«الانتقام العادل لا يستدعي عقوبة»بيير كورني

قد يكون اليوم هو الوقت المناسب لاستذكار تجربة «اليمن الديمقراطي الشعبي» لعدّة اسباب، أوّلها أنّ تراث علي عبد الله صالح، من زاوية معيّنة، هو النقيض الكامل لهذا التّاريخ في اليمن، وهناك اتّصالٌ عميق بين فشل التّجربة «اليساريّة» في الجنوب وبين صعود صالح، يبدأ من قبل ظهوره على السّاحة حتّى.

علي عبد الله صالح صعد وبنى إرثه على تراكم الهزائم والفشل في أرض اليمن. ما كانت مجموعته العسكرية لتصل الى الحكم لولا الحرب الأهلية الفظيعة في الستينيات، التي كانت أعنف بكثير من الحرب اليوم، وراح ضحيّتها مئات آلاف اليمنيين، ودمّرت البلد بالكامل وسحقت نخبه المعارضة، ولم يتعافَ من أثرها الى اليوم. أمّا صالح نفسه، فما كان ليصبح رئيساً لولا فشل التمرّد في الشّمال وإخضاعه عام 1978 ــــ الزفرة الأخيرة للمعارضة في اليمن الشمالي. وما كان نظام علي عبد الله صالح ليستمرّ في الثمانينيات لولا فشل «اليمن الديمقراطي» كنموذجٍ مقابل، وكخصمٍ عنيدٍ (في السبعينيات) ينتوي فرض الوحدة بشروطه. ولم يعمّر صالح في الحكم، ويصبح عنصراً «لا يمكن الاستغناء عنه»، الّا لأنّه جعل من نفسه محور المصالح التي اخترقت الدّولة وتقاسمتها خلال الفترة المذكورة: من القبيلة الى الفساد الى المصالح الخارجية.
«اليمن الديمقراطي الشعبي»
يعتبر الباحث بلال أحمد أنّ المفتاح لفهم التاريخ الحديث لليمن هو فشل التجربة التنموية والسياسية لـ«جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية» في الجنوب، وهو ما ولّد الاستعصاء السياسي والوحدة مع نظام صالح، ومن ثمّ الحرب، وبعدها النّظام الرّاكد الذي استمرّ عقوداً حتّى أزالته ثورة شعبية عام 2011. يشير أحمد وباحثون آخرون الى انبعاث حالة من «الحنين» في جنوب اليمن تجاه الجمهورية الاشتراكية الوحيدة في العالم العربي. ولكنّ هذا الشعور اليوم يقتصر على الطبيعة الانفصالية لذاك العهد، ولا يمتدّ الى مشروع الدولة والأهداف الاشتراكية التي حرّكته: ذاكرتهم تربط بين عهد «اليمن الديمقراطي» المستقلّ وبين مرحلةٍ ــــ على حدّ قول هيلين لاكنِر ــــ «كان مضموناً للشعب فيها مستوى حياةٍ بسيط، ولكنّه لائق، للجميع؛ وهو ما أثار الندم الفوري عند الكثيرين حين اختفت هذه الضمانات مع حلول الوحدة مع الجمهورية العربية اليمنية عام 1990».
باختصار، وبعيداً عن العوامل الذاتية، جاءت التجربة الجذرية الاشتراكية في جنوب اليمن في الزمن الخطأ. ثوّارٌ تربّوا، خلال نضالهم ضد البريطانيين (وضد بعضهم البعض) في الستينيات على أدبيات السوفيات وماو والناصرية، ولكنّهم خرجوا الى الحكم عشيّة حرب 1967، وتراجع المشروع القومي العربي (يشرح فريد هاليداي كم أنّ سيطرة المقاومة على «كرايتر» في عدن، وإخراج البريطانيين منها لأكثر من أسبوع، كان له أثرٌ في الشارع اليمني والعربي، وقد جاء بعد أيّامٍ على هزيمة حزيران). استفرد اليساريون بالحكم عام 1970: سوفياتيون مثل عبد الفتاح اسماعيل في عصرٍ كان الاتحاد السوفياتي فيه يتراجع عن الاشتراكية ويبحث عن التصالح مع الغرب. ماويون يتبعون أفكار «الثورة الثقافية»، مثل سالم ربيع علي، في عهد تراجع الراديكالية الصينية وامساك بيجينغ عن دعم الحركات الثورية كما في السابق (بل إنّ طارق علي يقول بأن السوفيات والصينيين قد نصحوا اليمنيين بعدم اعلان النظام اشتراكياً عام 1970، وبأن يخففوا من جذريتهم وماركسيتهم). فوق ذلك كلّه، جاء الاستقلال مباشرةً بعد إغلاق قناة السّويس، التي كانت المورد الوحيد للبلد تقريباً، الى جانب قاعدة التموين البريطانية، فخرج مرفأ عدن من نطاق التجارة العالمية، وخسر اليمن الأهمية الاستراتيجية التي لازمته لأكثر من قرن، وذهبت عائدات التجارة والنّقل، مذّاك، الى مرافىء خليجية أخرى، ورثت الدور اليمني ومنعت (وتمنع اليوم) انبعاثه.
الى جانب هذه الظروف وضعف «الحلفاء» الاشتراكيين، واجه النظام في اليمن الجنوبي حصاراً وأعداءً شرسين. إضافة الى عُمان على الحدود الشرقيّة، حيث كان العداء قائماً بسبب ظُفار، تروي لاكنِر أنّ السعودية تحوّلت الى مركز لإدارة المعارضة ضدّ النظام وبثّ الدعاية المعادية له، واستضافت الرياض الشيوخ والوجهاء الذين كانت بريطانيا تعتمد عليهم (وتنوي الحكم عبرهم بعد انسحابها لولا قتال اليمنيين)، وحضّت شركات الطاقة على عدم الاستكشاف والاستثمار في اليمن الجنوبي. أمّا الولايات المتّحدة، فقد ظلّت علاقتها مقطوعة مع «اليمن الديمقراطي» وفي حالة عداء معه من عام 1969 الى أن تمّ حلّ النظام مع الوحدة الاندماجية. حتّى العراق البعثي قطع علاقته باليمن الجنوبي عام 1980 ليصبح، بعد كامب دايفيد وبتر العلاقات مع مصر، في ما يشبه العزلة العربية والحصار.
من هنا، كان تاريخ الجمهورية في الجنوب، طوال السبعينيات والثمانينيات، تاريخ تراجعٍ وهزائم، وبخاصّة في الخارج، مع تحوّل الظرف الدّولي وخبوّ إمكانات التغيير في جزيرة العرب. يعدّد بلال أحمد، في مقالٍ في مجلّة «جاكوبين»، بعض هذه الهزائم. راقب اليمن الثوري إخضاع ثورة ظفار في السبعينيات (مع التدخل العسكري لبريطانيا وايران وغيرهما، وانقطاع الدعم الصيني، والعامل الأهم ــــ بحسب أحمد ــــ هو أنّ الثورة في ظفار أجبرت البريطانيين على تغيير نمط الحكم في عُمان، فاستبدلوا تيمور بقابوس الشاب، الذي حدّث المنطقة الجنوبية المهملة، وأعطاها حقوقاً إدارية، ومدّ الكهرباء والخدمات اليها، وامتصّ كثيراً من الغضب الشعبي). ثمّ فشلت محاولات «تصدير الثورة» الى السعودية وانتهت بمواجهاتٍ حدوديّة مع الجيش السعودي اضطرّ اليمنيّون بعدها الى التراجع، وقد قام طيارون باكستانيون بقيادة الضربات الجوية السعودية يومها. مع اليمن الشّمالي ايضاً، لم تنجح الحملات العسكرية (في 1972 و1978) ولا دعم الثورة الشمالية في زعزعة النظام، بل تمّ تصفية المعارضة المتبقية في صنعاء وتعز (يقول أحمد إنّ علي عبد الله صالح استخدم «الاخوان» للمرّة الأولى في تلك المرحلة لقمع التمرّد، قبل أن يصبح لهم دورٌ سياسي أساسيّ بعد الوحدة وحرب 1994 حين استعمل صالح بكثافة الحركية الاسلامية ــــ اخواناً ووهابيين ــــ وتجييش المقاتلين بدعوى أن خصومهم في الجنوب «كفّار وملاحدة»).
هذه السلسلة من الهزائم، مضافاً اليها الصراع الداخلي المستمرّ والأزمة الاقتصادية، انعكست تراجعاً سياسياً مستمرّاً. يفسّر بلال أحمد توالي القيادات في اليمن الجنوبي على أنّه يعكس انحيازاً مستمرّاً صوب اليمين. خلف اليساري الجذري عبد الفتاح اسماعيل علي ناصر محمّد، «البراغماتي» من بين القيادات الجنوبية. ثم خلف علي ناصر محمّد، بعد الحرب الأهلية بين حكّام اليمن الديمقراطي عام 1986 والتي صفّت ما تبقّى لهم من شرعية، رجلٌ أكثر «براغماتية» منه هو علي سالم البيض، الذي جاء بأهدافٍ تقتصر على مداراة الأزمة الاقتصادية، والتنقيب عن النفط، وفتح باب المصالحة مع الشمال والنظام العربي.

في زمن السقوط

في الشّمال، ترأّس علي عبد الله صالح نظاماً لم يخرج بنموذجٍ اقتصاديّ بعد الحرب المدمّرة التي عصفت به. الفشل هنا كان، الى حدٍّ بعيد، قصديّاً: الخوف السعودي المستمرّ من أن يصبح اليمن اقتصاداً كبيراً، رفض الخليج لفكرة توزيع الثروة في محيطه، والهيمنة السياسية للأنظمة «المحافظة» حرمت اليمن من أيّ دورٍ اقتصادي، ولم يكن لدى علي عبد الله صالح رؤية تنمويّة أو مشكلة في أن يحكم بلداً يتأتى دخله الأساسي من تحويلات المهاجرين والمساعدات الخارجية، وأن يشرف على توزيع هذا «الريع» (يوصف هاليداي وكيرين شاودري، مثلاً، كيف كانت نسبة تحويلات المغتربين في يمن الثمانينيات الأعلى في العالم بلا مقارنة نسبةً الى حجم الاقتصاد الدّاخلي). لا يوجد شعبٌ عربيّ هاجر أهله وانتشروا وتوزّعوا في العالم مثل اليمنيين، وهذا ــــ مثل حالة لبنان ــــ لا يعود فحسب الى حبّ المغامرة والتقاليد البحريّة التاريخية، كما تشيع «السردية الرسمية». اضافة الى آلاف اليمنيين الذين أحضرهم فورد الى اميركا حين بنى معمله الشهير في ديترويت، وتوزّعوا منها الى كلّ مكان، انت قد تجد يمنيّين في أصقاع البلد ــــ آلاسكا مثلاً، أو زاوية قصيّة في صحراء أريزونا، وجد يمنيّ طريقه اليها فاستقرّ هناك. تجد في كاليفورنيا يمنيين حضارمة، غيّروا أسماء عائلاتهم لكي يحصلوا على الجواز الأميركي، لأنّ اقاربهم في اليمن هم «على الجانب الآخر»، تطاردهم طائرات الدرون الأميركية. وهناك نكتة اميركيّة قديمة عن هبوط أوّل رحلة لـ«ناسا» على المرّيخ، فينزل روّاد الفضاء ليجدوا يمنيّين يتمشّون هناك.
فعليّاً، لا يبدو «اليمن الديمقراطي» (وهو لم يكن ديمقراطياً، بالمناسبة، بل حكم حزبٍ وأحياناً حكم فرد، وكانت فيه اغتيالات وقمع و«حركات تصحيحية» وصراعات حزبية مستمرّة) جيّداً الا مقارنة بنظام الشّمال. الى جانب تحرير الجنوب اليمني من بريطانيا، ومنعها من البقاء في البلد بعد الاستقلال، يجمع الباحثون على أنّ الشيء الوحيد الذي يمكن لتجربة اليمن الجنوبي أن تفخر به هو نظام التعليم والطّبابة الجماعيان، وتعليم النساء وسنّ قوانين تقدّميّة (تكتب لاكنِر أنّ أكثر اليمنيات اللواتي وصلن الى مراتب عالية في الدولة او الاقتصاد اليوم هنّ من نتاج نظام التعليم الجنوبي أو ينتمين الى أسرٍ جنوبية. في الوقت نفسه، كان قانون الأحوال الشخصية ووضعية المرأة فيه من أبرز عناصر الدعاية التي استخدمت باستمرارٍ لتكفير النظام في الجنوب وانتقاده). نُضيف الى ذلك الدّعم المفتوح الذي قدّمه «اليمن الديمقراطي» لقضايا عادلة، من فييتنام الى فلسطين (رغم ضآلة الإمكانات). كان اليمن يسمح للفدائيين بالهبوط بطائراتهم المخطوفة في اليمن (حتّى عهد علي ناصر)، ولن تجد مناضلاً أممياً لم يتدرّب في اليمن أو يستخدم جوازاً يمنيّاً.
لهذا، كان من المحزن أن يلقى اليمن، أثناء الحرب السعودية عليه، قلّة وفاءٍ من كثيرٍ من هؤلاء اليساريين (السابقين أغلبهم، اليوم)، الّذين أخذوا من اليمن حين كان يقاسمهم القليل الذي يملكه، واستفادوا من النّظام في كلّ مراحله، ولكنّهم لم ينطقوا ــــ أو وقفوا في «الوسط»، أو رفعوا مواقف مخزية ــــ حين انتهكت السعودية والامارات واميركا البلد الذي يدّعون حبّه. كانوا يزورون اليمن ويعسكرون فيه، ويحدّثونك عن جمال شِبام وحضرموت، ويحتفظون بصورهم في سقطرة، ولكنّهم خذلوا البلد الذي أكرمهم في يوم محنته ــــ وبعضهم أصبح صديقاً لعلي صالح أو موظّفاً عند الخليج، يأكل على موائد السلطان.

نهاية وبداية

مع مقتل علي عبد الله صالح، يصبح هو ــــ مثل نقيضه في الجنوب ــــ معلماً من معالم التاريخ. ولكنّ الأسئلة التي واجهت هذه الأنظمة وهزمتها ما زالت تلحّ علينا ــــ في اليمن وفي كلّ مكان. مقتل صالح لن يدفن التّاريخ ولكنّه يمثّل بالفعل مرحلةً جديدة (لم يكن الحدث اغتيالاً، على غرار انقلاب بغداد عام 1963، بل أشبه بالهجوم على القصر الملكي عام 1958، اذ قتل أو اعتقل مع صالح أكثر بطانته ومساعديه وأركان سلطته). لا فائدة هنا من النقاش المطوّل حول مقتل الرئيس السابق وظروفه و«عدالته»، كما اختصر الموضوع صديقٌ لا يودّ ذكر اسمه (رائد شرف): «هو قام بخيانة حلفائه وهم في قلب حربٍ وتحت حصار، ماذا كان يتوقّع؟»؛ غير أنّ اشباح الماضي لن تسكن بموته. هو من أعطى الوحدة صيتاً سيئاً، بعد أن كانت مطلباً شعبياً يتشارك فيه كل اليمنيين، هو من حوّل الدولة الى مرتعٍ للمصالح والقبلية، وترك اقتصاداً مشلولاً وبلداً تابعاً؛ وهذه المسائل ستحكم مستقبل اليمن، ولن ينتقم منها مقتل علي عبد الله صالح. اليمنيّون يخوضون، أصلاً، «صراع نقطة البداية» في هذه الأثناء. وتجارب العقود الماضية إن دلّت على شيء، فهي تدلّ على أنّ ما ينقص اليمن ليس خطط البنك الدولي أو الخصخصة أو «التصالح» مع الرياض؛ على العكس تماماً، ما كبّل اليمن وأدماه كانت الوصاية الدولية، وغدر الجيران، وهيمنة الرجعية على الاقليم. إن كان هناك من دليلٍ على تغيّر الأحوال، ومؤشّر على عدالة التاريخ ورمزيّته ــــ وليس الانتقام والثأر ــــ فهو تحديداً، هنا، في أن تكون لحظات علي عبد الله صالح فيما الطيران الأجنبي يحوم فوق موكبه، محاولاً حمايته، وأن يلقى حتفه ونهاية عهده على يد أبناء حسين بدر الدّين الحوثي.