شهدت ألمانيا في الأسابيع الأربعة الماضية ثلاث مناسبات ذات أهمية قومية. الأولى كانت الانتخابات النيابية العامة، والثانية الذكرى السابعة والعشرين للوحدة، والثالثة ذكرى تأسيس ألمانيا الشرقية التي كانت تعرف باسم الجمهورية الألمانية الديموقراطية. المناسبة الأخيرة لم يحتفل بها أحد، لكن التذكير بها مهم لفهم مغزى المناسبتين السابقتين لها.
مؤلفات عديدة نشرت في ألمانيا عن ما يعرف رسمياً بـ«إعادة توحيد ألمانيا» الذي تم رسمياً في الثالث من الشهر الجاري عام 1990. لقد كنت مقيماً في ألمانيا الشرقية، وفي برلين تحديداً، وشاهدت بعينيّ تلك التطورات، وكل ما واكبها من مشاعر فرح كانت أو خوف أو حزن، أحسست بها كوني أقمت فيها نحو خمسة عشر عاماً مكّنتني من الاندماج في المجتمع الألماني، والتعرف إليه عن قرب.
المشكلة الرئيسة كمنت في حقيقة أن تلك الوحدة لم تكن بين طرفين متساويين، بل هيمنة ألمانيّة غربية كاملة على الشرقية، بشراً وحجراً. الألمان الغربيون لم يتقبلوا الملاحظات النقدية لطبيعة الوحدة وجوهرها، وآثارها بعيدة المدى، مع علمهم أن سكان ألمانيا الشرقية بدؤوا يحسون بالظلم الذي وقع عليهم. فقد انتشرت النكات بين سكان شرقي البلاد عن الألمان الغربيين، وعن الأوضاع الجديدة وساد تعريفان جديدان للألمان هما «أُسِي» و«فِسي»، أي شرقي وغربي.
حاكم ولاية هامبورغ، المدينة/ الولاية الأسطوري فون دوناني، حذّر بدوره من التفاؤل المصطنع الذي ينشره سياسيو البلاد من تساوي طرفي البلاد في غضون فترة قصيرة، وقال إن لحاق الشرق بالغرب سيحتاج إلى ثلاثة عقود. وقتها قامت الدنيا عليه ولم تقعد، واتهم بأنه ينشر ثقافة التشاؤم، فصمت، لكنه لم يتراجع.
لنبدأ من الأول: اسم عقد الوحدة بين الألمانيتين هو «عقد اندماج الولايات الاتحادية الجديدة في جمهورية ألمانيا الاتحادية»، وهو يلخص طبيعتها وجوهرها. ثم لم يكن لأي سياسي شرقي أي دور في صياغة «العقد»، وكل ما كان على قيادات الشرقية الجدد من الاتحاد الديموقراطي المسيحي اليميني هو التوقيع. حتى رأيهم لم يكن مطلوباً.
إحدى أولى نتائج تلك الوحدة فرض قانوني لعدم التساوي في الأجور بين العمال والموظفين في طرفي البلاد، والمستمر إلى يومنا هذا حيث يقل دخل الألماني العامل أو الموظف في شرقي البلاد بنحو 25% عن مثيله في غربيها.
لقد شاهدت بنفسي كيف كان الزملاء في الجامعة التي درست فيها يفقدون وظائفهم لصالح أكاديميين يؤتى بهم من الغرب، لا يحصلون على المعاش الغربي فقط بل تدفع لهم بدل تغرّب، والذي أطلق الشرقيون عليه مصطلح (بدل تغرّب في الغابة)، والأخيرة هي ألمانيا الشرقية!
كتب الكثير عن ذلك، لكن من دون أي نتيجة تؤدي إلى تصحيح الوضع، حتى انفجار الانتخابات التمثيلية الأخيرة حيث فاز حزب البديل بأكثر من 10% من الأصوات، وصار القوة البرلمانية الثالثة. الاسم «البديل» اختاره مؤسسو الحزب رداً على قول المستشارة ميركل «ليس ثمة من بديل لسياسة الحكومة (الائتلافية من الحزبين الديموقراطي المسيحي والديموقراطي الاجتماعي)».
وقيل إنه كان ثمة تفاهم بين الحزبين الألمانيين الرئيسين يقضي بألا يسمح الحزب اليميني بصعود أي قوة على يمينه، وبألا يسمح الحزب المصنف يسارياً، أي الديموقراطي الاجتماعي، بصعود أي قوة على يساره. لكن ما حصل هو أن الحزبين عانيا خسائر هائلة في الانتخابات الاتحادية الأخيرة، وفقد كل منهما نحو 10% من الأصوات التي ذهب قسم كبير منها إلى اليمين الشعبوي في شرقي البلاد، أي حزب البديل.
قلنا إن الغبن الذي أصاب سكان شرقي ألمانيا، الذين يشكلون خمس سكان ألمانيا، بسبب تلك الوحدة قائم على ما يرونه استعمار لهم وفقدان أي أمل لهم أن يكونوا جزءاً من المؤسسة الحاكمة. فلنستعن ببعض الإحصاءات الرسمية التي تعكس بعض جوانب الحياة في طرفي البلاد:
- ثمة قاضٍ ألماني شرقي واحد في المحكمة الدستورية الولائية، وعدد أعضائها 16 قاضياً.
- ليس ثمة من ألماني شرقي واحد عضو في ما يسمى نخب ألمانيا.
- فقط ثمة أربع مدراء مؤسسات صناعية مسجلة في بورصة فرانكفورت من شرقي البلاد، من مجموع 201 مدير.
- ليس ثمة من ألماني شرقي واحد من عمداء الجامعات الرسمية البالغ عددهم 89 عميداً.
- فقط ثلاثة وزراء دولة أصلهم من شرقي البلاد، من مجموع 64 وزير دولة.
- فقط أربع رؤساء أقسام من مجموع 109 في الوزارات الألمانية.
- 75% من رؤساء الأقسام في وزارات شرقي ألمانيا هم من غربي البلاد.
- 77% من قيادات الاقتصاد في شرقي البلاد هم من غربيها.
- 94% من قضاة المحاكم العليا في شرقي البلاد هم من غربيها.
- مجموع فرص العمل التي تم توفيرها في شرقي البلاد يقل عن 7% من مجموع الفرص لكل ألمانيا.
- 87% من الوظائف التي أعلن عنها تمت في غربي البلاد (نحو ثلاثة ملايين وظيفة) والبقية نشرت في برلين.
ثمة أرقام كثيرة أخرى تعكس مدى الفجوة بين شقي البلاد. من منظور سكان شرقي البلاد فإن هذه الحقائق ليست أرقاماً وإنما حيوات معاشة، تحولت إلى غضب شعبي انفجر في الانتخابات الأخيرة.
فهل ثمة بعد من يعجب من صعود اليمين الألماني الشعبوي، تماماً كما نراه يصعد في كثير من دول الغرب!
قيل، كان على الألمان أن يتحدوا كي يكتشفوا أنهم شعبان وليس شعباً واحداً!
ويقال الآن: جدار برلين المادي سقط، لكنه أفسح في المجال لقيام جدران نفسية كثيرة مكانه، وهي أخطر بما لا يقاس.
إنها العولمة.