تسبّب صعود «اليمين البديل» في الولايات المتحدة على خلفية رئاسة دونالد ترامب في حدوث خَلط لدى النُّخَب بين معاداته للعولمة بشكلها الحالي وإمكانية حدوث تقاطع على أساس معارضتها بينه وبين اليسار. الأمران مختلفان وإن كان التداخل بينهما ممكناً لجهة اعتبار النزعة القومية لدى اليمين الجديد عاملاً مساعداً- وان لم يكن أساسياً- في تصعيد الخطاب المناهض للعولمة عبر رفده بقاعدة شعبية كبيرة.
على الأرض، لا نرى ذلك كثيراً لأنّ اليسار في الولايات المتحدة لا يزال يرفض هذه الإمكانية، ويفضل بدلاً منها التحلُّق حول الخطاب المدافع عن الأقلّيات في ظلّ تصاعُد النزعة المناهضة لهم لدى قواعد اليمين. وهو ما يؤكّد عليه دائماً بيرني ساندرز في خطاباته، حيث يشدِّد باستمرار على أولوية مجابهة النزعة الفاشية لدى جمهور ترامب، والابتعاد قدر الإمكان عن الطروحات الداعية إلى التحالف معهم، ولو تسبَّب ذلك في إضعاف «الجبهة» المناهضة لـ«استابليشمنت» الحزبين.

استقطاب جديد

لكن على الأرض أيضاً ثمّة استقطاب جديد بدأ بالتكوُّن، وهو يدعم فكرة البعض بتكوين «جبهة موحّدة» ضدّ هيمنة طبقة معينة داخل الحزبين الكبيرين. إذ تبيَّن أنّ المستفيدين من السياسة الضريبية الجديدة التي يقترحها أقطاب داخل الحزب الجمهوري موجودون بالقدر ذاته في الحزب الديمقراطي، والتقاطع بينهم يحصل على خلفية رفض تحميل الشركات مسؤولية التفاوت الكبير الحاصل في الدخل، وبالتالي الدفع بتشريع يُبقي الضريبة عليها منخفضة، بحيث تستطيع - كما يزعمون- إبقاء أعمالها داخل الولايات المتحدة، لخلق مزيد من الوظائف وخفض نسبة البطالة. وهو توجُّه مدعوم من ترامب، ومن خلفه أجنحة أساسية ونافذة داخل الحزبين، ولكنه في المقابل يلقى معارضة من القواعد الجمهورية والديمقراطية التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وترى أنّ «الإصلاح» بهذا الشكل سيكون على حسابها، وسيدعم وجهة في التراكم لا تخدم إلا الأغنياء والشركات الكبرى. وليس من قبيل المصادفة أنّ من يقف على رأس هذه المعارضة هم أنفسهم الذين يقودون الحملة ضدّ «استابليشمنت» الحزبين، سواءً من خلال منابر إعلامية كستيف بانون في «بريت بارت»، أو عبر الحراك القاعدي داخل الأحزاب كما يفعل بيرني ساندرز، ومن دون أن يكون ثمّة ما يجمعهما، لا بل يبدو من خلال مقاطعة ساندرز لنشطاء اليمين الجديد أنّ التقاطع بينهما مستحيل في الأمد المنظور.

صعود الصراع الطبقي

في مقالة أخيرة له في «ذي اندبندنت» تحت عنوان: «مؤيدو ترامب من اليمين البديل ويساريو بيرني ساندرز يجب أن يتحالفوا معاً لهزيمة الرأسمالية» يدافع سلافوي جيجك عن التوجُّه القائل بإمكانية التقاطع بين المعسكرين في مواجهة «الاستابليشمنت» الذي يقود السياسات في الولايات المتحدة والعالم. الفيلسوف السلوفيني المثير للجدل يضع هذا التقاطع في سياق صعود الصراع الطبقي داخل المجتمع الأميركي على خلفية النقاش حول السياسات الضريبية. وهو إذ يؤكّد على استمرار الخلاف مع معسكر ترامب حول قضايا أساسية مثل التغيُّر المناخي وسياسة الهجرة إلا انه يرى إمكانية فعلية لتجاوز هذا الأمر، عبر التركيز على القضية التي تشغله (هزيمة الرأسمالية الدولية)، والتي يعتبر أنّ الطرفين المؤهّلين للتصدّي لها داخل الولايات المتحدة هما اليمين واليسار البديلان بقيادة ستيف بانون وبيرني ساندرز. يقول مثلاً عن الاستقطاب الذي يقوده الاثنان ضدّ «الاستابلشمنت»، كلٌّ داخل حزبه: «... ثمّة استنتاج بأنّ الصراع الطبقي قد تحوّل ليصبح صراعاً داخل الحزبين الكبيرين أكثر منه بينهما». ثمّ يستطرد شارحاً فكرته أكثر:
«الصراع الطبقي في الولايات المتحدة انتقل أولاً إلى داخل الحزب الجمهوري من خلال الاستقطاب بين استابليشمنت الحزب وقوميي بانون، ثمّ إلى داخل الحزب الديمقراطي عبر الانقسام بين جناح كلينتون وحركة ساندرز». وعلى هذا الأساس يجد جيجك أنّ التقاطعات بين اليسار وحركة بانون تفوق بكثير - أقلّه لجهة الصراع المشترك ضدّ النخب النافذة - تلك التي تجمعه بجناح كلينتون داخل الحزب الديمقراطي، والذي يرى الرجل خطابه المتمحور بشدّة حول مناهضة العنصرية والعنف الجنسي عائقاً إن لم يكن لمنع اليسار تبني الصراع الطبقي كاملاً فعلى الأقلّ، لعدم وضعه أولوية، وتفضيل النضال الثقافوي عليه.

خاتمة

في النهاية يستنتج جيجك بأنّ الحاجة باتت ماسّة في هذه المرحلة لاستغلال الانقسام داخل معسكر اليمين، والدفع بخطاب يستقطب مؤيّدي بانون، بحيث لا يتحوَّل الخلاف معهم حول قضايا مثل الهجرة والتغيُّر المناخي إلى ذريعة لتأجيل المعركة الأساسية ضدّ الرأسمالية الدولية. ثمة أصوات إذاً من داخل اليسار لا تشاطر معسكر ساندرز رأيه في أولوية عزل اليمين الجديد قبل الانتقال إلى مجابهة النخب النافذة. هؤلاء ومنهم جيجك يعتبرون صعود اليمين الجديد مجرّد عارض، لا سبباً يمكن على أساسه بناء استراتيجية لليسار. قد لا يكون التحالف معهم هو الحلّ كما يدعو جيجك، ولكن حتماً الصدام معهم لن يوصل إلى نتيجة، وخصوصاً في هذه المرحلة التي تشهد تحوّلات أساسية وكبيرة على صعيد بنية النظام والمجتمع الأميركيين.
* كاتب سوري