التضامن الرسمي والشعبي اللبناني، شبه الكامل، في التعامل مع «محنة» الرئيس سعد الحريري، مجبراً على الاستقالة وخاضعاً لابتزاز واحتجاز، من قبل قيادة المملكة العربية السعودية، لا يختصر المشهد الخاص بهذه المسألة، ولا المشهد اللبناني عموماً. لا شك أن هذا التضامن مع رئيس وزراء لبنان في التعامل مع الحالة الشاذة التي أدَّت، في الرياض العاصمة السعودية، إلى استدراجه واحتجازه ثمَّ فرض الاستقالة عليه، هو أمر طبيعي.
هذا رغم أنه، بالنسبة للعالم كله، ما يمكن أن يكون فيه طبيعياً، ليس بالضرورة أن يكون كذلك في لبنان: «الحقائق على طرفي جبال البيرينيه ليست بالضرورة واحدة»، كما كان يقول «باسكال». لكن في واقع الأمور أن استدراج واحتجاز رئيس الحكومة وفرض الاستقالة عليه قد وقع في قلب الصراع السياسي القائم في لبنان ومن حوله وفي المنطقة. ولطالما رسم وحدَّد هذا الصراع، عبر استقطابات وتأثيرات، حاسمة غالباً، المشهد السياسي اللبناني عموماً. ولذلك فإن القوى التي بادرت إلى إعلان مواقف سلبية من الأسلوب السعودي في الاستدراج والاحتجاز والاستقالة، إنما كانت تواصل صراعاً قائماً وممتداً ومتصاعداً مع سياسات المملكة في المنطقة ولبنان. وكان سهلاً عليها، بالتالي، أن تعارض تدريجياً مواقف المملكة وأسلوبها ولو كان يتناول حرية زعيم فريق سياسي لبنان محسوب عليها ومحسوم ولاؤه لها ابناً عن أب!
ثم أنَّ الحريري، من جهة ثانية، هو شريك العهد وصاحب مبادرة وفضل في انتخاب الرئيس ميشال عون، رغم ما انطوى عليه الموقف السعودي آنذاك من التباس عُقدت عليه مراهنات من قبل مقربين من السعودية في أن لا تجيز قيادتُها هذا الانتخاب. وسرعان ما تكشفت عملية انتخاب عون عن صفقة ثنائية سُميت «التسوية»، بين رئيس «التيار الوطني الحر» ورئيس «تيار المستقبل»، لإقامة ثنائية حكم جديدة بين التيارين في موقعي الرئاستين الأولى والثالثة بما يستعيد، تقريباً، ما كان قائماً قبل اتفاق «الطائف» لعام 1989.
أكثر من ذلك، فقد تبيّن أن الطرفين قد عقدا تفاهماً يمتد إلى الرئاسة الأولى القادمة حيث سيحظى رئيس التيار الحالي، الوزير جبران باسيل، بدعم «المستقبل». ولقد «تعمدت» هذه الثنائية، بشكل سريع، بشراكة متنامية في الإدارة وفي التعيينات وفي الصفقات، بشكل سافر، ودون أن يكلفا نفسيهما تمويهاً أو مناورة. من صفقة النفط (المرسوم الأول للحكومة) إلى مشروع صفقة الكهرباء (مرسومها الأخير الذي لم يكتمل)، برزت مطحنة ثنائية جاهزة لأكل الأخضر واليابس من دون أي حسابات لاعتراضات المحاصصين الآخرين وللرأي العام جميعاً.
لا شك أن أهم أسباب اندفاع سعد الحريري لصياغة مبادرات والتفتيش عن مخارج لمعالجة الشغور في الرئاسة الأولى، سعيه لأن يكون شريكاً فاعلاً في السلطة الجديدة برتبة رئيس حكومة. ما يؤهله لذلك كونه يترأس الكتلة النيابية الأكبر في المجلس النيابي، وكونه يعاني مأزقاً مالياً مدمِّراً فاقم في فداحة نتائجه تخلي قيادة المملكة عن دعم مشاريعه والوفاء بديونه وتسهيل حركته التجارية في المملكة ذاتها. بادر، إذاً، الحريري، وفي مبادرته الكثير من المغامرة والاستعداد لتقديم التنازلات والسخاء في بذل الوعود، ما راكم ضده مآخذ مشفوعة بمنافسة ونميمة، وخصوصاً مع احتدام الصراع الإقليمي وشعور قيادة المملكة بتعاظم خسائرها (ومن اللحم الحي) في اليمن خصوصاً، ارتباطاً، بالمقابل، بتعاظم الدور الإيراني وبمشاركة حزب الله في ساحات تمتد على مجمل خريطة نزاعات المنطقة: سوريا، اليمن مروراً بالعراق والبحرين...
إن احتدام الصراع في المنطقة وزيادة دور حزب الله الميداني والسياسي والإعلامي والتعبوي فيه، من ضمن المحور الذي تقوده إيران، وكذلك توطُّد العلاقة بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، قد أطلقا تحركاً مضاداً مثّله، في الجانب اللبناني، رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، المتضرر الأول في لبنان سياسياً و«رئاسياً». ومثّله في الجانب السعودي ولي العهد الذي أصبح الرجل الفعلي الحاكم بأمره في المملكة. لا شك أن زيارة جعجع إلى الرياض، في الشهر الماضي، كانت مفصلية في التحريض على تغيير سعد الحريري بسبب تعذر تغيير سياسته نظراً لحجم التزاماته ومصالحه في الشراكة مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. وفي المدى الإقليمي والدولي، كان مسعى شجعه فريق نافذ في إدارة الرئيس الأميركي وصفقت له تل أبيب. والهدف إطلاق معركة متعددة الأدوات والأساليب ضد المشروع الإيراني، على أن يكون لبنان ساحة أساسية فيه. استدراج الحريري واحتجازه وفرض الاستقالة عليه ومحاولة استبداله، يقع في هذا السياق. وهو سياق، كما أشرنا، يتضمن عناوين اقتصادية (تبدأ من عقوبات واشنطن إلى السعودية)، وعناوين أمنية تبدأ من تحضيرات «القوات اللبنانية» وبعض خصوم الرئيس الحريري (في تياره أيضاً)، وصولاً إلى محاولة استدراج المخيمات الفلسطينية إلى شغب أمني وقطع طرقات وفصل مناطق... ومحاولة إسقاط القيادة الفلسطينية الرسمية وقادة حركة «فتح» لمصلحة القيادي السابق فيها محمد دحلان، المتورط في مشاريع تصفوية لقضية شعبه، والمدعوم من بعض الأطراف الخليجية والدولية...
لكن، ودون التقليل من أهمية السياق الإقليمي الذي تقع في نطاقه الاستقالة المفروضة، فإن للمسألة، لبنانياً على الأقل، جانباً آخر يتصل بالسؤال: لماذا فعلت القيادة السعودية، بالحريري، ما هو خارج عن الأعراف والعلاقات والحصانات بين الدول؟ ولماذا معه هو بالذات من دون الرئيسين الآخرين: العماد عون والرئيس نبيه بري. للجواب هنا يجب العودة إلى منظومة الحكم والسلطة في لبنان. وهي منظومة استقرت على محاصصة ذات إطار طائفي ومذهبي لتقاسم مواقع النفوذ السياسي والإداري. وهو تقاسم مقرون بالصراع والتنافس، بين أطرافه، ما يعزز الانقسام إلى جانب التقاسم، ويستدعي، أو يستدرج الدعم الخارجي لكسب المزيد من النفوذ أو لتغيير المعادلات والتوازنات أو لتثبيتها. ولقد استقرت هذه المعادلة، وفق تحولات الصراعات لتصبح السعودية وإيران قطبي الاستقطاب والتوجيه والتأثير. لا يعني ذلك غياب مراكز تأثير أخرى، ولا يعني، كذلك، أن طريقة وحجم التأثير وأساليبه متشابهان. وطبيعي أن اندماج العامل السياسي بالطابع الطائفي والمذهبي جعل للصراع نكهة دينية لم يسلم من تأثيرها محاصصون آخرون بحيث أصبح القرار الخارجي مقرراً واللبناني، وإن على درجات متباينة، تابعاً!
«المونة» السعودية على الحريري لم تأت من فراغ وإن اتسمت، من خلال الاحتجاز، بفجاجة ومبالغة غير مسبوقة. كان يقول والده الشهيد رفيق بشيء من المفاخرة: «لحم أكتافي من السعودية»... أي بالولاء المطلق تدوم النعم! هنا أساس المشكلة: في آليات عمل النظام السياسي المولد للانقسام وللاستقواء وللتبعية التي تنتقص، بالضرورة من كرامة الأفراد وسيادة البلد ومن وحدته الوطنية. لم ينل هذا الخلل البنيوي في العلاقات والمعادلات، لا من قبل المسؤولين ولا من الإعلام، ما تستحقه خطورته من اهتمام. ذلك أن المرض عام، ولا بأس من تجاهله أو من الادعاء بأن سوانا فقط مصاب به وليس نحن! هذا جانب من النتائج المدمرة لنظام المحصصة والدويلات والفساد... والذي لن يؤدي استمراره إلا إلى المزيد من الكوارث الوطنية: هل نتعظ؟ هنا تكمن «الحكمة» الحقيقية!
* كاتب وسياسي لبناني