«لا يوجد شيءٌ مخيفٌ أكثر من رجلٍ يحمل مسدّساً، ولا شيء بلا حيلةٍ مثل رجلٍ أعزل»فرانك غريفين (الممثّل جيف دانييلز)، في Godless


غنيّ عن القول إنّ أيّ تفسيرٍ للعالم، أو نظرية سببية تشرح كيف تجري الأحداث، تتضمّن اختزالاً لواقعٍ معقّدٍ وتبسيطاً وتقديماً لعوامل على حساب أخرى. لهذا السبب لا يكون «التاريخ الرسمي» الذي تقدّمه السلطات مزيّفاً بالضرورة أو كاذباً، ولكنّه لا ينقل القصّة كاملةً؛ وحين يتنبّأ علماء السياسة بأحداث ونتائج، ويبني المسؤولون على أساسها، فيحصل العكس، أو تخرج حركات لم يتوقّعها أحد، فهذه ببساطة قصّة المعرفة والسّلطة في العقود الأخيرة.

يعتبر أستاذ النظرية السياسية مارك بيفر أنّ أحدّ أهمّ الأسباب التي تجعل علماء الإجتماع يقعون في الخطأ، وينسجون تحليلاتٍ لا توافق ما يجري على الأرض، هو فصلهم بين الأفعال والأحداث من جهة وبين إرادة الأفراد الذين يصنعونها من جهةٍ أخرى. فلنأخذ مثالاً بسيطاً: تقوم حكومة تاتشر بتخيّل اصلاحاتٍ معيّنة في بريطانيا، أو يقرّر جورج بوش سياسة في العراق المحتلّ، فيفترض الباحثون أنّ هذه السياسات والقوانين والقرارات التي خرجت «من فوق» هي ما يفسّر مجرى الأمور في البلد، وأنّ رؤيا تاتشر أدّت الى تغييراتٍ اقتصادية وثقافية في بريطانيا، أو أنّ سياسات بوش ولّدت نتائج معيّنة في العراق. في الحقيقة، يقول بيفر، هذه طريقةٌ رديئةٌ لفهم العالم، وهي تفترض أنّ ارادة ونوايا من هم «فوق» تتحوّل بشكلٍ ميكانيكيٍّ ومباشر الى أفعالٍ في المجتمع.
واقعيّاً، ضمن المثال ذاته، قد تقرّ حكومة تاتشر قانوناً ونيّتها تحرير الأسواق مثلاً، ولكن لا توجد ضمانة بأنّ المديرين البيروقراطيين ــــ ومهمّتهم تحويل هذه النصوص الى سياسات وأوامر عمليّة ــــ سيفسّرونها كما فعلت تاتشر والقيادات السياسيّة ويفهمونها بالطريقة ذاتها. وهؤلاء لهم مصالح وموقع مؤسساتي وثقافة خاصة بهم وهم سيحاولون، قدر الإمكان، ليّ الأمور لصالحهم وبحسب رؤيتهم. ثمّ، على مستوى أدنى، حين ينفّذ موظّفون وعملاء هذه السياسات مع المواطنين مباشرة، فهم بدورهم لن يفهموا أوامر رؤسائهم من غير أن يضيفوا «لمستهم» عليها، وسيعملون ضمن هوامش تقرّرها عوامل ذاتية كثيرة (الكفاءة، الاستقلالية، الفساد، الخ). أخيراً، فإنّ تفاعل المواطنين مع هذه السياسات، بعد هذه الدّورة كلّها، قد تكون له علاقةٌ سطحيّة مع القصد الأصلي لمن رسمها. التّاريخ «الحقيقي» يحصل في هذه «الثغرات»، ولا تختصره نظرة رئيسٍ أو خطّة امبراطور، والّا لكان العالم مكاناً مملّاً للغاية، ولكانت أغلب الصراعات محسومة والمستقبل واضحاً للعيان.

منطق «الإرهاب»

من هذا المنطلق، فإنّ «الإرهاب» هو الإبن غير الشّرعي للنظام: لا يمكن تفسيره من داخله ولا أحد ممّن هم «فوق» مسؤولٌ عنه او يراه نتاج سياساته. لهذا السّبب لا يمكن للنّظام تفسير «القاعدة» أو «داعش»، وعنفٍ كالّذي رأيناه في سيناء الأسبوع الماضي، الّا عبر جملٍ تبسيطيّة، تعزل «الإرهاب» وتضعه خارج التاريخ، سواء كانت هذه النظريات أخلاقويّة (فكرة «الشرّ المحض» لدى جورج بوش)، ثقافوية (الإرهاب هو نتاج دين الإسلام)، أو تآمريّة («داعش» هي مخطّطٌ مخابراتي، صمّمه ونفّذه أجانب). وبشكلٍ موازٍ، يتحوّل البحث عن «منابع الإرهاب» الى صناعة، وينهمك الخبراء والسياسيون والجمعيات الغربية في البحث عن «الثغرات» التي أهملها النظام وخرجت منها «داعش»، أو الأخطاء التي ارتكبتها الادارة السابقة، أو تغيير الثقافة والمناهج والأنظمة التي ــــ في رأيك ــــ هي سبب «الإرهاب»، الى درجة أنّ الجدال يتحوّل فرصةً لتنفيذ أيّ أجندةٍ تضمرها، باستثناء مواجهة التحدّي الحقيقي.
بالنّسبة لي، فإنّ فداحة الأوضاع في مصر لم تتبدَّ مع الهجوم الأخير في سيناء، والعدد المخيف للضحايا والشّكل الفائق للعنف. الطّريق الى الهاوية بدا واضحاً حين جرى تهجير عائلات الأقباط المصريين من العريش وشمال سيناء في بداية هذه السّنة (على طريقة التطهير العرقي في بعض مناطق العراق وسوريا) ومرّ ذلك من دون ردّة فعلٍ تناسب ما حصل، وقد تمّ تناسي الموضوع تقريباً خلال فترةٍ قصيرة (مثلما انشغل أكثر الوسط المصري، خلال أيّام، عن هجوم سيناء ومعانيه بأخبار أحمد شفيق و«الانتخابات»). قد تكون المسألة «رمزيّة» ولكنّها دالّة: حين يصل المجتمع السياسي الى درجةٍ يتمّ فيها التمييز علناً ضدّ فئات واضطهادها وقتلها، ولا ينهض الباقون للدّفاع عنهم، لا يعود بعد ذلك معنىً للوطنيّة أو الإنتماء أو أيٍّ من القيم التي تتكلّم عنها النّخب وتتصرّف على أساسها «الدولة». وحين تتمكّن جماعةٌ في الأطراف من فرض إرادتها بهذه الصورة، فهذا يعطي فكرةً عن كفاءة المؤسسة وعن المسافة بين الخطاب الرسمي والواقع (في عالمٍ مثاليّ، حين تهدّد «داعش» الأقباط في سيناء، من المفترض أن يمارس المجتمع ردّة فعلٍ عنيفة، وأن يعتبره الجميع تحدياً وجودياً، وأن يخرج عشرات آلاف الشباب الى سيناء لإنجاد إخوتهم وإنهاء «داعش» بأيّ ثمن. هذا، بالطّبع، سيناريو غير واقعي في مصر اليوم، حيث الدّولة عاجزة والمجتمع شبه أعزل وبلا تنظيم، ولكن هنا المغزى السياسي تحديداً، فحين لا ينتفض المجتمع السياسي في حالةٍ كهذه، فهو لن ينتفض ضدّ شيء).
من السّهل إرجاع «داعش» الى سببيّة مُفردة، ولكن لا يفهم مثل هذه التنظيمات ــــ وكيف تولد وكيف تُهزم ــــ مثل من واجهها وتصدّى لها في الجزائر وسوريا والعراق، والحرب في بلادنا ضدّ هذا الكابوس تشرف على النّهاية، وقد حاربناه وهزمناه ودفعنا الكلفة، لكن المشكلة هي في من لم يواجهه بعد، ويعتقد أنّ الأسباب التي خلقته في أوطاننا لن تزوره هو، ويلتهي بالحديث عن أجندات من هم «فوق». في اليمن، مثلاً، تقتصر نشرات الأخبار على تحالفات السياسة وموقف علي عبد الله صالح و«أنصار الله» وباقي الفرقاء، ولكن التّاريخ «الحقيقي» يجري على مستوى مختلف. قلّة من النّاس، مثلاً، تعرف قصّة «أبو العباس» وكتائبه في تعز، وإن كانوا قد أُغرقوا بأخبار «المقاومة الشعبية». «ابو العباس» وتنظيمه يمثّلان فعلياً أقوى فروع هذه «المقاومة الشعبية» بتعبير إعلام الخليج، وهو ركنٌ اساسيّ في المعركة القائمة منذ عامين في مدينة تعز، وقد تمّ إعلانه منذ أسابيع من قبل واشنطن (وقد تبعتها الرّياض) «إرهابياً» ينتمي الى «القاعدة». المسألة لم تكن سرّاً بالطّبع، فأبو العبّاس ناشطٌ سلفيّ «تخرّج» من دماج ويقاتل مع «القاعدة» ويعرف الجّميع انتماءه ومرجعيته. الإعلان الأميركي سبّب إحراجاً «بيروقراطياً» للسعودية والامارات، ولكن المغزى الأساسي هنا هو أنّ هذه الحكومات قد موّلت وسلّحت، على مدى أعوامٍ، تنظيماً «داعشياً» سيظلّ مع اليمن الى سنواتٍ قادمة (حتّى شباب «الإصلاح» الراغب في القتال اتّجه خلال الفترة الماضية الى هذه التنظيمات السّلفيّة). وقد زرعت في بلدٍ متنوّعٍ تقليداً سياسياًَ يدعو الى التكفير والإبادة ــــ أي أنّك، مهما حصل، قد تحتاج الى حربٍ ثانيةٍ لمحو آثار الحرب الأولى، وتتوالد سياسات الخليج حروباً وصراعات بعد أن يرحلوا.

منطق المقاومة

من ناحية أخرى، فإنّ المقاومة التي تنهض في وجه النّظام هي ايضاً خارج حساب التنبؤات، ولا تلحظها «أجندة النظام». علّق مثقّفٌ اماراتيّ على الأحداث التي قامت في صنعاء بين «أنصار الله» وعلي عبد الله صالح بإعلان الدّعم لصالح، والتصريح بأنّ «أنصار الله» أصبحوا على قاب قوسين من النهاية وطالب بـ«إعادتهم الى الكهوف». هذا الخطاب ايضاً دالّ، وهو يذكّر بكلام نخبٍ عراقيّة عن «الحشد الشعبي» اليوم، ولبنانيّة عن حزب الله في الثمانينيات والتسعينيات. المشكلة هنا ليست في السياسة والتقييم، بل في قراءة التاريخ وفهم الحركات الصاعدة، والاعتقاد المستمرّ لدى الفكر المحافظ بأنّ الماضي يمكن استدامته، وأنّ من خرج يتّحداهم يمكن ــــ ببساطة ــــ أن «يعود الى الكهوف». حين يحصل سياقٌ معاكسٌ لذاك الذي نشهده في مصر والسعوديّة والأردن وغيرها (حيث يتمّ إخراج أكثر الناس والطبقات الشعبية من السياسة، وتحويل الحكم الى تحالفٍ بين الطبقات العليا والخارج)، وتُدخل الحرب الأهلية أو الغزو والاحتلال النّاس الى السياسة عبر القتال والتنظيم وانهيار السلطة المركزيّة، تخرج تنظيماتٌ جديدة تقوم بالمهام التي عجزت عنها السياسة التقليدية. المراقبون، في الغالب، ينظرون الى هذه الحركات، وهي في بداياتها، على أنّها أمرٌ «طارىء» أو أنها ستنتهي مع نهاية الحرب أو أنّها محض «أدوات»، ستخرج من المسرح في توقيتٍ معلوم. بل أكثر من ذلك، تجد في لبنان وسوريا من «يبرمج» أمد هذه الحركات، فيما المعركة قائمة، ويحدّد سقفها و«يشترط» عليها (بمعنى أنّكم، يا فقراء لبنان أو العراق، تقاتلون وتموتون اليوم، ولكنّكم ستعودون غداً، حين ينتهي الاحتلال وتنتهي «مهمتكم»، الى الذوبان والاختفاء في ثنايا المجتمع كما في الماضي، وتتركون السياسة والحكم لمن هو «أجدر»).
المشكلة هي أنّ العالم لا يعمل بهذه الطّريقة، وعمليّة الحرب والاحتلال والإرهاب، وكلّ ما تعرّض له هؤلاء وواجهوه وتصدّوا له، هو «التّاريخ الحقيقي» الذي لا تكون الامور بعده كما في الماضي. انت حين وضعت مجتمعاً من المزارعين في جنوب لبنان في قلب حربٍ عالميّة، وأجبرته على التسلّح والقتال والتضحية، لا يمكن أن تتوقّع أن يعود، بعد ذلك كلّه، الى النّمط السياسي القديم، فهذه الحرب قد صنعت شعباً جديداً، ولا يمكن أن تتنبّأ بدوره في المستقبل في لبنان وخارجه. المعادلة ذاتها تنطبق، في رأيي، على ما يجري في العراق اليوم، وهي ــــ بالمناسبة ـــــ يمكن أن تجري في الاتّجاه المعاكس، ويتحوّل مجتمعٌ مقاوم، في ظروفٍ معيّنة، الى مجتمعٍ أعزل.
حين وقعت المواجهة بين البرزاني والدولة العراقية في شمال البلاد، خرجت الكثير من التفسيرات لهزيمة الـ«بشمركة» وانسحابها السريع، قلّةٌ منها تكلّم عن التغييرات التي طرأت على المجتمع في كردستان تحت حكم الحزبين الكرديّين. الكثير من المراقبين يسبغون صفاتً جوهرية وميثولوجية على الجماعات والطوائف والهويات، فيصبح الكردي العراقي ــــ ابداً ــــ مقاتلاً جبلياً مثلاً، مستعدٌّ على الدّوام لاستئناف التمرّد والنفير الى الجبل. ولكن هذا، كردستان الستينيات والسبعينيات، كان مجتمعاً زراعياً، ريفياً، مسلّحاً، أكثريّة الرجال فيه يعرفون السلاح ومستعدّون للارتحال والقتال. كردستان اليوم أصبحت مكاناً مختلفاً. بحسب الحكومة العراقية، فإنّ حكومة اقليم كردستان سجّلت أكثر من 300,000 مقاتل «بشمركة» كجنودٍ يتلقّون رواتب (بغضّ النّظر عن نسبة من يشارك منهم فعلياً في القطعات العسكرية)، وهذا يمثّل تقريباً ربع اليد العاملة في كردستان العراق. وهناك عددٌ مماثل سجّلهم الحزبان في البيروقراطية والإدارة العامّة. أي أنّك حوّلت نصف شعب كردستان الى موظّفين، وجعلت مجتمعاً زراعياً ورعوياً يتمدّن ويصبح «دولة» تعتاش على الريع والعقارات والاستيراد. نشرت «بلومبرغ» تحقيقاً عن اندثار الزراعة في الاقليم يشرح كيف أنّ كردستان العراق كانت، في السبعينيات، تنتج أكثر من نصف القمح في البلد، فأصبحت السهول الزراعية فارغة أو تستهلكها مشاريع البناء، فيما الاقليم يستورد أبسط المنتجات من جواره. بمعنى آخر قام البرزاني والطالباني، بأنفسهما، بتجفيف امكانيات المقاومة داخل المجتمع الكردي واستبدالها بجيشٍ «رسميٍّ» (وهذا، عن قصدٍ هذه المرّة، هو ما تحاول اسرائيل وأعوانها العرب تنفيذه في فلسطين).

خاتمة

لا يمكن تفسير العالم عبر «نظرية المؤامرة» لأنها تبسيطيّة، ولكنّ «التاريخ الحقيقي»، بتعرّجاته ومفاجآته و»منطقه» الذي يتحدّى الترويض، يشبه أحياناً «المؤامرة»، وإن حُبكت عن غير قصد. ينطبق هذا في تفسير المقاومة مثلما ينطبق على تفسير القتل و«الإرهاب». كمثالٍ، قد يكون من «التآمري» تفسير انفلات «القاعدة» و«داعش» وأشباههما على أنّه «مخطّطٌ أميركيّ» لتدمير بلادنا، خاصّة أن هذه التنظيمات تعادي اميركا، وقد شنّت عليها الهجمات. ولكن، من جهةٍ أخرى، متى كان فاعلو التّاريخ يتقصّدون النتائج؟ كما يقول المؤرّخ ستيفن كوتكين في تحليله لصعود هتلر، فإنّ الرّجل كان انساناً أقلّ من عاديّ، وسياسياً فاشلاً، حتى أواخر الثلاثينيات من عمره. تنظيم هتلر الأصلي، «حزب العمال الالماني»، كان حزباً يمينيّاً هامشيّاً راقب الغرب بارتياحٍ صعود شعبيّته، فقد كان سبب وجوده الأساسي هو «تمويه» و«الهاء» ــــ اجتذاب العمّال الألمان بعيداً عن البلشفية والحركات الماركسيّة عبر الخطاب الشعبوي (فيما بدا اليمين التقليدي عاجزاً عن حيازة الشرعية بين هذه الطبقات). حتّى حين وصل الحزب الى الحكومة ظلّت أكثر الأنظمة الغربيّة داعمةً له في البداية، فقاد أدولف هتلر حرباً عالميّة وقتل الملايين. بالأسلوب نفسه، يضيف كوتكين، سمحت برلين للينين وغيره من الثوار بالعبور الى روسيا عام 1917، وهم سعيدون بأن يزعج هذا الناشط المغمور الحكومة في موسكو، فقاد بعد أقلّ من سنةٍ ثورةً غيّرت العالم.
دعم الغرب وحلفائه للحركات المتطرّفة في الشرق، من أفغانستان الى سوريا، قد تمّ ايضاً بحسابات «كلبيّة» مماثلة ولكنّ حرب الغرب علينا، وهي تخرج «الإرهاب» من عقاله، قد أنتجت ايضاً نقيضه، ولا أحدّ تنبّأ بالإثنين. الأمثولة هنا هي أنّك لا يمكن أن تتوقّع التحدّي الذي سيرميه التاريخ في وجهك، ولن تتحكّم بالمستقبل أو تستشرفه. ولكن الثابت، في كلّ الحالات، هو أن تفعل ما في وسعك لكي لا تواجه عاديات التاريخ وأنت أعزل.