يعلّق صديقٌ عراقيٌّ، بألم، أنّ سلوك الكثير من العرب ونخبهم تجاه العراق، منذ عام 2003، يشبه من يعتبر أنّ العراق قد «ضاع» ولم يعد هو نفسه حين تغيّر نظامه السياسي؛ أو أنّنا «خسرنا العراق» منذ سقوط صدّام حسين ووقع البلد في يد «الايرانيين» و«الشيعة»، وأصبح أرضاً سُلبت منّا وفتحها الأعداء واستوطنوها، تماماً كالأندلس. لم يعد هناك في أرض الرافدين ــــ في ذهن هؤلاء ــــ شعبٌ وناسٌ وتراثٌ ومآسٍ، بل مجرّد ساحة يجب «استرجاعها» بأيّ ثمن، ولا ضير من تدميرها دوناً عن ذلك، أو تقسيمها وتخريبها لو لزم.
كأنّ كل كلام الثمانينيات عن التعلّق بالعراق وبدوره «المركزي»، والرومانسيات عن شعب العراق وكرمه ونبله، كان مرتبطةً حصراً بأبي عديّ وقد زالت مع زواله.
هذا يفسّر، جزئيّاً، انعدام الحساسيّة في الكثير من بلداننا تجاه الموت الذي أغرق العراق بصمت وآلاف التفجيرات، على مدى سنوات، التي كانت تقتل العراقيين بلا عقلٍ ولا سبب. حتّى حين صرخ الكثيرون من أهل البلد (والذين لا ينتمون الى خنادق المتنافسين المتصارعين) بأن القتل والتفجيرات ليست بريئة، وأنّ دور الإعلام الخليجي قاتل، وأنّه يمهّد للاقتتال ويخفي الحقيقة. لم يحدث ذلك أيّ فارقٍ، بل عمد قسمٌ من الجمهور الى تبرير التفجيرات ووضعها في سياق «استعادة العراق» وتحريره، فيما انصرف قسمٌ آخر الى اللامبالاة والتهام أخبار «الجزيرة».

العراق خارج المصيدة

المشكلة هي أنّ البروباغاندا يمكن لها أن تُخفي أحداث التاريخ أثناء حصوله، ولكنها لا تقدر على إلغاء مفاعيله ونتائجه وحساباته. ما حصل لـ«البشمركة» في شمال العراق دليلٌ ساطع على الفارق بين عالم البروباغاندا الذي يمكن أن تبنيه وتعيش داخله وبين الواقع حين يصطدم بك. مع سيطرة القوات العراقية على معبر خانقين (على الحدود الايرانية) وعلى مثلث الحدود السوري ــــ العراقي ــــ التركي في الفيشخابور واسترجاع المعابر الحدوديّة والمطارات ومنع السلطات الكرديّة من الاستيلاء على عائداتها (يوازي، في نظر سلالة البرزاني، خسارة آبار النّفط)، يكون العراق قد استردّ قدراً من السيطرة على حدوده وسيادته لم يشهده منذ الغزو الأميركي. هذه الوضعية، بالطّبع، جاءت بمثابة «الكارثة» على جلّ المثقّفين العرب، الذين فضّلوا التماهي مع نظامٍ سلاليّ منتهية ولايته، لا يملك شرعية دستوريّة أو قانونيّة، وينشر ايديولوجيا قوميّة عنصريّة، حتّى وهو يقود شعبه نحو الكارثة ــــ أو العراق نحو تقسيمٍ مرتجلٍ ومفروض، ستمتدّ آثاره لأجيالٍ مقبلة. لو يتأمّلون فقط أحد آخر أفعال البرزاني قبل «استقالته» من رئاسة الاقليم، والاتفاق النفطي الذي عقده منذ أسبوعين مع شركة «روزنفت» الرّوسيّة وشروطه المذلّة، كأنّما الرّجل يصرّ على أن يختم مسيرته بهدرٍ جديدٍ لأموال العراق (مقابل مقدّمٍ ماليّ كبير، ستحصل الشركة الروسية على الحصة الأكبر من النفط الذي تستخرجه مستقبلاً).
في نينوى وكركوك، تبيّن ايضاً أنّ الأفعال لها نتائج، وانه في وسعك أن تزوّر التاريخ ولكنّك لن تهرب منه. في زمار شمال الموصل، مثلاً، عادت عشائر عربيّة الى المنطقة لتطالب بحمل السّلاح والانضمام الى القوات الأمنيّة، وتهدّد بمنع الكرد من العودة الى زمار. هؤلاء تمّ تهجيرهم من قبل الميليشيات الكرديّة عام 2014، وعادوا ليجدوا أن كامل قراهم ومنازلهم قد تمّ تجريفها ومسحها، كما حصل في العديد من مناطق العراق وسوريا، بدعوى أنّهم «دواعش». وقد قضى هؤلاء النّاس السنوات الماضية متوزّعين بين مخيّمات اللجوء. المفارقة هي في أنّ هذه العشائر، تحديداً، رفضت بشدّة الوقوف مع «داعش» طوال فترة الحرب، بل واشتهر أحد شيوخها بالتصريح أنّه سيرمي عقاله أرضاً لو أُثبت له أنّ شابّاً واحداً من أهله قد انضمّ الى التّنظيم ــــ فلاقوا هذه المعاملة الشّرسة.
بالمثل، في كركوك، عاد العديد من العراقيين العرب الذين تمّ تهجيرهم بعد الغزو عام 2003 بدعوى أنهم عربٌ دخلاء استحضرهم صدّام حسين لتعريب المدينة، وبعضهم استعاد منازله بالقوّة. هم كانوا ضحيّة لسياسات «التعريب» مثل الكرد تماماً، لم يكونوا يريدون أصلاً السّكن في كركوك وقد تمّ توطينهم فيها بالقوّة، ولكن عقوداً مرّت، والأب الذي هاجر من الجنوب أو الوسط قد مات، وابنه الذي ولد في كركوك ولا يعرف غيرها أصبح راشداً ولديه عائلة؛ فتمّت معاملتهم، بعد 2003، معاملة المجرمين وطردوا بلا رحمة الى محافظاتٍ لا يعرفونها، لأنّهم كانوا ضعفاء بلا سندٍ ولا نصير. كما كتب جوزف سماحة عام 2003 محذّراً القيادات الكرديّة، عن حرصٍ ومحبّةٍ تجاه الشعب الكردي، ضدّ استغلال لحظة ضعف الأكثرية وتكرار سياسات صدّام ودورات الثأر والتهجير، عادت أشباح الماضي اليوم لتثبت أنّه حتّى ولو أخفى الإعلام مآسي البعض، فإنّ الضحايا لا تنسى. الهدف هو أن يصبح العراق، على عكس ما أراد حزب البرزاني، مكاناً يُسمح لأيّ مواطنٍ فيه بالسّكن والتنقّل كما يريد، ولكن كلّ ما كان على القيادات الكرديّة فعله، حين استقوت وهيمنت، هو أن تتواضع قليلاً وأن تسترضي، أقلّه، النّاس الذين يسكنون في كنفها وجوارها، وكان مسلسل العنف والكراهية سيجد نهايته.

الصّيّاد الأميركي

في الموصل ايضاً، التّاريخ الحقيقي يختلف عن السردية السّهلة التي تنشرها مراكز القوى وتبني حولها حملات الدعاية. في تقريرٍ من العام الماضي لإحدى مؤسسات الأمم المتّحدة، مؤسسة «هابيتات»، نجد إحدى أكثر الدراسات تفصيلاً عن مدينة الموصل منذ عقود، متضمّنةً التغييرات الديموغرافية والاقتصادية التي مرّت بها المدينة منذ الستينيات وصولاً الى اجتياح «داعش». هناك أمثولتان مهمّتان نستخلصهما من التقرير؛ الأولى هي أنّ الموصل لم تسقط عام 2014، بل إنّ «القاعدة» كانت تتحكّم بالمدينة ومؤسساتها وأمنها منذ سنوات قبل ذلك التاريخ. ومن يرد أن يفسّر صعود «داعش» لا يجب أن ينطلق من فكرة «الهبّة» أو الانتفاضة الفجائية أو «ردّة الفعل»، بل يجب أن يعود الى تاريخٍ حقيقيّ، ومئات ملايين الدولارات التي تمّ استثمارها لتمكين هذه المنظّمات من المجتمع العراقي، قبل أن تظهر «داعش» وتسود. الأمثولة الثانية تتعلّق بحكم «داعش» لمناطق نفوذه، وهي تُبطل أيّ رومانسيّة ثوريّة يمكن أن يسبغها المرء على التّنظيم المتطرّف، فالسياسة لم يطبعها (الى جانب اضطهاد الأقليات وتهجيرهم) سوى الفشل والاستغلال. انهارت الخدمات في المدينة في ظلّ حكم السلفيين، تقول دراسة «يو ان هابيتات»، وتوقّفت أكثر المصالح التجاريّة عن العمل بسبب الأتاوات والضرائب المرتفعة. سيطر «داعش» على الصناعات الكثيرة داخل المدينة وحولها، فتوقّفت عن العمل وفكّك التنظيم آلاتها وباعها خارج البلاد. بل إنّ التّتظيم كان «راسمالياً» الى درجة أنّ التعليم المدرسي، الذي كان دوماً مجّانياً في العراق، أصبح يكلّف أقساطاً لمن يريد تعليم أولاده. وهذا كلّه قد حصل قبل أن تبدأ الطائرات الأميركية بتدمير المدينة.
حتّى نفهم مقدار «تسامح» النخب العربيّة مع أيّ قصفٍ غربيّ لبلادها، و«تقبّلها» له وتواطؤها على إخفائه، يكفي أن نقارن الرقة أو الموصل بحلب. خلال معركة استرداد حلب، بين نوفمبر وديسمبر 2016، قُتل (بحسب مصادر «المعارضة السورية») ما يقارب الـ600 مدنيّ. 450 منهم سقطوا في النصف الشرقي للمدينة، حيث جرت أكثر المعارك، والباقي في النّصف الغربي؛ وهذا في مدينةٍ هائلة، كانت تضمّ أقلّ بقليلٍ من ثلاثة ملايين نسمة قبل الحرب. في الرقّة «الصغيرة»، بحسب الأكاديمية ريم تركماني، تشير أكثر التقديرات الغربيّة تحفّظاً الى قتل ما لا يقلّ عن 1200 مدنيّ خلال المعركة والقصف الأميركي بالأسلحة «الذكية» (فيما تشير تقديرات أخرى الى ضعفي هذا الرّقم)، فيما تمّ تسوية أكثر المدينة بالأرض وتهجير أهلها. الرّقّة، مثل الموصل والرّمادي التي زارتها الطائرات الأميركية، لن تعود قابلة للسكن قبل سنوات واستثماراتٍ كبيرة. في حلب (التي توجد، الى اليوم، «صناعة» كاملة حول مأساتها، وأفلامٌ وكتبٌ ومذكّرات) تمّ ترحيل المقاتلين ومن يرغب من المدنيين، على رغم عدم وجود ضرورةٍ عسكريّة لذلك، أمّا في الرقّة فقد صرّح المسؤول الأميركي برت ماكغورك، بوضوح، أنّها حربٌ مفتوحة بلا حدود وأنّه لا يريد لأيّ من أعداء حكومته أن يخرج من المعركة حيّاً. مدنٌ عربيّة كاملة تمّ مسحها وقتل أهلها، بالتعاون بين «داعش» والطيران الغربيّ، والكل قلقٌ من «الحشد الشعبي» الذي، لولاه، لما استعدنا العراق في عشر سنوات، وللاقت كلّ مدننا مصير الموصل والرقّة.

«الصيّاد العربي»

هذا يأخذنا الى التصريحات الأخيرة لوزير الخارجيّة القطريّ حول سوريا (بالمناسبة، المقابلة فيها أكثر من لحظةٍ كاشفة، الى جانب الكلام عن سوريا، كقول بن جاسم إنّ سياسة التعامل مع اسرائيل كانت «بصراحة … تقرّباً وتزلّفاً للولايات المتّحدة الأميركية»، أو أنّ كلّ الدّول الخليجيّة متورّطة في دعم الارهاب وأنّ قطر، لو كٌشفت كلّ الأوراق، «ستكون في ذيل القائمة»). ما قاله حمد بن جاسم عن سوريا لم يكن جديداً، أو «اشكالياً» خارج السّياق العربي «الرّسمي»، وقد تمّ كتابة الكثير عن الحرب في سوريا وعن داعميها الكثر. ولكنّ المثير هو أنّ كلام بن جاسم جاء من فاعلٍ رئيسيّ، يقول استطراداً وبكلّ بساطة (كأن الأمر معروفٌ ومتّفق عليه) إنّ الحرب في سوريا «منذ البداية» كانت بتمويل الخليج، وبقيادة أميركية، ومع توزيع أدوارٍ بين من يموّل ومن يُشرف ومن يدير الحدود، ولكنّ «الصّيدة» قد ضاعت! الأمثولة الأساسية هنا ليست، فحسب، في أنّ شيوخ الخليج ينظرون الى بلادنا كالطرائد، ويصبح مصير عواصمنا في يد أميرٍ يتبرّع بمليون دولار مقابل تفجير، أو بالمال والذخيرة لـ«إشعال دمشق» (الوثيقة التي كُشف عنها مؤخّراً، في هذا الإطار، هي مجرّد ورقة واحدة كشفها سنودن من قلبٍ أرشيفٍ ضخمٍ ما زال مقفلاً)؛ أكثر ما يلفت هو أنّه، إثر المقابلة، لم يخرج أحد من أقطاب المعارضة السوريّة، وداعمي هذه الحركات المسلّحة على مدار الحرب، لينفوا أو يستنكروا أو يهاجموا الشيخ، ويؤكّدوا أن «ثورتنا هي أكثر من ذلك».
سوريا ما زالت تحترق والعراق مليءٌ بخيام اللاجئين، والمآسي لن تتوقّف طالما «الصّيّاد» موجودٌ وهو لا يكتفي بأن يصول في أرضنا، بل يحاول تشكيل وعي شعبنا ونخبنا. حين حصل «الإجماع» حول سوريا، مثلاً، هم لم يطلبوا منك مجرّد موقفٍ من النّظام، أو حتّى أن تعادي نصف الشعب السوري في حربٍ داخليّة، بل أرادوا موقفاً معلّباً كاملاً، وأن تصبح عدوّاً ــــ بالجملة ــــ للّبنانيين والايرانيين والعراقيين، وأن تدعم غزوات الغرب وتنبذ كلّ حركات المقاومة في بلادنا، لتستبدلها بقطر والخليج، و«النّصرة» و«الجيش الحرّ». «الصيّادون»، بالمقابل، لم تعد لديهم أدوات في بلادنا كما في السّابق، والوعي الزائف والمنصّات الإعلامية لا يمكن أن تغيّر الوقائع وحقيقة ما جرى، والبعض سيفضّل أن يرفض قبول الحقيقة، وسيتمسّك بصورته الوهميّة عن نفسه وخياراته، حتّى يجد ــــ كما يحصل في أرجاء المشرق اليوم ــــ أنّ التغيير يحاصره، وأن «الصيّاد» قد أصبح «الطّريدة».