يجري استغلالٌ وتداخل مصلحي متشابك ومعقد بين حقلي الدين النفعي والدنيا، حيث يحاول كلٌّ واحد منهما جذب الآخر للغته ونفوذه وتسلطه، بما يؤشر إلى جدلية تتفاوت حدتها حول العلاقة بين الدين والدنيا، فتارة ترى هجمة لمظاهر الدنيا يعجز بعض أهل الدين، أو من يمثلونه بزعمهم عن تطويعها، إذ كلما أراد الدين تحويل مؤثرات الدنيا ومظاهرها إلى صورة قريبة من الرؤية الدينية الصافية، نرى انغماساً أكبر من قبل هؤلاء المتأطرين بحب الدنيا، وينعكس ذلك تاريخياً في تزايد فقهاء السلاطين وتدخلاتهم وخضوع بعض الكنائس لسلطة البعض من المنتفعين، فهم من رسموا ويرسمون الفواصل بين ما هو ديني ودنيوي ويتلاعبون بهذه الفواصل متى شاؤوا، باعتبارهم ظل الله السلبي على الأرض، إذ لا يتقبل صاحب الفطرة السويّ ما يحيك هؤلاء من خطابات وأفكار تبقى في دائرة الاستهلاك والاجترار وتخدم الفواصل المرسومة بأنامل كتبة الدين الجدد وأدلجتهم، وتارة أخرى ترى أن المتدينين يفضلون حماية دينهم من دنياهم عبر خطابات تقليدية وعاجزة وغيبية لا تنفع لغتها اليوم ولا تلبي ظمأ جيل اليوم المنفتح على كثير من اللحظات التي تشدّه إلى عوالم وتفكيرات متنوعة ومتداخلة تتطلب إجابات كافية وشافية تهدئ من روعه ويحسّ معها بأنه أمام كلام ديني قابل لمواجهة تحديات الحياة اليومية.
المشكلة أيضاً أن هؤلاء المتدينين السطحيين أنفسهم لا يزال حب الدنيا قابعاً في قلوبهم ويطفو على السطح كلما لاحت لهم فرصة الاستغلال لموقع هنا أوهناك، ديني أو سياسي، مهما كان صغيراً أو كبيراً، في ظل صمت من المؤسسات والمرجعيات على قاعدة غضّ الطرف ولملمة الحال، إذ يسعى هؤلاء الشرذمة إلى تعزيز مناصبهم ومواقعهم الدنيوية ومنع المحاسبة من أيٍّ كان، حتى لو جرت المطالبة عن شرعية ذلك فهم يبررون لأنفسهم ما يشتهون. ما تقدم يلغي كل فرصة في الوعي المفترض حضوره بقوة للفصل بين ما هو دنيوي مشروع يجب تديينه بمعنى عتقه من الحسابات الدنيوية المادية الضيقة، وما هو دنيوي مرفوض يعمل على تمييع الدين وتطويعه لمصلحة زينة الدنيا وما أكثرها اليوم.
إن الحل ليس في هجران الدنيا ونبذها، وهي ميدان اختبار للتدين الحقيقي القائم على امتداد التجارب البشرية وتمازجها وساحة صراع وسجل حافل لنشاط الإنسان المتدين عن وعي، بل في إحداثه للتوازن بين المستثيرات الدينية المنفتحة على لغة العصر والانشدادات الدنيوية السلبية التي تقهره وتحجزه عن النهوض الفعلي من أجل جعل الدنيا حلبة تجلٍّ للروح تعرف ما تأخذ من دنياها وما تترك ولماذا وكيف، وتعرف التحرك نحو ما ينبغي أن نكون عليه ككل جمعي متفاعل منسجم مع نفسه ودوره ومسؤولياته بشكل لا يقبل التناقض في شخصيته ولا يقبل النفاق والخداع والتملق.
كيف نريد كتابة إبداعنا وتحويل لحظاتنا إلى مرآة تعكس روح التكامل الكادحة إلى الله ما لم نؤسس لدنيا خالية من التورم الديني المرضي السالب للإرادة والحرية والكرامة الذي ينتشر على كثير من مواقعنا التواصلية وكثير من الفضائيات المبتذلة؟ فالذي يحكم أجيالنا لا بد أن يؤسس لصحوة في ضميرها وعقلنة في تدينها بما يتناسب مع تحديات المرحلة، لا البقاء في دائرة ردود الفعل على أمور عقيدية وتاريخية لا ثمرات عملية لها اليوم، وهو ما نراه في برامج وندوات مستهلكة لا وزن لها سوى شد العصب المذهبي والطائفي على حساب أهداف الإسلام الكبرى، وذلك ما يزيدنا استلاباً واغتراباً عن الذات والتراث الصافي وترجمته خطوات ومواقف حركية تعيد تنشيط العقل الجمعي وتنظيفه من كثير من الموروثات ومخلفات الجهالة والتضليلات والخلفيات والحسابات الشخصية والجهوية الضيقة المستحكمة بمساحة كبيرة من خطابنا، هذا الخطاب الفارغ من أية قيمة ما يدفع كثيراً من الشباب نبذ كل ما هو ديني والانسحاق أمام كل ما هو دنيوي غرائزي.
كذلك إن الحل ليس في تشويه حركة الدين وفصل جوهره ومحركيته للنشاط البشري عن الدنيا وتشكيلها وفق حسابات الله السوية، هذه الحسابات التي تدلنا على التماهي بين الدين والدنيا في بوتقة التعقل والتدبر وقيادة الإنسان المستخلف على أمانة تسيير الحياة وفق حس المسؤولية العالي ووفق الدين النظيف والعام المتميز بروحه وغاياته عن الدين الخاص المحكوم للذاتيات والأنانيات القاسية والهمجية وللسيطرة الطقسية المقدسة الموهومة.
إنه الدين العام المنصهر في كل مراحله بين الإسلام والمسيحية بحيث يشتركان في عبادة جماعية توحيدية بعيداً عن دين الكهنة وفقهاء السلاطين البشع والشرير والجشع، يقول روسو: «إن دين الإنسان لا يعرف الهياكل أو المذابح أو الطقوس». إنه الشكل الراقي للوعي الديني السائر في عملية تعزيز الدين الجمعي المستفز لروح التوحيد العامة في المجتمع البشري، إنه هذه العبادة التي يترجمها أتباع الدين العام مزيداً من حماية الحقوق والدفاع عن المحرومين والمستضعفين ونصرة المظلومين ومواجهة المبطلين والمفسدين من أهل الدين الخاص من ساسة ورجال دين مشبوهين ومرضى، بحيث يصبح التمايز واقعاً فعلياً وملموساً وحيوياً للمجتمع كلما تحلى أتباع الديانات بالوعي المطلوب في تمثل روح العبادة التي تعني إلغاء التبعية لكل قوى وميول تحاول تفتيت قوى الإنسان وقلعه من التمركز حول محوره التوحيدي الذي ينفي كل تشتّت وضياع واتباع لمراكز قوى وهمية وتدميرية واستغلالية، ونافية لكل صور الخنوع والخضوع والجهل وبيع الضمائر والمتاجرة بها.
هذه العبادة التي تظهر جلية عندما يتوقف السياسي أو رجل الدين عن ممارسة الخداع لرعيته وسرقة حقوقهم وتغييب دورهم، وعندما يتوقف المفسدون عن إشباع نزواتهم والتفكير خارج حدود الأنا المريضة التي تسحقنا يومياً وتستهلك حاضرنا ومستقبلنا لمصلحة المنتفعين وتجار السياسة والدين الذين ينفذون أجندة ومشاريع المستعمرين الجدد للناس ووجودهم الحر ولمقدراتهم التغييرية.
إننا بحاجة إلى دين جمعي عام تذوب فيه الحواجز والصراعات حيث الإنسانية عالمه الواسع والدين العام التوحيدي يلغي كل الموانع التي تفرق عرقياً وإثنياً وطائفياً ومذهبياً، وتعمل بنهم على تكريس الدين الخاص التجمعي النفعي الاستهلاكي الذي يثقل الحياة بمزيد من الويلات والتشرذم والضياع والسقوط المدوي، نحتاج إلى دين جمعي لمصلحة تطويع الخارج بما فيه من تناقضات تشوه التوحيد وتوقف مسيرته وتعمل جاهدة على إزاحة الغفلة وعودة الصحوة إلى الضمائر والعقول والمشاعر.
الدين لا يقبل في قاموسه المذهبية المغلقة المتحجرة، بل الإسلام باعث على التحرر من دين مذهبي كهذا لا حاجة للحياة به ولا الآخرة أيضاً، فالصفة الشرعية المقبولة للدين هي الحرية السائرة في الفهم الصحي والسوي للقيم والمفاهيم التي تمتلئ الذات بها منعتقة من تسلط الأنا، حيث تنهض لاقتحام ساحات الحياة متمسكة بالحق وعالمة لإزهاق كل باطل في قول أو عمل وراسمة لحدود التداخل بين الديني والدنيوي الضابط لحركة الإنسان بين داخله والخارج.
ما جرى ويجري من توريط الواقع بمأزق تأويلي عقائدي وتاريخي وحديثي وفقهي مغالٍ أضف إليه الخوف من دين روحي وأخلاقي يعيد الأمور إلى صورتها الحقيقية الصافية يناقضان كل شكل من أشكال التعبير عن الكرامة المتمثلة بانفتاح العقل العملي على كل التجارب والمواقف السامية التي تؤصل الإنسان وتدفع به قدماً في فهمه لدينه وحدود تفاعله مع دنياه.
إن جلاء الموقع الملتبس للدين في فهمنا المناهض لما نحن عليه من محدودية إطلاقاً لإطلاقه في الفضاء الإنساني الواسع يستدعي مزيداً من العمل والإحساس بالمسؤولية في سبيل تأكيد قيم التسامح والتعارف والتعاون على البر ونبذ التوتر المذهبي والعرقي ومظاهر التبعية والاستعمار والاستحمار والتنفذ والتسيد ومواجهة الاستبداد من دواخلنا، ومن الخارج، وهو ما يترجم عبر الاعتراف بحجم المأساة التي نعيشها كبشر، وتلمس الخطوات التي بها نتعرف بوعي إلى حدود التداخل والتأثير بين الديني والدنيوي حتى نسلم في حاضرنا بأقل الخسائر ونصنع مستقبلاً خالياً من الألغام التي تهددنا اليوم في كل وجودنا.
مشكلة الكثيرين أنهم قد انغمسوا في الدنيا إلى حدود لم يراعوا فيها حدود الدين، فراحوا يفتون ويصفقون للحكام والسلاطين ويتغاضون عن تصرف هنا وتصرف هناك يقوم به هذا الزعيم السياسي أو الديني وذاك حتى بات الناس بالفعل يقتدون بلا وعي بهؤلاء، ويدافعون عنهم ببسالة أكثر من دفاعهم عن منطق الله. وهذا ديدن السلفيين المتطرفين من سنّة وشيعة رموا بثقل دنياهم على الحياة، وأرهقوها بجهلهم وذاتياتهم المريضة، وهو ما يستدعي على عجل أن تستنفر كل الطاقات والإمكانات الإيجابية في الأمة من أجل صوغ لغة تداول ديني وفكري وثقافي يعبّر فعلياً عن تعطش الناس لخطاب يخرجهم من دوامة مغلقة استنزفت كل وجودهم وتطلعاتهم وآمالهم.
ما دمنا متغاضين ومتعامين عن الحقيقة ولا نملك الجرأة في مواجهة أنفسنا وضبط حركتنا وفهمنا لما نحن عليه وما ينبغي أن نكون عليه، وما دمنا غافلين عن حدود التداخل والتفاعل العضوي بين الدين والدنيا سنضل في حالة اهتزاز فكري وسقوط روحي وأخلاقي ولن تنفعنا كثيراً الشعارات والرموز التي لا نزال نستثمرها للأسف عكس ما يفيدنا حقيقة، فيما نظن أننا منتصرون ولكن واقع الحال أننا مهزومون منكسرون من الداخل، مهما تعالت البسمات على وجوهنا، وأصبحنا اليوم للأسف كالقشة تتقاذفها الريح في الخارج، ويتخطفنا الناس من حولنا.
* أكاديمي وحوزوي