لم يكن حضور أكثر من ستين مدعواً لاجتماعات القاهرة يومي 21 و22 تشرين الثاني من الفصائل الفلسطينية، سوى مشهد متكرر لما عرفته العاصمة المصرية أكثر من مرة! جاءت الدعوة التي وجهتها إدارة المخابرات العامة لتلك القوى والشخصيات من أجل حصر النقاش في عنوان واحد: المصالحة. تلك الكلمة الجديدة التي أدخلها تشظي الوضع الداخلي الفلسطيني في مفردات الحياة السياسية، لتحتل قسراً، المكان الطبيعي والموضوعي للشعار والهدف «الوحدة الوطنية».
قبل أن ينفرط عقد لقاء «النوايا الحسنة» كان الدخان الأسود ينبعث من قاعة الاجتماع، لم تكن الساعات العشرون التي دارت فيها الحوارات سوى ساحة اشتباك لغوية/ سياسية بين أكثر من طرف. لكن اللافت - كما علمت من لقاءات أجريتها مع بعض من حضر الاجتماع - عنف الرد على ما طرحه من اعتلى منصة مؤتمر هرتسيليا الصهيوني، حين تحدث عن سلاح المقاومة، كما أن الكلام المفاجئ الذي تحدث به أحد المسؤولين الأمنيين المصريين في إحدى الجلسات بحق الحاضرين، كقيادات للفصائل، فسره أكثر من طرف موجود بالاجتماعات على أنه إساءة لنضال الشعب الفلسطيني، مما دفع بأحد قادة الفصائل ورئيس وفدها للاجتماع للرد المباشر والحازم على تلك الإساءات تجاه النضال الوطني الفلسطيني الممتد على أكثر من قرن، مما دفع المسؤول المصري للاعتذار الفوري، مؤكداً أنه لم يقصد الإساءة!

المشهد والجمهور

أمضى الفلسطينيون في كل أماكن تواجدهم ساعات من الترقب وهم ينتظرون نتائج الاجتماعات، والبيان الختامي الصادر عنها، والذي جاء مخيّباً لآمالهم وتطلعاتهم، خاصة في قطاع غزة، الصامد والمحاصر، الذي تباهى وفد سلطة رام الله المستباحة/ وفد الحزب الحاكم، أحد أطراف الأزمة، بأنه لن يرفع العقوبات عن القطاع، إلا بعد استجابة سلطة حماس، ليس لحل اللجنة الإدارية – التي حلتها قبل التوصل للتفاهمات الأخيرة – بل بعد «تمكين» حكومة الوفاق، التي تعني بشكل محدد وواضح: القبض والتحكم والهيمنة على القطاع الصامد. ويسجل لذلك الوفد نجاحه بإدخال مصطلح جديد لأدوات الخطاب والحوار السياسي الفلسطيني «التمكين»! هذا الوفد الذي كان أبرز رموزه، القادة الحقيقيين لـ«التنسيق الأمني» المدنس: حسين الشيخ، وماجد فرج (للتذكير: تباهى الأخير، بإحباط أكثر من 200 عملية عسكرية ضد الغزاة المحتلين وبتفتيش حقائب الطالبات والطلاب بحثاً عن السكاكين ومقصات الأظافر) ومعهم مسؤول الملف في حزب السلطة عزام الأحمد. وهنا، لا بد من تسليط الضوء على ما أرادته وقصدت منه سلطة رام الله بأن وفدها المحاور يتكوّن بشكل أساسي من قادة أجهزة الأمن والتنسيق المدني والاستخباراتي مع العدو، بما يؤكد لبعض الفصائل التي تكتب بياناتها وتركز في خطابات قياداتها على رفض وإدانة التنسيق الأمني، بأن نهجنا وبرنامجنا يمثله هؤلاء. فهل قرأت تلك القوى الرسالة وكيف تعاملت معها؟ لهذا، لم يجانب العديد من أبناء الشعب الفلسطيني الصواب عندما تحدثوا في لقاءات ميدانية مباشرة وعبر استطلاعات للرأي عن غضبهم من النتائج، بل، وسخريتهم ممن ساهموا بـ«تلطيف مضمون البيان وتسويقه». أحدهم قال: تمخض الاجتماع فولد بياناً! وكان هذا أخف وقعاً على أذن المستمع لما يأخذنا إليه التشبيه.
لم يكن استدعاء إعلان القاهرة 2005 واتفاق أيار/ مايو 2011 الذي وقعته الفصائل في العاصمة المصرية، لتضمينهما في البيان الأخير، سوى إعطاء جرعات من التهدئة والاطمئنان للشعب، رغم أن ما حملته خمس سنوات ونصف السنة من أزمات وتطورات، داخلية وإقليمية ودولية، كانت تتطلب إنجازات، أبعد من صياغة ديباجة تسرد أهمية الوحدة الوطنية وتفعيل المنظمة، وأقرب ما يكون لبرنامج حركة تحرر في إطار جبهة وطنية موحدة. لقد حرصت اللجنة التي كتبت البيان على أن يكون البند الأول فيه عن منظمة التحرير، المغيبة واقعياً، والحاضرة اسماً على الورق فقط. لكن الذي حصل عندما حاول البعض أن يركز على أن مفتاح حل الأزمة الراهن والمستعصية يتطلب التوقف بالتفصيل عند وضع المنظمة: إطاراً ومؤسسات، وعن البرنامج الوطني الذي يحكم مسيرتها، رد راعي الاجتماع «أحد مسؤولي جهاز المخابرات» بأن «المطلوب من هذا الاجتماع بكل جلساته، الكلام عن المصالحة»!

ألغام في طريق المصالحة

لقد كُتبت عشرات المقالات بالصحافة وعلى مواقع التواصل، وأجريت العديد من المقابلات الإذاعية وعلى الفضائيات، عالج من خلالها الكتّاب والمتحدثون محاور وبنود البيان. لهذا، تبدو هنا، مناقشة تلك البنود السبعة، فائضاً عن حاجة القارئ، لأن وفد سلطة وحزب رام الله، أسقطها جميعاً، بعد أن اشترط تمكين سلطتهم من القطاع، مجتمعاً ومؤسسات وقراراً سياسياً، والأخطر والأهم: سلاح المقاومة المقاتلة، لأنه هو المطلوب والمقصود من تلك المصالحة، إقليمياً ودولياً – رغم تأجيل البحث فيه كما يصر الراعي المصري-، لأن هذا السلاح والأيدي التي تقبض على شرف امتلاكه، هي العقبة الكأداء في طريق كل المخططات التي ترسم في غرف الإمبرياليين والصهاينة وأدواتهم المحلية، للمنطقة والإقليم.

مطلوب العمل على تطوير أدوات الفعل العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي

لم يجف الحبر الذي كُتب به البيان، حتى انطلقت مواجهات إعلامية غطت الشاشات ومواقع التواصل. لغة التهديد الواضحة لم تكن جديدة، فقد تحدث بها قبل عشية توقيع التفاهمات بين الحركتين (القاهرة 12/ 10/ 2017) جبريل الرجوب، أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح لقناة «فلسطين» الفضائية التابعة للسلطة (إن حركة فتح تريد سلطة فلسطينية بسلاح واحد والاتفاق على برنامج سياسي مشترك... أهم أسس الوحدة الوطنية هي وحدة القضية والقيادة... إحنا مش مستعجلين). تلك اللغة التي أعاد استخدامها المتحدثون من حزب وسلطة رام الله، عزام الأحمد وحسين الشيخ وآخرون، أفصحوا عما يريدونه من المصالحة: القبض على سلاح المقاومة، وإلّا فالمزيد من الحصار والتجويع وقطع الأرزاق. في سبيل ذلك، حاولت حكومة رام الله بقيادة الحمد الله، تفجير الحالة الاجتماعية في القطاع بدفع الشعب للاشتباك الداخلي من خلال قرار/ صاعق تفجير، يقضي بعودة الموظفين المستنكفين منذ عام 2007 لوظائفهم مما يعني الاستغناء عن حوالى 40 ألف موظف في مؤسسات سلطة حماس. وعلى الفور ضغط الراعي المصري سريعاً على سلطة رام الله للتراجع عن القرار (هذا ما حصل) خوفاً من انفجار لا يمكن التحكم بحدوده وآثاره.

هذيان المأزوم

لم تتوقف كرة النار التي تحرص على دحرجتها سلطة رام الله من خلال عزام الأحمد باتجاه حركة حماس، بل قام خلال الأيام الأخيرة بتوسيع دائرة الهجوم اللفظي الناري باستهداف قادة حركة الجهاد الإسلامي، بتحميلهم تارةً مسؤولية تخريب المصالحة وإعاقة «التمكين»، وتارةً أخرى، بالهجوم على الحركة لأنها دعت في الوقفة الوطنية الجماعية في جباليا - غزة تخليداً للشهيد محمود عودة الذي أُعدم يوم الخميس 30 / 11 على أرضه ببلدة «قصرة» في الضفة المحتلة على يد المستعمرين الغزاة. خالد البطش، القيادي في حركة الجهاد، قال في كلمته «يجب أن تبقى جميع الساحات الفلسطينية في حالة اشتباك مستمر مع العدو، من جنين وحتى رفح مهما كلف الثمن. نريد أن نرى السلاح الشرعي ومن ملأ فمه بهذه المصطلحات، أين هو السلاح الشرعي في الضفة؟ ولمَ لم يحمِ الناس في كروم الزيتون ومساجدهم من المستوطنين؟». في إشارة لما يردده الأحمد وسواه عن «أن السلاح الشرعي ومسؤولية السلطة فقط عن الأمن في الضفة وغزة وعليه يجب أن يكون قانون واحد وسلاح واحد».
في ظل محاولات وفد سلطة رام الله/ فتح، عدم الالتفات لمطالب الشعب المحاصر و«رجاء وأمنيات» الفصائل (؟!) لفتح المعابر، والبدء بحل المشكلات الحياتية المباشرة، قبل «التمكين»، تعمل إدارة المخابرات المصرية على حث الطرفين، فتح وحماس، مع رفع منسوب الضغط على الأولى من أجل التوصل إلى إنجازات سريعة، خوفاً من انفجار الوضع الشعبي بالقطاع بوجه الجميع. وهذا ما يمكن قراءته في استدعاء المسؤولين في الطرفين لاجتماع القاهرة الأخير، والذي رشح منه موقف حازم يحمل طلباً فورياً للبدء بالإجراءات التي اتفق عليها الطرفان.

خاتمة

أمام المشهد السياسي الذي ظهر لنا في اجتماعات القاهرة الفصائلية، ومن متابعة دقيقة وموضوعية للتجارب السابقة المتنقلة ما بين القاهرة والدوحة ومخيم الشاطئ وبيروت وسواها، وبعد التدقيق في بنية حوامل السلطة، السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والنهج والبرنامج الذي تسير عليه سلطة رام الله/ فتح المركزية، يبرز سؤال يتداوله المئات بل الآلاف من أبناء وبنات شعبنا: ألم يحن الأوان لكي يبدأ الوطنيون الفلسطينيون داخل الفصائل والقوى السياسية والمجتمعية وفي كل أماكن انتشار الشعب، المتمسكون بالبرنامج التحرري ونهج المقاومة حياة، والرافضين للاستسلام ولاتفاق أوسلو ولكل إفرازاته الانطلاق نحو تجربة كفاحية جديدة لهذا الشعب في مواجهة الغزاة المحتلين عبر الانتفاضات والهبات الكبرى في مسيرة التحرر الوطني.
ولنا في الهبّة الشعبية بموجاتها المتلاحقة وتراكماتها، الدروس والعبر. وهذا ما أكدته انتفاضة شباب القدس التي انفجرت في اكتوبر 2015، وما زالت مفاعليها حتى الآن.
ومع اشتداد هجوم تحالف رأس المال الاستعماري والعسكري الإمبريالي الصهيوني وتوابعه في الإقليم من إمارات وممالك وكيانات سياسية مشوهة، على القضية الوطنية والشعب الفلسطيني، وشيطنة قواه المناضلة، مطلوب العمل على تطوير أدوات الفعل العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، وزيادة التنسيق الميداني بينها من أجل إحباط الهجمة الشرسة، انطلاقاً من الاستناد على الانتصارات التي يحققها محور المقاومة بكل قواه المحلية والإقليمية والدولية.
* كاتب فلسطيني