بعدما كان بطلاً وطنيّاً في الحرب العالميّة الأولى، أضحى الماريشال الفرنسي فيليب بيتان عاراً في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية لأنّه تعامل مع قوّات الاحتلال الألمانيّة وأقام حكومة «فيشي» العميلة. بيتان أضحى رمزاً للخيانة في فرنسا، ولذلك حُكم عليه بالإعدام بعد سقوط النازيّة الألمانيّة، ثمّ خُفّض الحكم إلى المؤبّد فزُجّ به في السجن حيث توفّي عام ١٩٥١.
لم يكن لبشير الجميّل أن يجد مكاناً أفضل في ذاكرتنا الجماعيّة لو أنّ لبنان قد وصل في حياته كدولة إلى مرحلة يكون له فيها حكمٌ ومؤسّسات تحترم المواطنين كبشر وتعمل بناء على رؤية أخلاقيّة ــ مهما كانت ناقصة ــ متجسّدة في قوانين تُفرض بالقوّة القضائيّة المستقلّة.
لكنّ الجميّل أسوأ من بيتان، فهو لم يكن أصلاً قائداً عسكريّاً وطنيّاً، ولا حتّى جزءاً من المؤسسّات الرسميّة بل كان زعيماً لإحدى الميليشيات، وأوصلته دبّابات إسرائيليّة لرئاسة جمهوريّةٍ كانت تحت الاحتلال، في انتخابات شكليّة أجريت تحت ضغط الاحتلال أيضاً؛ وهو لم يكن حتّى بطلاً على مستوى بلاد مثلما كان بيتان الذي دافع عن بلاده في الحرب العالميّة الأولى. فبشير الجميّل لم يدافع يوماً عن بلاده ضدّ محاولة احتلال خارجيّ إسرائيليّ، بل شجّع العدوّ على احتلال بلاده (وهو ما لم يفعله بيتان). وحزب الكتائب الذي يأتي منه الجميّل تعاونَ مع الحكم السوريّ لإدخال قوّاته إلى لبنان قبل أن ينقلب عليه؛ هذا عدا عن أنّه تعامل مع إسرائيل منذ أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين أي قبل وجود أيّ خطر مفترض من الفلسطينيين (١)، وعدا عن أنّه نسّق مع العدوّ الإسرائيليّ وخطّط كي يحتلّ ذاك العدوّ بلاده، واتّفق مع قيادات العدوّ لإطلاق يدها في اغتيال من تشاء، كما خطّط معها لارتكاب مجازر (٢). بيتان حوكم بتهمة الخيانة وزُجّ في السجن لأقلّ من ذلك بكثير.
بالطبع بشير الجميّل لا يحتكر الإجرام ولا العنصريّة. فهناك زعماء حاليّون نكّلوا وارتكبوا مجازر بحقّ أناس أبرياء عزّل من فلسطينيّين ولبنانيّين وسوريّين، بعضهم قضى زمنا طويلاً في الحكم ثمّ اغتيل، وبعضهم ما يزال متربّعاً في مجالس النيابة والوزارة. المشكلة الكبرى في لبنان هو تلك المكيدة التي نُصِبت للمواطنين من خلال ذاك القرار الخبيث ألا وهو قرار العفو عن جرائم الحرب من دون محاكمة ومن دون منع لهؤلاء من ممارسة العمل السياسي، ومصادرة الأموال التي سرقوها. هناك صفات بشعة كثيرة يمكن أن تُطلق على بشير الجميّل وأفظعها هو أنّه كان زعيماً «مسيحياً»، فأعماله تتناقض بشكل كامل مع أسس الإيمان المسيحيّ ويدينها الإنجيل نفسه، وبالتالي زعامته لا يمكن وصفها بأنّها «مسيحيّة». هذا التعامل مع القيادات السياسيّة بإطلاق صفات دينيّة عليها: الزعيم المسيحي، الزعيم السني، أو الشيعي أو الدرزي وهلمّ جرّاً، هو ما نودّ تحليله هنا.
إنّ الخلط بين الديني والسياسي بالقول بأنّ قائداً سياسياً ما هو قائد مسيحي أو مسلم أو شيعي أو سنّي أو درزي هو خلط خطر: فمن ناحية هو يسرق أصوات المواطنين في تلك الأديان ليضعها عنوة في يد الزعيم بتصويره أنّ كلّ مواطن منتسب (من دون خياره) لتلك الطائفة هو تابع حتماً لذاك الزعيم الذي يتصرّف باسمه زوراً، ومن ناحية أخرى هو يُحَمِّل كلّ منتمٍ إلى طائفة معيّنة تبعات أيّ خطأ سياسيّ أو أيّ جريمة يقوم بها ذاك الزعيم، حتّى ولو كان ذاك المواطن معارضاً لها.
إنّ وصف زعيمٍ ما بأنّه من دين محدّد أو طائفة محدّدة ليس أمراً بسيطاً ومجرّد تعبير عن انتماء اجتماعي لطائفة ما؛ فهذا الخلط بين القيادة السياسيّة وبين الطائفة هو من أخطر ما يكون:
أولاً، بالنسبة للوحدة بين المواطنين، لأنّ هذه الخلط يفرّقهم إلى طوائف متناحرة.
ثانياً، وبالنسبة للمواطنين المنتمين إلى الطوائف، لأنّ هؤلاء يتحمّلون ــ شاءوا أم أبوا ــ أخطاء القائد الذي يحمل صفة طائفيّة وفظائع ما يقوم به.
ثالثاً، وبالنسبة للعمل السياسيّ، (أ) لأنّ العمل السياسي يغدو في ذهن المواطنين صراعاً بين الطوائف على المصالح بينما هو في حقيقته صراع بين المصالح الخاصّة للزعماء لـ«تناتش» الثروات الوطنيّة؛ (ب) ولأنّ هذا الخلط يُفَرِّغ الانتخابات النيابيّة من مضمونها إذ أنّ الناس المتعصّبين لزعيمهم يؤخذون بحميّتهم الدينيّة الممزوجة بصورة الزعيم فتصبح الأولويّة بالنسبة لهم الدفاع عن الزعيم الذي يمثّل وهميّاً في ذهنهم طائفتهم، عوض أن تكون الأولويّة هي التفكير بالبرامج الحزبيّة وتقييم إنجازات الزعيم وحزبه.

رفض إطلاق الصفة التمثيليّة
الدينيّة على القيادات السياسية هو ضرورة وطنيّة وإيمانيّة ملحّة

ثمّ أنْ يقال عن زعيم أنّه مسيحي أو مسلم أو يهودي أو بوذي أو هندوسي، إلخ، هو أمر فيه الكثير من الإيهام والخطر، فذلك الوصف يخلط عن غير حقّ بين ذاك الإنسان وتصرّفاته، وبين الطائفة (أو الدين) التي ينتمي إليها بحكم القانون اللبنانيّ الرجعيّ؛ ويلصق بتلك الطائفة وذاك الدين كلّ تصرّفات الزعيم مهما كانت سيّئة أو إجراميّة، فَنَصِل إلى تلك المفارقة القائمة اليوم في مجتمعنا ألا وهي أن يُقال عن الزعيم أنّه زعيم «مسيحيّ» أو «مسلمٌ» برغم ما قد يكون ارتكبه من سرقة أو تهديد أو قتل لأبرياء أو مجازر!
إنّ إطلاق صفة طائفيّة على القيادات السياسيّة يساهم بخداع المواطنين وببناء عصبيّة حول تلك القيادات، والعصبيّة تشوّه ضمير ووعي المنتصرين للقائد السياسيّ، فتدفعهم إلى الجمع بين أمرين نقيضين لا يجتمعان، ألا وهُما القبول الذهني بما يرتكبه الزعيم من فظائع من ناحية، والقبول بأن يكون الزعيم ممثّلاً لدينه وطائفته من ناحية أُخرى، وفي هذا تضاربٌ دينيّ وأخلاقيّ ما بعده من تضارب، واستخدامٌ للطائفة من أجل مجد وسؤدد شخصيّ للزعيم وسؤدد جماعيّ للجماعة الطائفيّة (حتّى ولو كان سؤدداً وهميّاً). هنا تبرز الطائفيّة بحقيقتها البشعة: استخدام الله سلاحاً ومتراساً لخدمة مصالح الشخص والمجموعة الدينيّة. لهذا، ومن وجهة نظر إيمانيّة، الطائفيّة مناقضة للإيمان في الأديان السماويّة لأنّ هذا الإيمان يفترض لا أن يستخدم الإنسانُ الله بل أن يحبّه بخدمةِ عياله، بالمعنى النبيل لكلمة «خدمة»، أي معنى العمل الطوّعيّ من أجل الإنسان، كلّ إنسان وكلّ الإنسان.
إنّ الخلط بين القيادة السياسيّة وبين الطائفة هو من أخطر ما يكون على الإيمان نفسه، لأنّه يخلق موازاة بين الزعيم وتصرّفاته من جهة وبين إيمان طائفة من جهة أخرى، بحيث يتّجه معظم الناس في الطائفة إلى الدفاع عن الزعيم رغم ارتكاباته الفظيعة لمجرّد أنّه في ذهنهم يمثّل طائفتهم وإيمانهم (مع أنّ ذلك أمر وهميّ)، حتّى ليبدو لأتباع ذاك الزعيم أنّه المدافع عن المسيحيين أو عن المسلمين أو عن الأرثوذكس أو عن الموارنة أو عن الشيعة أو عن السنّة أو عن الدروز، في البلاد، والشرق، وحول الكوكب! في النهاية يُفرِغُ هذا الخلطُ التدينَ من الإيمان لأنّه يُفرِغُ التدينَ من ضرورة ترجمته الأخلاقيّة على صعيد التصرّف؛ فنصل إلى هذه المفارقة التي تتكرّر منذ الحرب اللبنانيّة (وصولاً إلى السوريّة ومروراً بالعراقيّة)، بأنّ الزعيم الأوحد هو زعيم «مسيحيّ» أو «مسلم» أو «وطنيّ» برغم عنصريّته وجرائمه ومجازره وخيانته.
يمكننا القول إنّ رفض إطلاق الصفة التمثيليّة الدينية والطائفيّة على القائد السياسي (حتّى ولو كان رجل دين) هو جزء من التغييرات الضروريّة في الرؤية والخطاب لتستقيم الحياة السياسية في لبنان أو أيّ بلد، بل أكثر من ذلك: إنّ الإيمان بالله نفسه يقتضي أن نرفض أن نطلق على زعيمٍ سياسيّ صفةً تجعله يمثّل ديناً أو طائفةً لأنّ هذه الصفة تدفع الناس للفصل بين التديّن والإيمان، أي تدفعهم ــ كما نلاحظ في طول البلاد وعرضها ــ إلى القبول بجَمْعِ التصرّفات الإجراميّة بمظاهر التديّن في تعارض صارخ مع مقتضيات الإيمان. إنّ رفض إطلاق الصفة التمثيليّة الدينيّة على القيادات السياسية في الإعلام وخارجه وفضح مخاطر هذا الخلط، هو بلا شكّ ضرورة وطنيّة، ولكنّه أيضاً ضرورة إيمانيّة ملحّة.
بشير الجميّل لم يكن زعيماً «مسيحيّاً» كما أنّ سمير جعجع أو غيره ليس زعيماً «مسيحيّاً»، ولا نبيه برّي أو غيره زعيماً «شيعيّاً» ولا سعد الحريري أو غيره زعيماً «سنّياً»، ولا وليد جنبلاط أو غيره زعيماً «درزيّاً»، هؤلاء قادة سياسيون أو عسكريّون يمثّلون عائلات أو أحزاباً لها برامج وأفكار وتصرّفات، ينتمون اجتماعياً إلى طوائف مختلفة ولكنّهم لا يمثّلون طوائف ولا أدياناً ولا إيماناً حتّى ولو انتخبهم ٩٩ ٪ من الناس الذين ينتمون إلى طوائفهم، ولو هتف لهم جميع رجال أديانهم بزعاماتهم السياسيّة ــ الطائفيّة، وكلّ ادّعاء لهم ولغيرهم بغير ذلك هو وهمٌ وخطرٌ على البلاد، وعلى الإيمان في هذه البلاد، ولو توهّمنا العكس. الأدوات التي يقاس بها مدى تمثيل شخص لإيمان طائفته (أدوات دينيّة مرجعها كتب مقدّسة) ليست أدوات قياس في الحقل العام والسياسة (عدد محازبين وناخبين)، الخلط بين مجالي التمثيل الإيمانيّ والتمثيل السياسي مُخطئ ومُضَلِّل وخَطِر.
* أستاذ جامعي

مراجع:

(١) أسعد أبو خليل، حتى لا ننسى ما مثّل (ويمثّل) بشير الجميل... إرث الفاشية اللبنانية، السفير ٢٩ آب، ٢٠٠٢
(٢) أسعد أبو خليل، جورج فريحة عن بشير الجميّل: التحضير لـ«صبرا وشاتيلا»، الأخبار، العدد ٣٢٣٧ السبت ٢٩ تموز 2017