة بين «داعش» و«الحشد»، مع التسليم أيضاً أنّ الحرب دوماً تأتي بالقتل والتجاوز المتبادل، وهي دوماً كفيلة بخلق حالات تطرف وشذوذ؟ أيضاً، فإن الإعلام يخلط عن قصد أو غير قصد بين «الحشد» كإطار ميداني مستقل وبين الجيش العراقي أو عموم الشيعة بأطرهم المختلفة، وما يمكن أن يصدر عن الغلاة منهم.
إن المقارنة بين الطرفين تعتبر مقارنة غير علمية للأسباب التالية:
ــ خطاب «داعش» خطاب إقصائي صريح بحق كل من لم يبايع البغدادي بمن فيهم أهل السنة. كما إنه خطاب يجمع بين تكفير الآخرين وهدر دمهم.
ــ خطاب «الحشد» حتى أن صيغ بنبرة مذهبية فهو خطاب يؤكد العيش المشترك، من دون المساس بالاعتبار الإسلامي للآخرين وحقهم في الحياة، وإن أخفى مشاعر مختلفة أحياناً.
ــ «داعش» يقتل ويعذب ويتبنى جرائمه بالبنط العريض، من دون مواربة، فيما ينفي «الحشد» ما يُنسب إليه من جرائم، أو يفتح تحقيقاً ليتبيّن حقيقة ما قيل، وينسبه أحياناً إلى تفلت بعض الضباط أو العناصر.
ــ «داعش» يفاخر بتفجير المساجد بمصليها، فيما ينفي «الحشد» ما قيل بحقه من استهداف المساجد، أو ينسبه إلى تفلت مجموعات خارجة عن السيطرة، ضمن حوادث قليلة.
ــ «داعش» استباح استرقاق البشر وأصّل لذلك شرعاً، وهو ما لم يُتهم به «الحشد».
ــ «داعش» دمّر البناء الحضاري والعمراني بما ضمّه من تراث قديم وأماكن عبادة، وهو ما لم يُتهم به «الحشد»، إلّا ما قيل عن استهداف مساجد ضمن ما أسلفناه.
ــ «داعش» هجّر المسيحيين من الموصل بقرار رسميّ صريح، واستباح الأيزيديين وغيرهما من الأقليات، وهو ما لم يُتهم به «الحشد».
إن أي مقارنة بين «داعش» و«الحشد» بهدف إراحة الضمير، أو التمويه على حقيقة الوجع، أو مجاملة بيئة ومزاج شعبي معين، عبر خلط الأوراق وإدانة الجميع إنما يعبر عن قصور حادّ في النظر لن يؤدي في النهاية إلّا إلى ترميم صورة «داعش» ورفدها بالمزيد من شباب الأمة الطائشين.
* باحث فلسطيني