اكتشفت السياسة الخارجية السعودية في الأسابيع الأخيرة، عمق القصور في فهمها للساحة اللبنانية. اتضح لصانع القرار السعودي وجود وقائع شعبية ورسمية أساسية لم يأخذها بعين الاعتبار أثناء صياغته للخطوات التصعيدية في مواجهة حزب الله. وقد يكون «مذهلاً» أن يظهر هذا المستوى العميق من سوء الفهم السعودي تجاه لبنان بالرغم من الموارد المالية والبشرية التي تكرّسها الرياض للواقع اللبناني واختبارها السياسة اللبنانية بشكل تفصيلي منذ اتفاق الطائف على أقل تقدير. فظهرت السعودية، كمن ينزل إلى الميدان ثم يفتتح القتال باطلاق النار على قدمه متوقعاً أن ينتصر.
في سياق دخول المنطقة مرحلة «ما بعد داعش» ينصب الجهد السعودي، كما الأميركي، على خلق ظروف تمنع قوى محور المقاومة من تحويل منجزاتها الميدانية إلى وقائع سياسية. ويأتي في مقدمة تلك الجهود عزل هذه القوى وجعل مشروعيتها (مشروعية الأهداف والسياسات والأيديولوجيا والقيادة والدوافع) موضع انقسامات شعبية. وفي سبيل هذا المسار تحاول السعودية الآن إعادة انتاج لحظة شبيهة بلحظة «2005» اللبنانية، أي خلق مواجهة شعبية – سياسية بغطاء دبلوماسي عربي – دولي ضد حزب الله ولكن انطلاقاً من ما تسميه «دور حزب الله الإقليمي» وليس «سلاح حزب الله».
لم يكن لهذه المواجهة أن تنطلق في ظل «حكومة التسوية» بين حزب الله وتيار المستقبل، فكان لا بد ابتداء من انهاء هذه الحكومة لتقليص «مشروعية حزب الله الرسمية» وخلق بيئة مواجهة بين الحزب والتيار كتمهيد للفوضى. إذاً المراد السعودي إسقاط التسوية وثم الفوضى. لكن فيما كانت الرياض تشحن الجناح المسيحي في قوى 14 آذار، بدا صادماً لها ممانعة الرئيس سعد الحريري وكتلته الصلبة داخل تيار المستقبل والمزاج العام للطائفة السنّية عن خوض هذه المغامرة، وهو ما استوجب اكراه الرئيس الحريري على الاستقالة من الرياض بشكلٍ مهين.

كانت الخطوة
السعودية شديدة
الارتجال والإرباك
وتعكس قلقاً عميقاً


قد يكون أبرز من أفرزته أحداث الأسبوعين الأخيرين في التوتر اللبناني - السعودي، هو ظهور مساحة فراغ كامنة بين السياسة السعودية (لا السعودية ذاتها) وأغلبية الطائفة السنيّة. منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، وفي ظل مشروع الرئيس الراحل رفيق الحريري، انزاحت الطائفة السنيّة بمراكز ثقلها نحو المدار السعودي مع ما ترتب على ذلك من انخراط أغلبية سنيّة بشكل متدرج في الخطاب السعودي تجاه الصراعات الإقليمية لا سيما بعد 2005. ولم تحاول أي دولة سنيّة أخرى مزاحمة السعودية في نفوذها داخل المجال السنّي اللبناني، حتى قطر وتركيا لما تبذلا جهوداً ملحوظة لتطوير حضورهما اللبناني ولو تكتيكياً، بالرغم من التنافر مع السياسة السعودية.
التشابك في المصالح والولاءات بين السعودية وتيار المستقبل معقد وكثيف وذا جوانب مادية ورمزية، وبطبيعة الحال لن يتفكك قريباً. قدمت السعودية نفسها راعياً «لكرامة ومكانة» الطائفة السنيّة، وانتهى بها الأمر تحتجز وتهين ابن الشهيد رفيق الحريري وزعيم تيار المستقبل ورمز السنّة في لبنان ورئيس الحكومة اللبنانية. كان المشهد عبارة عن صدمة متبادلة، صدمة مهانة من ناحية «السنّة» وصدمة تمرد من ناحية صانع القرار السعودي. ماذا يعني أن يحاول الرئيس الحريري وتياره إيجاد مساحة تمايز عن السياسة السعودية لخلق فوضى في لبنان؟
أولاً، هذا يعني أن تيار المستقبل يقرأ التوازنات اللبنانية بشكل سليم وناضج، وهذا أمر غاية في الأهمية. النظريات الحديثة في العلاقات الدولية تلفت إلى أن الأكثر أهمية من «توازن القوى» هو كيف ينظر اللاعبون السياسيون إلى هذا التوازن. تصورات صانعي القرار حول طبيعة التوازن هي ما تجعله منتجاً لمفاعيله، كما أن تصورات اللاعب السياسي عن الجهة المقابلة أمر حيوي، هل هي جهة معادية أو محايدة أو شريكة؟ فاللاعب السياسي لا يسعى لموازنة شركائه، ولذا يميل البعض إلى استخدام مصطلح «توازن التهديدات». يرى تيار المستقبل أن التوازنات اللبنانية – ناهيك عن الإقليمية – تجعل المواجهة مع حزب الله مشروع انتحار سياسي وخراب للبلد ومصالح الجميع فيه، وهذا ما يدفعه نحو منطق التسوية. كانت أحداث المشرق العربي في السنوات الأخيرة مختبراً للجميع، فتعلم كل طرف درسه المطلوب، بما فيه حزب الله وتيار المستقبل في حالتنا هذه. فالسياسة السعودية دفعت سنّة الريف السوري وسنّة العشائر العراقية إلى نار حرب أهلية خاسرة فقط لتحسين موقعها التفاوضي في الإقليم.
ثانياً، هذا يعني أن تيار المستقبل لا يرى حزب الله معادياً في الداخل، فالحزب يقر بالشراكة الوطنية ويلتزم بموجباتها في السياق المحلي. يحافظ السنّة اللبنانيون، عبر تيار المستقبل بشكل أساسي، على موقع متقدم في تركيبة النظام والسلطة، بالرغم من أن ميزان القوى المحلي والإقليمي لا يمنحهم ذلك. وذلك كون الحزب لا تُبنى سياسته المحلية فقط وفق منطق التوازنات أو الأخلاقيات بل وأيضاً وفق احتياجاته الاستراتيجية (الثورية والواقعية). فالأجندة المحلية لتيار المستقبل لا تتعرض لأي تهديد أو تحدٍّ مباشر من حزب الله. بل وحتى في الطروحات الإصلاحية الكبرى للحزب (قانون الانتخاب، قانون الإيرادات الضريبية وسلسلة الرتب والرواتب) فغالباً ما يتم التوصل لتوافق يأخذ بعين الاعتبار بعض المصالح الحساسة للتيار. وفي إطار الخلاف حول التموضع الخارجي، يُمارس تيار المستقبل كامل حريّته في التعبير عن موقفه المتمايز سواء من موقع الحريري كرئيس للتيار أو رئيس للحكومة بما يعكس أجندة التيار الخارجية.
ثالثاً، إن تيار المستقبل والسنّة عموماً في لبنان بدأوا يتلمسون الضعف الإقليمي للسعودية واكتشفوا وجود هامش للمناورة بعيداً عنها عند الضرورة. لم يكن ليجرؤ تيار المستقبل على المناورة على الموقف السعودي والبحث عن مظلة موازية، فرنسية – أميركية – مصرية، تحمي خياره في التسوية، لو أن التيار ورئيسه مقتنعون بمتانة دور السعودية وأنها قادرة على فرض خياراتها في لبنان أو على إعادة انتاج بديل سنّي لبناني من داخل تيار المستقبل أو من خارجه. إن ذهاب حلفاء السعودية نحو مواقف سياسية تضمر نوعاً من التمرد على خياراتها، لهو مؤشر أن تراجع نفوذها الإقليمي يتجاوز أن يكون مجرد رواية يحبكها خصوم المملكة. تلمّست السعودية خطورة هذا التصور لما قد يخلقه من تحفيز لمزيد من التشققات، ولذا تعمدت اظهار الحريري مكسوراً كرسالة ردع لسواه ممن يدورون في فلكها.
من الدلالات البارزة لما جرى، أن السعودية في ذروة تصعيدها اكتشفت أنها تفتقد لخيارات جادة ضد حزب الله، وبالتالي جرى افتضاح الفجوة بين خطابها وقدرتها. هذه الفجوة دفعت الرياض نحو قفزة كبيرة في المجهول، هشّمت صورتها وهيبتها على المستوى اللبناني وعززت من الحاجز النفسي بين تيار المستقبل وأغلبية مسيحيي 14 آذار، وأضعفت الأصوات السنيّة المتطرفة التي كانت السعودية تستخدمها للتشويش وتحضير مناخات التوتر.
كانت الخطوة السعودية شديدة الارتجال والارباك وتعكس قلقاً عميقاً، ومعطوبة شكلاً ومضموناً وذلك لأسباب سعودية ذاتية. أولاً، لأن الانتباه السعودي في المجال الإقليمي مشتت في جملة أزمات كبرى في ظل غياب استراتيجية مُوجِّهة. ثانياً، لأن الجهاز الخارجي السعودي تنقصه الكفاءة والخبرة لآداء هذا الدور المتضخم فجأة في الإقليم. وثالثاً، لأن صانع القرار غارق في مخاض ولادة السعودية الرابعة، وتركيزه مكرّس لاستكمال التحول الداخلي وهو ما يترك مساحة فراغ في السياسة الخارجية أو يجعل صانع القرار يوظف السياسة الخارجية لخدمة الحاجات الداخلية. رابعاً، لأن النظام فاته أن قواعد اللعبة الغربية في لبنان، والمشرق العربي، تختلف عن تلك التي في الخليج. فالأوروبيون والأميركيون لا يعتبرون المشرق العربي مجالاً حيوياً مشروعاً للسعودية كما اليمن مثلاً، وبالتالي يعتبرون أن هامش الحركة والمناورة السعودية في لبنان مشروط بعدم الصدام مع مصالحهم الحيوية في المشرق.
من مؤشرات هذا الدرس اللبناني، أنه بعد السنوات الدامية الأخيرة في المنطقة أصبحت الوقائع المحلية قادرة على فرض نفسها على اللاعبين الخارجيين لا سيما في الخيارات الكبرى. فمآسي المجتمعات المحلية جعلتها أكثر رغبة ووعياً لضرورة صياغة تفاهمات محلية تسمع لها بالحصول على مرحلة لاستجماع أنفاس وحصر الخسائر. عبّر سعد الحريري عن هواجس ومصالح الجماعة التي يمثّل، ومصالحه ضمناً، فأسس للمرة الأولى صورة زعيم داخل الطائفة وليس مجرد وريث، وقدّم نفسه شريكاً جدياً خارج الطائفة، شريكاً قادراً على بناء تفاهمات والالتزام بموجباتها بما يجعله حاجة حتى للمنتصرين.
يقال إن من الفوارق الأساسية بين المحترفين والهواة أن نجاح المحترفين يتحقق عبر القيام بانجازات جديدة تتجاوز المعتاد والممكن، فيما نجاح الهواة يتحقق فقط بتجنب ارتكاب أخطاء واتمام الخطوات البسيطة. معضلة السعودية هي في اصرارها على القيام بقفزات تستلزم مهارات احترافية لكن بقدرات الهواة، فلا تُنتج إلا الأخطاء، وهذا ما يجعل الوقت يلعب لصالح خصومها. لذا ربما على السعودية أن تُركز فقط على تجنب ارتكاب الأخطاء. إلى حينه، من الضروري أن لا يتحول لبنان إلى مختبر آخر للسياسة الخارجية السعودية.
*باحث لبناني