«هذا وهم… وهمٌ ما ترينه، قال أبي لأمي التي رفعت كفّها فوق عينها تتقي الشمس ناظرةً إلى بعيد. لا يمكنك رؤية ما تدّعين رؤيته من مثل هذه المسافة، فالبحر كالصحراء له سرابه وأيضاً و نحن ما زلنا بعيدين عن اليابسة. لكني قلت لأبيك إنها بيروت، وإن المركب الذي يحملنا من الإسكندرية إلى اليونان ولازم الشواطئ هرباً من هيجان الموج في عرض البحر هو الآن بمحاذاة رأس بيروت التي آراها فعلاً».هكذا تَفتتح هدى بركات روايتها «حارث المياه» عن الحرب الأهلية في لبنان، من بيروت للإسكندرية لليونان ثم العودة لبيروت مجدداً، وكأن العودة لبيروت شيء صعب ولكن الذهاب لتلك العواصم سهل، لكنه بالضرورة أسهل بكثير من أن ينفى الفرد للسعودية مثل زين الدين العابدين. ولكن تباعاً لذلك العسير على المرء أن يحتجز في عاصمة غريبة مثل السعودية مثلما حدث لسعد الحريري، فهؤلاء المسؤولون السعوديون هم الذين يُصعّبون العودة لبيروت بعد كل موجة عنف وحرب شهدتها لبنان، باحثين عن دور في «إعادة إعماره» ولكن عبر أدوار جديدة. فبعد اختفاء سعد الحريري في العاصمة السعودية، نرى تطورات عدة تحاكي نمط العودة للحرب لكن هذه المرة بتغيرات جذرية، جوهرها يكمن في صعود لاعبين جدد في تطور ينذر بخصخصة دور شرطي المنطقة: الكيان الصهيوني.

فإذا كان الكيان الصهيوني منذ ولادته المتأخرة المبتسرة يلعب دور شرطي أميركا في المنطقة، فمنذ الآن فصاعداً سيتغير هذا الدور. منذ تبوّأ الحكم عدد من الحكام الجدد، أصبحوا يأخذون على عاتقهم مهمة جديدة، جوهرها هو المنافسة والانبطاح لأميركا لرفع الحرج عنها وعن شرطيها «الهلكان»: إسرائيل. من صعود عبد الفتاح السيسي، وضرورة قيامه ببسط سلطته على البلد من خلال إزاحة صهره الفريق محمود حجازي أو عبر حبس معارضيه وقتلهم، لمحاولات محمد بن سلمان آل سعود للوصول للهيمنة عبر التخلص من أمراء. كلاهما يمارس طقوس السعي إلى الهيمنة، دائبَين في محاولات ترضية القوة العظمى ــ الولايات المتحدة ــ عبر منطق القوة الذي يترجم للمعادلة الحساسة التي تسمي نفسها «الاستقرار». من هنا يبدأ السباق لمذبحة القلعة، ذلك الحادث الضروري والتأسيسي للحكم الذي يبث نوعاً من الخوف حتى يقوم كلاهما برعد معارضيهما والجلوس على مائدة السلطة مع نظيرهما الأميركي متفاخرَين بسلطتهما.

إذا رجعنا إلى سردية جمال مبارك عن مكافحة الفساد، نرى أن هذه السردية هي نفسها التي تقال الآن

آخر محاولات لخلق هذه الهيمنة تأتي في نمط التخلص من معارضيهما عبر خطفهم وطرح عاصمتيهما على أنهما مركزا سلطة للعالم العربي، إما عبر استضافة مسؤولين منبوذين أو عبر أخذهم رهائن... وكأنه إعلان لموسم الهجرة لعاصمتيهما ــ أو في هذه الحالة قُل موسم الحج ــ لكن ليس للشمال كما في رواية الطيب صالح، هو موسم الهجرة للغرب. لكننا لا نتحدث عن «الغرب» ــ وإن كانت السعودية تتمنى يوماً من الأيام أن تكون جزءاً من أوروبا ــ لكن ما يقع جنوب غربي بيروت: الصحراء العربية التابعة لآل السعود. وإن كان المثير، أنّ الطيب صالح يفرض نفسه علينا في مغادرة الحريري السعودية متجهاً إلى باريس، ربما مصير كل هجرةٌ للغرب في نهاية المطاف.
قد يبدو هذا الأسلوب جديداً وسط أنباء عن اختفاء واحتجاز سعد الحريري في العاصمة السعودية ومغادرته إلى باريس، لكن علينا أن نتذكر أن الشرطة المصرية حتى الآن لم تتمكن من القبض على وزير الداخلية المصري السابق تحت حكم مبارك، حبيب العادلي، الرجل الحديدي لنظام مبارك الهارب والمطلوب للعدالة لضلوعه في قضايا فساد وسط أنباء هروبه للسعودية لإنشاء جهاز أمن دولة جديد من هناك. برغم أنه لم يقدر أن يَصُدّ موجات غضب الثورة في مصر إبان كانون الثاني في ٢٠١١، إلا أن له خبرات أهم، تستعين بها السعودية الآن في خلق ما يمكن تشبيهه بما حدث في القاهرة في ١٩٨١ «كماشة أحمد بدوي». ليست صدفةً أنه فور اختفاء حبيب العادلي تم احتجاز سعد الحريري.
ففي ٢ آذار ١٩٨١ أثناء حكم أنور السادات وقبل تسلّم حبيب العادلي لشرطة مصر، سقطت طائرة مروحية تقل وزير الدفاع المصري المشير المصري أحمد بدوي في صحراء مصر ليرحل معها المشير أحمد بدوي وعدد من القادة العسكريين. ونجا بأعجوبة بعض من كانوا على المروحية، بينهم الطيار سمير غيث الذي قفز من الطائرة لينزل على رمال الصحراء وليُقتل بعدها بعام في حادث غامض نتيجة دخول «لص» بيته ليلاً وضربه بالرصاص. هذه هي إحدى القصص السرية التي تحكي عن صعود مبارك وتبلور أسلوب جديد للحكم، وربما هذا هو مفتاح معضلة جنوح بعض العسكريين المصريين إلى صف الثورة في كانون الثاني في ٢٠١١ بالتخلص منه، متذكرين مصير المشير أحمد بدوي في محاولة لتجنّبه. لعل هذا ما تم تصديره للسعودية عندما قُتل الأمير منصور بن مقرن في حادثة سقوط مروحيته ربما في محاولة للفرار من قبضة بن سلمان في يوم ٥ تشرين الثاني.
توارث حبيب العادلي هذا الأسلوب وتبناه ضد المعارضة المدنية لمبارك حتى عُرف عنه أنه متخصص في هذه الأساليب بعد اختفاء الصحفي رضا هلال، نائب رئيس تحرير جريدة «الأهرام» الحكومية بعدما بدأ بتسريب معلومات عن قرض مصر من صندوق النقد الدولي وبرامج إعادة الهيكلة إبان ٢٠٠٣. حتى إنه قيل إن رضا هلال أفشى ببعض المعلومات عن ثروة جمال مبارك حين كان يتم التمهيد لوراثة الحكم من أبيه. وهذا بالطبع لم يمنع جمال مبارك من طرح نفسه على أنه السياسي الذي كان يحارب الفساد في حين أنه كان أكبر فاسد بينهم.
وإذا رجعنا لسردية جمال مبارك عن مكافحة الفساد، نرى أن هذه هي السردية نفسها التي تقال الآن عما يفعله محمد بن سلمان، فيزعم الإعلام الرسمي السعودي أن محمد بن سلمان يحارب الفساد وأن المملكة السعودية تفتح صفحة جديدة لاقتصادها في العام نفسه الذي ستنال فيه الولايات المتحدة أكبر امتياز وهو خصخصة شركة «أرامكو» عبر طرحٍ عام في البورصة. قد تبدو الولايات المتحدة بريئة من أفعال محمد بن سلمان لكنها تقف بقوة وراء هذه الإجراءات الاقتصادية التي تؤدي لموجات العنف، وربما إن هؤلاء الأمراء الذين قتلوا أو تم القبض عليهم هم من عارضوا خطوات مقبلة مثل إجراء طرح عام لشركة «أرامكو»، مثلما حدث في مصر تماماً في السبعينيات بعد إصرار صندوق النقد برفع الدعم عن العيش وقيام انتفاضة العيش ورجوع السادات عن قراره بعد إصرار وزير الدفاع آنذاك الفريق عبد الغني الجمسي على انتزاع هذا الشرط لانتشار قواته.
ولكن هروب من استطاع من الأمراء السعوديين من قبضة محمد بن سلمان لم يكن سهلاً، فبدلاً من توجههم إلى «المحروسة» التي استضافت «الأمراء الأحرار» أيام عبد الناصر (الأمراء الذين حاولوا الانقلاب على القوى الرجعية في السعودية) نرى هروب الأمير تركي بن محمد بن فهد، حفيد الملك فهد الراحل، إلى إيران. فمع انطلاق «موسم الحج» إلى السعودية، سافر حبيب العادلي واختفى في السعودية هرباً من الشرطة في مصر، إذا فرضنا أنها لم تتواطأ في هروبه، كما لجأ زين العابدين بن علي إلى السعودية، وفي المقابل تبلورت حركة عكسية بنوع من «الحج العكسي» ولكن إلى إيران.
بالرغم من تنبؤ الإعلامي وعضو مجلس النواب المصري المطرود توفيق عكاشة بـ«زلزال» سياسي في السعودية إلا أن نبوءته جاءت منقوصة، ربما لأن «أسياده» لم يتمكنوا من مهمتهم في السعودية كما تمنوا، فلم يهرب إلى القاهرة حتى الآن أي أمراء. ولكن الأيام بيننا، فبعد سماع خبر الإفراج عن سبعة أمراء مقبوض عليهم في السعودية، هل يهرب هؤلاء إلى القاهرة مسترجعين حنين أيام عبد الناصر؟ إن موسم الهجرة ما زال مفتوحاً.
لكن مثلما كانت العودة إلى بيروت بعد الحروب صعبة ــ ولكن ليست مستحيلة كما صورت هدى بركات ــ قد تكون العودة لأيام عبد الناصر صعبة تحت حكم عبد الفتاح السيسي، ولكنها ليست مستحيلة. نحن لا نعلم إذا كان سيقدر الحريري العودة لبيروت وإن كان محتجزيه اشترطوا على الفرنسيين دورهم الاستعماري السابق في الإبقاء على سعد الحريري في باريس. لكن ما نعلمه علم اليقين هو أن القاهرة لم تعد العاصمة التي تحاول أن تقف أمام إسرائيل مثلما كانت في الستينيات، ولعل هذا هو مفتاح القضية. وسط السكوت التام من جانب إسرائيل، يتم تحضير لشيء ما جديد، لكن لا نعلم ما هو بالتحديد. لا نستبعد حرباً مقبلة كما لا نستبعد حرباً بطرق أخرى ــ هل ما يحدث في السعودية الآن ليس نوعاً من الحرب؟ ما هو معلوم فقط هو أن القاهرة لم تعد العاصمة التي كانت تحاول أن تصنع توازناً ما كما في أيام مبارك حيث كان يلعب دوراً أقوى. صحيح كان مبارك ينحاز لإسرائيل في نهاية المطاف لكن ذلك لم يكن انبطاحاً ما تطلّب حضوراً مستمراً للترسانة الإسرائيلية واندلاع حروب عدة بين إسرائيل وقطاع غزة. مع مرور أعوام عدة على آخر حرب لإسرائيل مع لبنان لا يمكننا أن نطمئن ــ أو نخاف بالمناسبة من حرب مقبلة ــ لكن علينا أن نقلق من أن غياب الحرب مع الكيان الاستعماري يعني أنه تم نقل دور «الشرطي» للحلفاء العرب. فمن هذا المنطلق نفهم أن معارضة السيسي لحرب الآن ضد إيران وحزب الله ليس من باب دور سياسي يحنّ لمكانة مصر أيام عبد الناصر، لكن لأن اقتصاد مصر هش لا يحتمل ارتفاع أسعار النفط نتيجة حرب، وارتفاع فاتورة الطاقة وسط انحدار شعبية السيسي. هناك لعبة جديدة في المنطقة العربية ليس عنوانها الحرب كما قال الجنرال البروسي في القرن التاسع كارل فون كلوزويتز من «أن الحرب هي مواصلة السياسية لكن بطرق أخرى»، لكنها أقرب لما قاله ميشيل فوكو الذي عكس طرح كلوزوتس ليصبح «إن السياسية هي مواصلة الحرب لكن بطرق أخرى».
*كاتب عربي