بعد ستة أشهر من الانتخابات البرلمانية عاد نحو 23 مليون جزائري أو على الأقل الراغبون منهم، إلى مكاتب الاقتراع في استحقاق جديد لاختيار أعضاء مجالس 1541 بلدية و48 محافظة أو ولاية. كالعادة وكما دأبت البلاد منذ تسعينيات القرن الماضي، ليس ثمة من مفاجأة انتخابية. فقد فاز حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم بالمركز الأول بـ603 بلديات و711 مقعداً في مجالس المحافظات، فيما أتى التجمّع الوطني الديموقراطي في المرتبة الثانية بحصوله على رئاسة 451 بلدية و527 مقعداً في مجالس المحافظات.
ورغم وجود نحو خمسين حزباً وأربعة تحالفات سياسية إضافة إلى العديد من القوائم المستقلة، فإن الكعكة اقتسمها حزبا السلطة. الجبهة برئاسة الدكتور جمال ولد عباس (83 عاماً) والتجمع الوطني الديموقراطي برئاسة السيد أحمد أويحي (65 عاماً)، رئيس حكومة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.

كيف جرت عملية التصويت؟

شهدت العملية الانتخابية بعض المناوشات وتحطيم بعض الصناديق في بعض المناطق بسبب ما سمي بالتلاعب في العملية الانتخابية. وتلقت الهيئة العليا للانتخابات عدة شكاوى بشأن تجاوزات سُجلت في بعض مراكز التصويت بعدة مدن جزائرية. كما لم يجد مئات الناخبين أسماءهم على القوائم الانتخابية رغم حملهم لبطاقات الانتخاب ومشاركتهم في الانتخابات الماضية.
ومن طرائف هذا الاستحقاق، أن رئيس «حركة مجتمع السلم»، الإسلامي التوجه، عبد المجيد مناصرة، ذهب للإدلاء بصوته، فلم يجد اسمه على القائمة الانتخابية، فانفجر غاضباً: «إدارة متخلفة وتريدون حكومة الكترونية!».

... وإذا ابتليتُم فاستتروا!

أما الخوف من شبح المقاطعة، فقد عكسته حادثة لافتة حيث نقل التلفزيون الرسمي صوراً لطوابير من الناخبين ينتظرون دورهم. لكن كانت ثمة مشكلة صغيرة، فهؤلاء الناخبون تواجدوا بحسب القناة مرة في مدينة البليدة التي تبعد عن الجزائر العاصمة بنحو 50 كلم ومرة أخرى قالوا إنها كانت صوراً مباشرة من العاصمة! والطريف أن الشريط الإخباري تحت الصورة المذكورة كان يشيد بما وصفه «احترافية وموضوعية الصحافة الوطنية في تغطيتها للعملية الانتخابية».
ولنضع تحت كلمتي احترافية وموضوعية ألف خط!

شبح الامتناع ونسبة المشاركة

لم تكن المشكلة أبداً في هوية الفائز بل في نسبة المشاركة، فقد بلغت 46,8% للمجالس البلدية و44.26% لمجالس المحافظات بحسب وزارة الداخلية.
وهي نسبة تزيد بعشر نقاط على الأقل عن الانتخابات البرلمانية في مايو/ أيار الماضي، حيث بلغ العزوف عن التصويت مستوى قياسياً ناهز نسبة 65%.
وإذا سلّمنا بصحة هذه الأرقام، فإننا نجد أن أقل من نصف المقترعين انتقلوا إلى مكاتب التصويت رغم جهود السلطة لجذب الناخب ورغم تمديد فترة الاقتراع ساعة واحدة في 45 ولاية من أصل 48.

حملة باهتة وانتخابات بطعْم رئاسي

إن كل من راقب المشهد الانتخابي في الأسابيع الماضية، خلُص إلى نتيجة واحدة: هناك عرس بلا عريس. فقد شهدنا حملة انتخابية ليس فيها من الحملة إلا الاسم.
ولن نتجنى إذا قلنا إن الملفات التي تمسّ المواطن في حياته اليومية كادت أن تكون غائبة. فبدل الحديث عن التنمية المحلية ودور البلديات، تركزت الحملة أساساً على الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد ومشروع قانون المالية لعام 2018 وطبعاً الانتخابات الرئاسية المقبلة.
واللافت أننا شهدنا ما يشبه الانفراط في عقد ما يسمى بالتحالف الرئاسي المكوّن من حزب جبهة التحرير والتجمع الوطني الديموقراطي.

صراع الديكة والعين على 2019

لن نذكر من هذه الانتخابات إلا صراع الديَكة أثناء الحملة والحرب الكلامية بين رئيس الحزب العتيد الفائز بالأغلبية البرلمانية الماضية ورئيس التجمع الوطني الديموقراطي، لتكون التجمعات الانتخابية والمنصات الإعلامية هي ساحة المواجهة بين الرجلين.
فالسيد أويحي مثلاً، وصف زعيم جبهة التحرير الوطني ببابا نويل في إشارة إلى الوعود التي يقطعها ولا يوفي بها. كما قصف زعيمُ ثاني حزب في البلاد حليفَ الأمس وغريمَ اليوم بتصريحات تُشكّك في تاريخ السيد ولد عباس النضالي، حيث تحدث عما أسماهم المجاهدين المزيّفين الذين لم يظهروا حسب تعبيره إلا بعد عام 1962، أي بعد استقلال الجزائر.
وتحدث أويحي غامِزاً زعيم الجبهة، عن نوع جديد من المجاهدين المزيّفين الذين اختبأوا في سنوات الإرهاب أيام كانت الدولة مهددة في كيانها.

كل من راقب المشهد الانتخابي، خلُص إلى نتيجة واحدة: هناك عرس
بلا عريس


في المقابل، ودائماً في إطار الحرب الكلامية بين الرجلين، دعا السيد ولد عباس إلى عدم تصديق أولئك الذين يريدون إخافة الجزائريين حين قالوا إنه قد يتعذّر دفعُ رواتب الموظفين في شهر أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.
زعيم الجبهة كان يقصد تصريحات أدلى بها «صديقه اللدود» حول الضائقة المالية التي تمر بها البلاد وتدهور أسعار النفط.
فقد قال أويحي في هذا الصدد، إن الحل الوحيد كان لجوءَ الخزينة العامة إلى الاقتراض الداخلي (الاقتراض من البنك المركزي)، وإلا لم يكن في الإمكان أن يتسلم الموظفون رواتبهم لشهري تشرين الأول والثاني.
وبناء على ما سبق، فإن ما شهده الجزائريون لم يمتّ بصلة للانتخابات البلدية لا من بعيد ولا من قريب. والصراع الدائر بين الرجلين عنوانه الوحيد هو سنة 2019، موعد الاستحقاق الرئاسي.
فزعيم الجبهة العتيدة صرّح قبل أيام وأثناء تجمع انتخابي في العاصمة الجزائر، بأن حزبه هو الذي سيفوز بالانتخابات البلدية بل سينتزع الولاية الخامسة. واللبيب طبعاً من الإشارة يفهم. وقال أيضاً بالحرف قبل فترة: «لا يعرف اسمَ الرئيس المقبل للجزائر إلا حزبُ جبهة التحرير الوطني و... الله!»، قبل أن يضيف: «نعم اسمه في رأسي».
كما صرّح السيد ولد عباس في مناسبة أخرى بأنه يحق لشقيق الرئيس ومستشارِه الخاص السيد سعيد بوتفليقة أن يترشح للانتخابات الرئاسية عام 2019 مثله مثل أي مواطن جزائري. وأشاد زعيم جبهة التحرير الوطني باستقامة الشقيق وبأنه «تربية الرئيس»، معتبراً أنه عاش طيلة ثمانية عشر عاماً في ظل الرئيس، وقال إنه يحظى بحب الناس وبشعبية كبيرة.
كل هذا لم يكن ليروق بطبيعة الحال لزعيم التجمع الوطني الديموقراطي ورئيس الحكومة السيد أحمد أويحي الذي صرح، ولأول مرة، بأنه قد يترشح للانتخابات الرئاسية في حال لم يطلب الرئيس ولاية خامسة.

بعد كل ما سبق يحق لنا أن نتساءل:

ــ عن أي انتخابات بلدية نتحدث وأقطاب الحكم مشغولون باستحقاق 2019 والسباق على كرسي الرئاسة؟ بل إن الحديث يدور عن ولاية خامسة لرئيس يعاني من آثار الجلطة الدماغية التي أُصيب بها عام 2013، ويكاد يكون غائباً عن الساحة أكان في الداخل أو في الخارج، إذا استثنينا إطلالاته القليلة في اجتماعات مجلس الوزراء والخطابات التي يقرأها التلفزيون الرسمي في المناسبات الوطنية كما حدث عشية الانتخابات الأخيرة حين دعا المواطنين للتصويت بكثافة.
ــ لِم التصويت والنتيجة محسومة سلفاً والتغيير منعدم بل ويكاد يكون ممنوعاً؟
كيف يمكن إذاً للناخب أن يصوّت ويطمع في التغيير وهو يسمع رئيس الحزب الحاكم الموجود في السلطة منذ أكثر من خمسة عقود يقول إنه يعرف اسم الرئيس المقبل للبلاد، بل يتحدث عن ولاية خامسة؟
كيف يمكن إقناع من يرفض الإدلاء بصوته وهو يرى أن الاستحقاق الرئاسي هو موضوع الانتخابات البلدية التي من المفروض أن تحسّن من ظروف الحياة اليومية للمواطن.
هل كُتب على الشعب ألاّ يخوض في حديث غير حديث العهدة الثالثة والرابعة والخامسة وإلى ما شاء الله ومَدَّ من عمْر؟
ـــ متى يدور النقاش عن بناء الوطن لا عن برنامج الرئيس ومدى الالتزام به؟
ــ ألمْ يملّ الحزب العتيد من الحديث عن الشرعية الثورية التي باسمها تولّى الحكم لأكثر من نصف قرن ويريد البقاء فيه إلى الأبد؟
ــ كيف يمكن أن نشرح للمواطن لماذا ترزح البلاد تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة بعد كل المليارات التي درّتها عوائد النفط على الخزينة منذ عشرات السنين؟
فالأرقام الرسمية هي التي تحدثت عن جنْي نحو تريليون دولار من أرباح النفط بين سنتي 1962 و2013، منها 800 مليار دولار دخلت الخزينة بين سنة 2000 و2013.
ــ كيف للناخب أن يثق في من يسفر عنهم الصندوق حين يكتشف أنه جرت مناقشة قانون المالية الجديد للعام المقبل في برلمان بلا نواب!
فقد تغيّب عن الجلسة نحو 362 نائباً من أصل 462، رغم أهمية الملف ومناقشة مشروع قانون سيمسّ جيب المواطن خصوصاً مع الاتجاه لإقرار الزيادات في القانون الجديد.

الشباب الجزائري وظاهرة الهجرة

بدل محاولة شراء الرضى الشعبي وإسكات الشارع في سنوات الطفرة النفطية، لماذا لم تحاول الحكومات المتعاقبة الاستثمار في الانسان، في بلد 45% من سكانه شبابٌ دون الخامسة والعشرين و30% منهم عاطلون من العمل؟
لماذا لم تسع الدولة لإقامة مشاريع تخلق فرصَ عملٍ لاستيعاب ملايين الشباب اليائس من مستقبل كريم في وطنه، ولا يجد إلا قوارب الموت يركبها باتجاه سواحل أوروبا؟
فقد أظهر تقرير صادر عن مفوضية الأمم المتحدة للاجئين هذا الأسبوع، أن الجزائر هي الخامسة في ترتيب الجنسيات الأكثر إقبالاً على الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا بعد سوريا (15%) والمغرب (9%) ونيجيريا والعراق (7% لكل منهما). وهم بذلك يشكلون نسبة 6% من مجموع المهاجرين الذين عبروا المتوسط بين شهري تموز/ يوليو وأيلول/ سبتمبر 2017.
كذلك كشفت وزارة الداخلية الإسبانية أخيراً أن من بين 962 مهاجراً قدموا عبر البحر منذ السادس عشر من هذا الشهر، 562 منهم كانوا جزائريين!
وقد عثر الصيادون في أسبوع واحد فقط في مدينة مستغانم غرب الجزائر، على جثث متحلّلة لثلاثة شبان لفظتهم أمواج البحر.
ما الذي جرّته على البلاد هذه السياسة الآنية والضيقة الأفق غير اعتراف رئيس الحكومة السيد أحمد أويحي بنفسه في إحدى المقابلات التلفزيونية بأنه، وبسبب أحوال البلاد المالية غير المريحة حسب تعبيره، عمدت الدولة إلى تجميد العديد من المشاريع بما فيها بناء المدارس بالإضافة إلى تجميد التوظيف في القطاع العام.
بل وأضاف بالحرف: «لولا الاقتراض الداخلي، كانت الجزائر تتوقف تماماً».

عن أي انتخابات بلدية نتحدث، وأقطاب الحكم مشغولون باستحقاق 2019 الرئاسي؟


من النفط والغاز إلى الغاز الصخري

المحزن في الأمر، أننا لا نتعلم من دروس الماضي. فبدل أن ينقل صناعُ القرار البلادَ من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الانتاجي، نجدهم يستمرون في سياسة الهروب إلى الأمام. ويخرج علينا السيد أويحي في اللقاء التلفزيوني نفسه ليقول لنا إنه لا مفرّ من استخراج الغاز الصخري لتعويض خسائر عائدات مخزونات النفط والغاز المتضائلة، مع كل ما يشكله استغلال هذا النوع من الطاقة من مخاطر على البيئة وتلوّث المياه ورغم الاحتجاجات التي يثيرها المشروع. وبذلك لا يبدو أهل الحكم في واردِ اعتمادِ نموذج اقتصادي مختلف، خصوصاً أن احتياطات البلاد من الغاز الصخري تقدّر بنحو 20 ألف مليار متر مكعب بحسب الأرقام الرسمية، لتكون الجزائر بذلك رابع دولة في العالم بعد الولايات المتحدة والصين والأرجنتين. وكأنّ رأسمال البلاد الوحيد هو في الخيرات التي منّت السماء بها عليها. هذا إذا افترضنا بطبيعة الحال حسن التصرف في تلك العائدات.

التحديات الأمنية في مواجهة الجمود

ثم ماذا عن التحديات الأمنية للبلاد التي تعيش في محيط يموج بالحروب والاضطرابات؟ شرقاً وعلى حدود تمتد على قرابة ألف كلم، توجد ليبيا التي أصبحت دولة فاشلة ومرتعاً للجماعات والميليشيات المسلحة وتنظيم «داعش». وجنوباً، هناك دولة مالي حيث ينشط تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».
فالبلاد التي عانت من العنف الأعمى على مدى عقد من الزمن خلّف أكثر من مئتي ألف قتيل ومليارات الدولارات من الخسائر ليست بمنأى عما يحدث في الجوار والمنطقة عامة، خصوصاً وأن تنظيم «داعش» يطل برأسه بين الفينة والأخرى.
نذكر على سبيل المثال لا الحصر، تبنّيه التفجيرَ الانتحاري الذي استهدف مركزاً للشرطة في مدينة تيارت غرب البلاد عشية عيد الأضحى الماضي، ما أسفر عن مقتل شرطيين.
قد يجادل البعض بأن البلاد قد دفعت حصتها من المعاناة خلال سنوات الإرهاب وبأن الجزائريين اعتبروا مما حدث وبالتالي لا خوف من العودة لما يسمى بالعشرية السوداء. قد يكون ذلك صحيحاً إلى حد ما، لكن على هؤلاء أن يدركوا أن شباب اليوم لم يعش تلك السنوات ولا فظاعاتها. وبالتالي فإنه من السهل أن يُغرّر به في ظل انسداد الأفق السياسي والاقتصادي، وفي غياب مشروع حقيقي لبناء مجتمع ديموقراطي قائم على توزيع عادل للثروة.
وإلى أن يعي من أُوكلت لهم مسؤوليةُ إدارة البلاد جسامةَ المهمّة وخطورةَ المرحلة ويؤمنوا بحتمية التداول على السلطة، يبقى العزوف هو السيد، مهما اختلفت الأرقام. فهذا الشعب يعرف سلفاً أن التغيير غيرُ وارد وأن الوجوهَ والسياسات هي الثابت الوحيد.
* صحافية جزائرية - فرنسا