تدجين التخبُّط واستثماره

  • 0
  • ض
  • ض

سيناريوهات كثيرة تتزاحم وتتصارع على أرض المنطقة تبعاً لواضعيها ومستثمريها ومموليها ومنفذيها. الكثير من هذه السيناريوهات أنتجها الواقع الشائك والمتشابك بشكل أربك أقوى السيناريوهات وأكثرها دعماً ونفوذاً، وهو ما نراه جلياً في تَمكُّن سيناريوهات صغيرة من عرقلة وتعطيل وفرض تعديل على الكبرى منها. تحت عناوين كثيرة انطلقت مسارات سياسية وعسكرية وإعلامية لتنفيذ استراتيجيات وأجندات دول عظمى ومن ثم أقل عظمة وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى أجندات تفرض نفسها لمجموعات وفصائل وعصابات على الأرض افرزها الواقع المتردي حدَّ الدرك الاسفل الذي وصلت إليه الأزمة في سوريا وغيرها من دول المنطقة. الفوضى الخلاقة، شرق أوسط جديد، داعش، السلطنة، تنظيم الدولة، الهلال الشيعي والبدر السني، سايكس بيكو جديد وجغرافيات سياسية جديدة، التقسيم والفدرلة وغيرها من عناوين التجزئة والتفتيت، محاور وتحالفات واصطفافات، تقاطع مصالح وتناقضات وتقاربات، حروب وجود وإلغاء، ويمكن هنا أن نضيف وبوضوح «التخبط» كعنوان رئيس ضمن العناوين والسيناريوهات السابقة، وخاصة انه يأتي أيضاً في سياق يكون فيه في حالات قليلة جداً مدروس ومقصود، وفي الحالات الأخرى الكثيرة غير مدروس وارتجالي يكرس حالة غياب الفهم والاستراتيجية والتكتيك للغالبية العظمى من مكونات الأزمة على اتساعها. وللأسف يكرِّس أيضاً هذه المكونات كتفاصيل لا يمكن إغفالها بأي شكل من الأشكال بسبب حجم تأثيرها على الحراك العام، ومدى قدرتها على عرقلة أو تسهيل أي سيناريو قد يمتلك مفاتيح حل جزئي أو شامل لأي أزمة محصورة بساحة صراع محددة أو مرتبطة بساحات الصراع جميعها، على اعتبار أن الساحات ترتبط بشرايين ووشائج من الصعب قطعها أو فكها من دون أن يكون لها أثر كبير قد يكون قاتلاً إن ذهب في المنحى السلبي. لا يقل تأثير التخبط الذي تعاني منه كل الأطراف عن غيره من السيناريوهات أهمية، فنجد أن الأطراف الممسكة بالخيوط الغليظة للأزمة تولَّدُ وتستثمر في هذا التخبط لباقي أطراف الأزمة على اختلاف حجومها وتأثيرها. وتمتطي هذا التخبط للاستمرار في سياساتها التي تنتهجها حيال الأزمة وترى فيه فرصاً كثيرة لتحقيق أعلى نسبة أهداف من بنك أهدافها الخاص، وهي تُطوِّع تصريحات مسؤوليها، وسياسات مؤسساتها الدبلوماسية والإعلامية والثقافية وملحقاتها من مراكز وشخصيات وظيفية، لزيادة وتيرة هذا التخبط لدى جُهَّال وصِغار اللاعبين، بحيث تكون ردود الفعل لديهم على ما يُسَوَّق لهم مبرراتٍ وذرائعَ إضافية للَّاعبين الكبار للإمعان في تنفيذ مآربها. الدول الفاعلة كعادتها في التخطيط والتنفيذ وعدم السماح أن يكون للصدفة أو لأمر غير محسوب أو متوقع حضور يغيّر من استراتيجياتها، فهي تُدجِّنُ التخبطَ ليكون ضمن حظيرة أدواتها، وتمارسه فعلاً مدروساً في تصريحاتها وقراراتها وتكتيكاتها الآنية، بحيث تظهر للمتلقي والمترقب لمواقفها أنها تعاني من ضبابية في الرؤية ولا تمتلك استراتيجية واضحة ومتبلورة لمستقبل ومآل الأزمة. وتخفي أنها تناور في الحاضر وعلى أرض الواقع لتنفيذها بأعلى نسبة نجاح ممكنة، ونتيجةً لذلك تقوم الأطراف الأخرى على اختلاف مسمياتها وأحجامها باتخاذ مواقفَ وقراراتٍ كرد فعل على هذا الفهم، واعتماداً على ما أُوحيَ لها من وجود تخبّطٍ وضَيَاع لدى هذه الدول الفاعلة. وهنا تقع في الفخ المنصوب لها من قبل تلك الدول للحصول على ما تحتاجه من مبرراتٍ أو ذرائعَ او دعمٍ لها يَصبُّ في مصلحة استراتيجيتها التي لم تغب عن الرؤية أو يُشوَش عليها بأي شكل من الأشكال. ويلعب الإعلام بمختلف وسائله الدور الأهم والأبرز في تهيئة الاجواء والمناخات المناسبة لإحداث حالات التخبط المطلوبة لدى الأطراف التي تحاول مواكبة ومجاراة اللاعبين الاساسيين الذين يمتلكون الحضور الأكبر والتأثير الأقوى ويمسكون بثبات بخيوط ما يحاك وينسج للمنطقة والعالم، حيث يسارع إعلام الدول الفاعلة لشن حملة مدروسة وممنهجة من خلال التركيز على تصريحاتٍ ومواقفَ معينة، ويتم العمل على تسويقها والترويج لها عبر تناولها بأشكال كثيرة في التحليل والحوار والتفسير الذي يخدم الأهداف والغايات المطلوبة. وهنا ينجح الإعلام في إيصال الصورة المطلوبة المعاكسة للحقيقة والواقع، وهي ان هناك حالة تخبط تعاني منها هذه الدولة الفاعلة والمقررة في قضية ما، وهذا ما يدفع بالكثيرين ممن ينساقون جهالةً وبشكل أعمى خلف هذه الدولة أو تلك إلى الاصطفاف خلف الصورة غير الحقيقية... ومن هنا تنطلق حالة التخبط اللا مدروس الذي يبتغيه اللاعبون الكبار. * اعلامي سوري

0 تعليق

التعليقات