أثار الصخب الإعلامي الذي أحاط بقضية بيع مواطنين من دول أفريقيا الصحراوية، في المزاد العلني في ليبيا، الكثير من الجدل. كذلك تسبّب عرض قناة «سي أن أن» صوراً لسوق من العبيد الأفارقة في إطلاق العنان لردود الفعل المعادية للعرب بشكل قلّ نظير فظاظته. وإذا كانت مشاعر العاطفة الجماعية حيال مشهد من الممارسات البدائية أمراً مشروعاً، فإن ابتذال الخطاب الذي يضع «العربي» ضمن إطار من الصور النمطية العنصرية هو أمر إشكاليّ.
ومن بين الحجج الأكثر انتشاراً، تبرز مقولة الاستمرارية التاريخية للعبودية التي تنهل مصادرها من الإسلام، وهي المقولة الأكثر تضليلاً ورواجاً في الوقت عينه. ردّد الكاتب الفرنسي من أصل كونغولي آلان مابانكو هذه الأفكار والمصادر في مقال نشره في مجلة «لو بوان» بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. كتب «إن وقوع هذا الحدث في ليبيا ليس أمراً تافهاً: نحن هنا في قلب أحد التابوات في تاريخ أفريقيا، وبالرغم من محاولات التواطؤ هنا وهنالك، والتي تجب الإشارة إليها، فإن مسألة الاستعباد العربي ــ الإسلامي في أفريقيا الصحراوية يجب إخراجها إلى الضوء من أجل أن لا يتم النظر إلى الظرف الذي يوجد فيه الرجل الأسود، وخصوصاً في المغرب، على أنه ظاهرة ثانوية أو أنه جواز مرور للعبودية ما وراء الأطلسي التي قام بها الغرب بشكل مأساوي ضد القارة الأفريقية». يقوم كاتب رواية «نحيب الرجل الأسود» (صدرت عن دار «فايار»، سنة 2012) بنبش موضوع الاستعباد العربي ــ الإسلامي، ويطلق مقارنة خطرة مع العبودية التي تعرض لها الزنوج من قبل دول الأطلسي. لكنّ بحثاً بسيطاً على شبكة الإنترنت يكفي للتحقق من أن التابو المزعوم حول الاستعباد العربي ــ الإسلامي قد اجتاح كل أطياف التحليل باسم الضرورة العليا لإعادة صياغة كامل تاريخ العبودية.
إن الموقف الفكري للجيل الجديد من الباحثين والكتّاب الذين يؤيدون فرضية العداوة البنيوية بين العرب والأفارقة، والتي تعود إلى عصر الفتوحات الكبرى للإسلام، قد تم تعميمه على نطاق واسع. ويعدّ كتاب «الإبادة المستورة» الذي ألّفه عالم الاجتماع والاقتصاد الفرنسي من أصل سنغالي تيديان ندياي، والذي تم نشره سنة 2008، تعبيراً حاداً عن ذاكرة تشوبها العيوب، تقدم نفسها على أنها إعادة قراءة «نقدية» لتاريخ العبودية، وقائمة على «الذاكرة المثقوبة» حول مشروع الإبادة العرقية الذي عمل العرب على تنفيذه. إن هذا «التحقيق» التاريخي الذي يقدم جردة بالغزوات والممارسات المخزية التي لجأ العرب إليها في معاملتهم الحقيرة لأسرى الحرب الأفارقة، هو مثال عن الانحراف المفسد، إذ إن الحضارة العربية ــ الإسلامية، تاريخياً، ليست هي من اخترع العبودية، الموروثة من التاريخ القديم، ولا من احتكر ممارستها. وهنالك العديد من المراجع حول العصر الوسيط، مثل ابن بطوطة، التي تدل على وجود العبودية كممارسة شائعة لدى الأفارقة. كذلك فإن الاستعباد في الحضارة العربية ــ الإسلامية لم يرتبط فقط بالأفارقة بشكل خاص، حيث شكل استعباد «البيض» مادة للأدب الغزير من ضمن منطق التنافس بين الضحايا المستند إلى استهداف «همجية» الحكام العباسيين الذين كانوا يتزوّدون بالعبيد البيض «المنفيين» من أوروبا الوسطى. مع ذلك، إذا كان يتم وسم الحضارة العربية ــ الإسلامية بأنها حضارة استرقاقية ضمن سياق تاريخي كانت هذه الممارسة تعتبر جزءاً لا يتجزأ من التنظيم الاجتماعي في أفريقيا، فإنه يتم تغييب دور الإسلام الذي أسهم في تحسين وضع العبيد عن هذا الخطاب بشكل كلي. إن قيام الإسلام بمنع استعباد المسلمين وعتق العبيد وحكم المماليك على مدى ثلاثة قرون في مصر، رغم أنهم من نسل العبيد الترك والقوقازيين، قد تم شطبه من الذاكرة التاريخية. إن المقابلة بين العبودية التي مارستها الحضارة العربية ــ الإسلامية واستعباد الزنوج عبر الأطلسي هو أمر يتهرّب من الفرق الجوهري بين ممارسة هامشية وواقع تاريخي ثقيل الوطأة بسبب اتساع مداه: تحويل العبودية إلى نظام من أجل سدّ حاجة اقتصاد المستعمرات التي تم زرعها في أميركا. إن الحديث عن «الاستعباد» العربي ــ الإسلامي على أنه بالدرجة ذاتها مع العبودية عبر الأطلسي يعود إلى الجهل بالمغزى التاريخي العميق للوجهتين. إن الإصرار على جعل الوجهة الأولى عاملاً مفسراً للحركية التاريخية في أفريقيا، يعني تسويق الخطاب الغربي الذي يلقي بالمسؤولية التاريخية على العرب في موضوع «ترحيل» الأفارقة، لكي يخفف من مساوئ الاستغلال الوقح الذي مارسته أوروبا في أفريقيا منذ القرن السابع عشر. استولى الاستعمار، من أجل الضرورات التجارية ومن أجل توسيع سلطة الرأسمال، على مناطق جديدة، قام بتقسيمها والاستيطان فيها بشكل مستمر، عبر تدمير الثقافات المحلية. إن السؤال الذي يلي ليس التساؤل مع آلان مابانكو «إلى متى سوف يبقى الغرب يقوم بتغذية هؤلاء الحكام الأفارقة المطلقي السلطة وشركائهم الذين يتظاهرون بالسخط في الآونة الأخيرة، مع أنهم هم الرعاة القريبون أو البعيدون لهؤلاء التجار الجدد ولتجارة العار هذه». بل من الأجدى السؤال حول ما هو الانقلاب الذي حصل لكي تحتل مسألة العبودية الزنجية من قبل العرب منذ عشرة قرون مركز الجدل الراهن، والذي يجب أن يتضمن خطاباً مناهضاً للجريمة المنظمة ولاحتواء الممارسات المافيوية في سياق الفوضى الأمنية وضعف المؤسسات السياسية. رأى إدوارد سعيد، بخصوص المقاربة الثقافية، أن «ما يتم تمريره عادةً من خلال هذه المقاربة ليست الحقيقة بل الصور».
لماذا ترسخت الصورة الثقافية الغربية حول تعارض ثنائي بين فضاءين، واحد عربي والآخر أفريقي؟ لماذا أخلى الفضاء الواحد الساحلي الصحراوي المتصل الساحة أمام مفهوم الفضاء المتفكك والمتصارع ما بين ثقافة عربية إسلامية وثقافة «أفريقية متنوعة» على الصعيد الديني؟ يتم تقديم العالم العربي وأفريقيا اليوم على أنهما كيانان مغلقان يعيشان في حالة صراع، وعلى أن خلافاتهما متجذرة في التاريخ بشكل عميق. إن هذا البناء للذاكرة، الذي يخفي واقعاً تاريخياً آخر، يستجيب للإستراتيجية الدائمة في تفتيت تضامن الشعوب التي رسمها الاستعمار الذي أوجد أساساً إيديولوجياً «للانقسامات التاريخية»، والذي قام بتنظيم عملية إعادة تركيب إثني بحسب شعاره «فرق تسد».
في كتابه «المذابح. الحروب السرّية للقوى الكبرى في أفريقيا»، يشرح الصحافي الفرنسي بيار بيان الطريقة التي عملت بها الاستراتيجية الإسرائيلية على إدخال هذا المبدأ من الإدارة الاستعمارية، وبشكل خاص في تقسيم السودان منذ استقلاله. في نهاية سنوات 1950 تحولت إثيوبيا إلى قاعدة متقدمة لإسرائيل التي اخترقت الدول الأفريقية عن طريق تمثيل دور الضحية. شهدت فترة التخلص من الاستعمار انقطاعاً بين الطوائف اليهودية التي كانت تؤيد إسرائيل بحماسة شديدة والمواطنين الأفارقة الذين يدينون باليهودية. إن الوحدة التي تكرست بين حركات التحرر الوطني في العالم العربي وكبار الشخصيات التي قادت النضال الأفريقي في وقت كانت فيه إسرائيل المتحالفة مع الاستعمار تدعم القمع الدموي ضد القوميين تعدّ أفضل وأجمل تعبير عن وحدة المصير بين الشعبين. إن خطاب إيمي سيزار عن الاستعمار (1956) يشير إلى قوة رفض الواقع التاريخي وإلى بناء أساطير وذاكرة مبتورة. كتب سيزار في هذه الرسالة الحادة عن الحقيقة: «إنه أمر يستحق العناء دراسة مسيرة هتلر والهتلرية، بشكل إكلينيكي، بكل تفاصيلها، وإظهار الأمر أمام الإنسان المميز جداً، الإنساني جداً، المسيحي البرجوازي جداً في القرن العشرين أنه يحمل في داخله هتلر ما يجهله، و(إظهار) أن هتلر يسكنه، أن هتلر هو شيطانه، وأنه إذ يقوم بقدحه وإلقاء اللوم عليه، فذلك بسبب النقص في المنطق، وأنه في أعماقه، ما ليس يغفره لهتلر ليس الجريمة بحد ذاتها، الجريمة ضد الإنسان، ليس إذلال الإنسان بحد ذاته، بل لا يغفر له الجريمة ضد الإنسان الأبيض، وإذلال الرجل الأبيض، وإخضاع أوروبا للسلوك الاستعماري الذي لم يذق طعمه سوى العرب في الجزائر وعمال الهند وزنوج أفريقيا».