أسباب خاصة وراهنة هي التي دفعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب لاتخاذ قرار وقح واستعراضي بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة. من هذه الأسباب ضغوط اللوبي الصهيوني المتواصلة لوضع قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس موضع التنفيذ، وذلك إنفاذاً لوعود وفاتورة انتخابيتين بعد صراع مرير بين ليكوديي واشنطن وتل أبيب مع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما (خصوصاً لمنع توقيع الاتفاق النووي الشهير مع إيران في 14 تموز عام 2015).
ثم أن ترامب يمر بمحنة متجددة حول اتصاله وحملته بمسؤولين روس طلباً لدعم انتخابي عبر التزود بمعطيات تحريضية ضد منافسته هيلاري كلينتون. يضاف إلى ذلك متاعبه المتجددة بشأن سمعته الملطخة بالكثير من حوادث التحرش الجنسي الذي لا يجاريه فيه، ربما، أحد! ثم، أيضاً، متاعبه المتواصلة في تراجع شعبيته وفي خسارة انتخابات فرعية أصرّ، في آخرتها، على دعم مرشح متهم بالتحرش، هو الآخر (ربما ليخوض عبره اختباراً شخصياً من نوع أن سوء السمعة لن يؤثر في الخيارات الانتخابية للمواطنين!)، فكان نصيبه الهزيمة في معقل مكرَّس منذ ربع قرن للجمهوريين. هذا إلى ضغوط «المسيحيين الإنجيليين» الذين يحرص ترامب على استمرار دعمهم، وهم المعروفون بنصرتهم المتواصلة لإسرائيل.
لكن هذه الأسباب، الخاصة بالرئيس الأميركي وذات الطابع الآني، لا تحجب أسباباً أخرى، أكثر أهمية طالما وجهت سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة. إن الولايات المتحدة كانت وما تزال الداعم الأساسي للسياسات العدوانية والتوسعية الصهيونية الموجهة ضد حقوق الشعب الفلسطيني، وضد سيادة البلدان العربية المجاورة بشكلٍ خاص. لقد وجد صانعو السياسات في «دولة واشنطن العميقة» أن ما حصل في المنطقة من حروب وصراعات وتفكك ودمار واستنزاف ودماء... قد أفسح في المجال أمام مواقف جديدة لمصلحة الصهاينة على حساب قضية الشعب الفلسطيني وعلى حساب مصالح شعوب المنطقة على وجه العموم. في مجرى ذلك، كما هو معروف، كانت خسائر العرب والفلسطينيين هائلة. وهي خسائر مادية ومعنوية من كل لون وحجم. كذلك فإن هذه الصراعات التي استطالت، واستعصت على الحلول، قد أدخلت على المشهد السياسي الحالي عوامل جديدة وأسست لأزمات وحروب مستقبلية ما جعل قضية فلسطين تتراجع حتى تتوارى تقريباً عن المشهد بالكامل بعد أن كانت، إعلامياً ووجدانياً على الأقل، قضية العرب الأولى ومحط أولويتهم المركزية. وقد برز بديلاً من هذه القضية «قضايا» أخرى على حساب مركزيتها وأولويتها: الصراعات الإثنية، الصراعات الإقليمية، الصراعات الطائفية والمذهبية خصوصاً، الصراع ضد التطرف والتكفير... ولقد تبلورت الاصطفافات والتحالفات ونشأت المحاور وفق هذه الأولويات، وسط تدخل خارجي كثيف، مباشر وغير مباشر أدى، بدوره، إلى النيل من استقرار وسيادة ومصالح شعوب وبلدان المنطقة العربية والإسلامية. كل هذا دون أن تتمكن مؤسسات هذه البلدان الرسمية المحلية أو الإقليمية من ممارسة أي دور إيجابي لضبط الصراع واحتواء المخاطر وتوليد التسويات... «طبيعي» أن ذلك قد أغرى الصهاينة لممارسة المزيد من اعتداءاتهم على حقوق الشعب الفلسطيني وصولاً إلى السعي لتصفيتها بالكامل. وهو أغرى أيضاً، داعمي الصهاينة على المجاهرة بسياساتهم المعادية والتي طالما ثابروا عليها تحت ستار كثيف من التمويه والمناورة. حتى أن الأميركيين نجحوا في تقديم أنفسهم وسطاء في البحث عن التسويات. فيما هم شركاء كاملو المسؤولية في التآمر على حقوق شعب فلسطين ومصالح شعوب المنطقة، وفي محاولة تعزيز الهيمنة على مواردها ومصائرها جميعاً!
خطوة ترامب عدوانية واستفزازية إلى أبعد الحدود. لكنها، في المقابل، متوقعة، بسبب الكابوس الذي تعيشه المنطقة: صراعات ونزيفاً وهجرات ودماء... وعليه فإن هذه الخطوة تقع في سياق الأحداث، وخصوصاً بسبب تدهور أوضاع الطرف العربي والإسلامي والفلسطيني... بشكل خاص. والتعامل، الصحيح المطلوب، مع هذا العدوان المستفز لا يمكن أن يندرج، ببساطة، في المشهد الصراعي الراهن وكجزء منه، دون أن يُحدث تبدلاً وتعديلاً في العلاقات والمقاربات والأساليب والأولويات. فمن الأكيد أنه لو اكتفى الأطراف بالشجب الكلامي لخطوة الرئيس الأميركي (ومعظمه مخادع ومن قبيل رفع العتب)، على غرار ما حصل خصوصاً في قمة إسطنبول، فلن يتغير، أي يتحسن، في المشهد العام شيء. أي أن واشنطن ستواصل سياساتها المنحازة وكل سياساتها العدوانية، والضحايا العرب والفلسطينيون ستزداد خسائرهم ويتفاقم عجزهم. أكثر من ذلك ثمة بين المتواطئين من تبنُّوا أولويات أخرى في الصراع والمخاطر والتهديدات. وهؤلاء يراهنون، كالعادة، على الزمن لامتصاص واحتواء ردود الفعل، وعلى القمع الصهيوني والأميركي للتكفل بما تبقى من اعتراضات عنيدة أو معاندة. والدعوات إلى فتح صفحة جديدة، وإلى التوحد في مواجهة الخطر، وإلى «تحويل العدوان الأميركي إلى فرصة» على طريقة «رب ضارةٍ نافعة»، لن تجدي ما لم ترتكز إلى قراءة جديدة لمعطيات المرحلة وإلى مراجعة كاملة لحقبة طويلة من الانخراط في الصراع، حقبة تمتد إلى حوالى سبعين سنة بالتمام والكمال. لا شكَّ أن في الرصيد محطات جدية من اجتراح المبادرات وحتى الانتصارات. نعني طبعاً مقاومة العدوان والتوسع الصهيوني في العقود الثلاثة الأخيرة، وقبل ذلك محاولات تحررية لم تكتمل أو تتكامل ولم يكتب لها الانتصار غالباً. ذلك أن الشعارات حلَّت محل البرامج والخطط، وأولوية الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها تقدمت على كل أولوية أخرى. واليوم يملي حجم التحديات الأميركية والصهيونية، أحداث انعطافة جذرية في التوجهات والأولويات. هذا مطلوب، بالدرجة الأُولى، من القوى السياسية، الرسمية والشعبية، الفلسطينية التي تحتاج الى التوحد على حد أدنى من التوجهات والبرامج الكفاحية لمواجهة مخطط التصفية الأميركي - الصهيوني - الرجعي ولاستعادة الثقة والقدرة على الاستنهاض، وبناء الأطر التنظيمية الضرورية من أجل ذلك. وهو مطلوب أيضاً، من القوى التي تخوض الصراع ضد مشاريع الهيمنة والتفتيت والاستنزاف وتتخذ من «الممانعة» شعاراً في معاركها الممتدة في المديين العربي والإقليمي. لا بد بشكل، أكثر وضوحاً وتحديداً، من تفحص الأساليب والأولويات التي يستغلها المتواطئون المحليون والمتربصون الأجانب، وخصوصاً لإثارة وتعميق الصراعات المذهبية والإثنية والقومية... في هذا الحقل ثمة أولوية ملحة لتحرير الأهداف التحررية من الأهداف الفرعية ذات المحتوى والشكل الطائفيين. فهذه الأهداف التي تتقدم على الهدف الأساسي أحياناً تُستغل على أوسع نطاق لتبرير ارتكابات بالغة الخطورة من نوع تشويه مجمل طبيعة الصراع بتصويره صراعاً محض طائفي ومحاولة تعبئة طائفة أو أكثر في هذا الاتجاه المضلل، وصولاً إلى بناء أولويات وتحالفات لا تستثني العدو الصهيوني الذي يتحول صديقاً وشريكاً وحامياً!
إنه الجهاد مع الذات وضدها، وهو ما يوصف بالجهاد الأكبر أيها الإخوة والرفاق... وطالما كان هو الأصعب!
* كاتب وسياسي لبناني