«الاشتراكي، ببساطة، هو ذاك الإنسان الذي لا يستطيع تخطّي فكرة أن الأكثرية الساحقة من الناس، الأحياء والأموات، قد عاشوا حياة من الشقاء البائس الدائم» - تيري إيغلتون بعد الانهيار الفظيع للمنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي عام 1990، غادرت أسراب من الأحزاب الشيوعية الفكر الاشتراكي، فانحنى بعضها أمام هول العاصفة بانتظار التقاط الأنفاس واستعادة زمام الأمور، فيما تأقلم بعضها الآخر مع الموازين الجديدة، فتلّون وانزاح صوب المنطقة الرمادية، كما انحرف آخرون أو قل أكملوا انحرافهم، فذابوا في أعتى قلاع الليبرالية، لا بل صاروا من رؤوس حرابها.
صمد بعض العتاة، راجعوا التجربة والأخطاء، فازدادت قناعاتهم بصحّة خياراتهم الكلّيّة، رغم مراجعة بعض المفاهيم الجزئيّة، وما لبثوا أن عادوا إلى ساحات الوغى لمقارعة أقوى نظام استغلالٍ عرفته البشريّة في كل تاريخها: الرأسماليّة المعولمة، التي سبق أن أعطاها فلاديمير لينين اسمها العلمي قبل مئة عامٍ «الإمبرياليّة».
لطالما داعبت الرأسمالية المنحى الذاتي عند الإنسان، أي نزعته الأنانيّة للاستهلاك والسيطرة والتميّز عن محيطه، وثابرت على زرع الوهم الذي بات منتشراً عند شريحة كبيرة من أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وهم أنّ العمل الدؤوب في ظلّ الاقتصاد الحر والمبادرة الفرديّة يمكن أن تجعلهم يوماً ما أثرياء. ومَن مِن البشر لا يسعى وراء ذلك الوهم؟ لعلّ أبرز ما تمكّنت الرأسمالية وفكرها الفردي من الفوز به، قبل اكتمال النصر المرحليّ في المعركة السياسيّة أو العسكريّة، كانت المعركة الإيديولوجيّة عند الناس العاديين. الوهم الطبقي والفرديّة جعلا من عمال العالم ومستَغلّيه عتّالين أوفياء لأرباب عملهم، يكدحون صباحاً ومساءً، ويظنّون أن الترقي الطبقي آتٍ لا محالة، فيما هم يراكمون أرباحاً متزايدة لأولئك الذين يمنعون عنهم حتى وقت راحتهم وفراغهم ونشاطهم الاجتماعي. الوهم الطبقي تراه دائماً حاضراً في كلّ نقاش جديّ مع زميل عملٍ كادح، أو جارٍ عاطل عن العمل، أو مواطن يعيش البؤس، لكنّه يعيّبك بأنّ الاشتراكية تقتل الطموح الفردي، وتمنع الناس من أن يصبحوا أغنياء. هو نفسه من يطحنه المجتمع الرأسمالي، ولا يجد من يرمي له طوق النجاة، يركبه وهمُ أنّه سيصبح يوماً ما يحلم أن يكون. لا عمل لكلّ الناس رغم المبادرات الفردية. لا صحّة لائقة ولا تعليم نوعيّاً، رغم شعارات العدالة والمساواة. لا سكن ولا قدرة على التملّك، رغم حرية الملكيّة الفرديّة. لا إمكانية لتغيير السياسات في صناديق الاقتراع، لأنّ كل الأحزاب الأساسيّة تحمل نفس البرنامج الليبرالي، رغم أهازيج الديمقراطيّة. تلك هي الرأسماليّة لكنّها فازت جديّاً بعقول وقلوب فئات واسعة من أولئك البائسين الكادحين! هذه هي ساحة الحرب الإيديولوجيّة التي كسبها اليمين في الغرب خصوصاً، وفي العالم إجمالاً، مدجّجاً بآلة إعلامية هائلة، وفكرٍ يوميٍّ سائد، ونزعة أنانيّة عند عموم الناس.
لقد نجحت الاشتراكيّة قبل مئة عام مع الثورة البولشفيّة التي قادها فلاديمير لينين في روسيا، لأنّها نجحت في ذاك الوقت بكسب المعركة الإيديولوجيّة أيضاً بين صفوف العمال والمزارعين الروس. كان القيصر يجلب لهم الهزيمة والموت في الحرب العالمية الأولى، والجوع في ظلّ انهيار الاقتصاد، والصقيع في بلدٍ لا يغيب عنه الثلج. لم يكن ثمّةَ حلم أو طموح أو وهم في هذه الشروط. أمّا البلاشفة فقد وعدوهم بما كانوا يطمحون إليه: «الأرض والخبز والسلام». كان لينين منظّراً فذّاً استطاع أن ينقل الفكر الماركسي الذي استند في دراساته إلى الاقتصادات الرأسمالية الأكثر تطوّراً في أوروبا الغربيّة، إلى التربة الروسية ذات الخصائص الزراعية المختلفة. وعالج لينين في الوقت عينه مسألة التنظيم الثوري، والديمقراطية الحزبيّة، ومسألة القوميات، وحق الشعوب بتقرير المصير، كما قدّم مساهمات في معالجة المسألة اليهوديّة في روسيا، ومسألة شعوب القوقاز الإسلاميّة. وفي حين استطاع لينين خلال عقدين من الزمن أن يقارب كل تلك المسائل النظريّة، كان أيضاً قائداً ميدنيّاً وشعبيّاً في آن. إذ فهم ما أراده الشعب الروسي في ذلك الوقت، وقدّم له في برنامج الحزب معالجات مباشرة لهذه الإشكاليات، وحاكى الحزب البلشفي حاجات الشعب الروسي، فكسب الحرب الإيديولوجيّة أوّلاً ضد القيصر، ثم ضد الرأسماليّة. لتثمر تلك النضالات ثورةً هزّت العالم، وغيّرت التاريخ، وحققت الرفاه والتقدّم والتطوّر لمئات ملايين العمال والمزارعين والفقراء، ليس في داخل المنظومة الاشتراكيّة فحسب، بل داخل الدول الرأسماليّة نفسها، التي هرعت طبقاتها البورجوازيّة لتقديم تنازلات اقتصاديّة واجتماعيّة قبل أن تدق الثورة الحمراء حصونها.

التوازنات السياسيّة
الدوليّة لا تترك
على المسرح مجالاً
كبيراً للمناورة

تشير الأرقام والدراسات إلى أنّ النهضة التي تحققت في روسيا ودول الاتحاد السوفياتي بعد الثورة، وصولاً إلى بداية الستينيّات من القرن الماضي، كانت من أسرع القفزات الاقتصاديّة في التاريخ الحديث وأكثرها عدالةً في التوزيع بين طبقات المجتمع. إذ انتقلت روسيا في أقلّ من أربعة عقودٍ من دولة متخلّفة تعاني الجوع والفقر، إلى دولة صناعيّة متقدّمة علميّاً وتكنولوجيّاً ورياضيّاً وفنّيّاً وعسكريّاً، حيث وصل اقتصادها الكلّي سريعاً إلى المرتبة الثانية عالميّاً، وبات مستوى الدخل الفردي في روسيا يوازي، أو يقلّ قليلاً، عن ذاك المحقّق في أوروبا الغربية، التي بنت غناها وتقدّمها على مراكمة الثروة من حقبة الاستعمار، على حساب شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. والأهم من مستوى دخل الفرد هو مسألة عدالة التوزيع، إذ تشير الأرقام المتوفّرة إلى تقلّص الفروقات الطبقيّة بشكل ملحوظ خلال تلك الفترة، وإعادة توزيع الثروة على مختلف المكوّنات الاجتماعية لشعب الاتحاد السوفياتي. وخلال عقدين من الزمن، حصل حوالى 100 مليون مواطن على منازل جديدة خاصة في المدن، فيما كان الغرب يشهد سيطرة محكمةً لطبقة صغيرة على الجزء الأكبر من الدخل الوطني، وكان سكّان المدن يهربون منها إلى الضواحي، في ظلّ جنون أسعار العقار. ولكنّ عقارب ساعة التقدّم تباطأت منذ منتصف الستّينات، حتى وصل مرحلة الجمود في الثمانينات، فيما كانت المنظومة الرأسماليّة تشحذ سكاكينها للانقضاض على الخصم. سقط الاتّحاد السوفياتي أو أُسقط؟ لا فرق. سقوط أو إسقاط، أعاد للرأسمالية وجهها الحقيقي، فأظهر توحّشها وعدوانيتها داخل بلدانها نفسها. إذ انقضّت على المكتسبات الاجتماعية، ولاحقت برامج التعليم والصحّة والبطالة لتقتطع منها. ثم حاصرت النقابات وفككتها، وألغت مكاسب العمّال المحقّقة في الفترة السابقة. وأعادت الإعفاءات الضريبية عن أرباح قطاع الأعمال الكبيرة، وأدخلت ضرائبها الجديدة التي تُقتطع من مداخيل الفئات الدنيا، لتكرس إعادة توزيع معاكسة للثروة من جيوب الفئات الأدنى إلى جيوب الفئات الأعلى، وتضرب بذلك كل ما تحقّق في بلدان المركز الرأسمالي على مدى عقود.
العالم اليوم في فترة مفصليّة. تندفع قوى الاستغلال والربح في كلّ أرجاء الأرض، تستغلّ العمّال وتدفعهم إلى حياةٍ رثّة كئيبة. تنقل مصانعها إلى دول يعمل فيها العمال، وبينهم أطفال، 10 ساعات يومياً مقابل دولارٍ أو اثنين، دون شروط سلامة ورقابة. تشعل الحروب في كلّ زوايا العالم، لتبيع السلاح وتبيع معه الوهم بالأمن والطمأنينة. تعزّز كل أنواع الانقسامات المذهبيّة والإثنيّة والعرقيّة، لتقوم باستغلال كل هذه الفئات المتصارعة. تسيطر على صناعة الدواء، فيموت من لا يستطيع شراء أدوية الأمراض المزمنة الباهظة، حيث تقارب أسعار دواء السيدا على سبيل المثال الألف دولار للعلبة، فيما لا ينتج المواطن الأفريقي الأكثر حاجةً لهذا الدواء ذاك المبلغ طوال عام كامل. تحاول دول أخرى أن تنتج نفس الدواء بكلفة 100 مرةٍ أقلّ، فيتم منعها وقمعها تحت طائلة «قانون الملكيّة الفكرية» الأميركي، الذي جرى تعميمه على العالم. لا بأس أن يموت الفقراء، والويل والثبور لمن يتخطى الملكيّة الفكريّة. تُدمّر الطبيعة، وتُسبّب الاحتباس الحراري، وتغيّر المناخ ما يؤدّي إلى الأعاصير والتصحّر كما نرى بشكل متزايد. تُسلّع كلّ شيء بما فيه الإنسان. تبيعنا الوهم والحلم، وتسلبنا الحرّية والكرامة والعيش الكريم. تبلغ الرأسماليّة اليوم ذروتها في استغلال الإنسان والطبيعة. لن يكون المزيد متاحاً. الطبيعة تكاد تصل مرحلة اللاعودة نتيجة الاستغلال المسرف. الرأسمالية تنتج في بلدنا بضعة متموّلين يمتلكون مليارات الدولارات، وأطفالاً يرميهم أهلهم في مستوعبات القمامة. تُنتج في سوريا والعراق متنفّذين يملكون نصف الثروة الوطنيّة، فيما الفقراء يموتون على جبهات القتال. تُنتج في مصر مصرفيين يمتدّ نفوذهم على مساحة العالم العربي، بينما يحلم ملايين الأطفال بوجبتي طعام يومياً. الإنسان العامل اليوم هو في أسوأ أوضاعه منذ الحرب العالميّة الثانية.
التوازنات السياسيّة الدوليّة بين الدول الرأسمالية التاريخيّة والقائدة كالولايات المتّحدة ودول أوروبا، وبين دول صاعدة على المشهد العالمي كروسيا والصين وعشرات الدول الإقليميّة، لا تترك على المسرح مجالاً كبيراً للمناورة أو اللعب. اللاعبون كثيرون وأقوياء، والأرض والإنسان لن يستطيعا احتمال احتدام منافسة رأسمالية جديدة على استغلالهما. الرأسمالية لم تعد نظاماً اقتصاديّاً قابلاً للحياة في المستقبل. الرأسمالية خطر وجودي على الكوكب. إمّا أن تستطيع البشريّة هزيمتها وتخطّيها، وإمّا أن تطيح بمقوّمات بقاء البشرية. ليست الاشتراكيّة قدراً أو حتميّةً تماماً، إذ قد تنهي الرأسماليّة مقوّمات تطوّر المجتمع البشري، في وتيرة اتّساع استغلالها وعدوانيّتها.
تقف البشرية اليوم على مفترق طرق، وقد يفرض هذا الواقع الموضوعي على القوى الصاعدة أن تعيد حساباتها في مسار تطوّرها، وفي تماهيها مع المراكز الرأسماليّة. لكنّ الأهم هو أن أمام الشعوب اليوم خياراً استراتيجيّاً واحداً للبقاء والتطوّر والتقدّم، هو الاشتراكية. «الاشتراكية أو الموت» شعار شهير في كوبا يرفع دوماً لتحدي الجار-العدو، لكنّه قد يكون هو نفسه خيار الشعوب في مواجهة مسار الرأسمالية في تدمير الكوكب والإنسان.
(افتتاحية مجلة «النداء»)