في خطابه لمناسبة عيد التحرير الأخير في الخامس والعشرين من أيار المنصرم، تطرق السيد حسن نصر الله بشكل عابر، ولكن بوضوح شديد، الى أمر بغاية الأهمية. فقد تكلم عن مقدرته، ومقدرة حزب الله من خلفه، على تشكيل «ضمانة» حقيقية للفريق الآخر في لبنان في حال انتصار النظام السوري على المعارضة، أو المعارضات، المواجهة له في الحرب الأهلية السورية. وحتى ولو لم يعرض السيد نصرالله إعطاء الضمانة بشكل رسمي، فقد كان مجرد إعلان «المقدرة» على ذلك بمثابة عرض لزعماء الفريق المواجه له في البلد لتقديم هذه الضمانة لهم. وتكمن أهمية الأمر أولاً في ما يبدو وكأنه «وعي مستجد» من قبل السيد نصر الله لدوره الضروري في هذا المجال، ذلك لأنها المرّة الاولى التي يأتي فيها على ذكر هذا الأمر على الرغم من مرور ما يفوق الأربع سنوات على اندلاع الحرب السورية.

وكنا قد طالبنا السيد نصر الله – وحزب الله من ورائه – بضمان السلم الأهلي في لبنان، وبتقديم هذه الضمانة لجميع المواطنين وليس فقط لزعماء الفريق الآخر في البلد، منذ ما قبل اندلاع الحرب الأهلية في سوريا. ففي مقال في «الاخبار» بعد فترة قصيرة على المواجهة التي اندلعت بين حزب الله و«الأحباش» في برج ابو حيدر في صيف 2010، طالبنا الحزب يومها بتقديم هذه الضمانة للمواطنين وبتنفيذ الخطوات العملية المطلوبة لذلك – من نزع للسلاح «الشوارعي» الذي ليس له علاقة بسلاح المقاومة وضبط حقيقي للأمن في كل لبنان ومن أقصاه إلى أقصاه – بالتعاون مع الجيش اللبناني.
هذه الضمانة لم تعد كافية
وحدها الآن بعد كل الدم الذي
جرى في سوريا

أما بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، وانخراط حزب الله فيها الذي أدّى عملياً الى بقاء النظام السوري على قيد الحياة، فقد أصبح السيد نصر الله مطالباً بأكثر من ضمانة، ليس فقط في لبنان بل في سوريا أيضاً. ونحن لا نتكلم هنا عن ضمانات تُعطى في لبنان من أجل الحفاظ على خطوط العودة لملوك الطوائف المختلفة في البلد. فالمطلوب من السيد نصرالله اليوم تقديم الضمانة للشعب اللبناني بأسره بعدم السماح باستيراد الحرب الأهلية السورية إلى لبنان تحت أي ظرف من الظروف. أما بالنسبة للضمانات المطلوبة من السيد نصرلله للشعب السوري فهي على مستوى مختلف تماماً. فبعد انتشال حزب الله عملياً للنظام السوري من هزيمة كانت على ما يبدو محققة لولا تدخل الحزب الذي غيّر مجرى الحرب الأهلية في سوريا في وقت من الأوقات، أصبح من حق الشعب السوري على السيد أن يضمن له تغييراً ديمقراطياً حقيقياً في النظام. ذلك إنه إذا كان من حق حزب الله مواجهة الجماعات التكفيرية المتحكمة في مناطق واسعة من سوريا حالياً، وإذا سلّمنا جدلاً بحق الحزب في دخول الحرب السورية لمنع نقل سوريا بالقوة إلى الضفة المعادية له في المواجهة الدائرة في المنطقة، فلا يمكن لأحد ممن يريدون الخير لسوريا أن يعطي الحق للحزب بأن يساهم في فرض تأبيد الاستبداد بصيغته الحالية على الشعب السوري عبر تدخله في هذه الحرب.
ولكن هذه الضمانة، وإن كانت ضرورية، فهي لم تعد كافية لوحدها الآن بعد كل الدم الذي جرى في سوريا، وبعد التطورات التي شهدتها الحرب السورية في الأشهر والأسابيع القليلة الماضية. فالهرولة الجارية من قبل النظام من جميع مناطق الاطراف السورية باتجاه دمشق و«غلاف لبنان» واللاذقية، تحتّم علينا مطالبة السيد نصرالله بأن يضمن لنا وللشعب السوري بأن النظام الذي أبقاه على قيد الحياة، سوف يبقي – أو على الأقل سوف يعمل على الإبقاء – على سوريا واحدة موحّدة. بل بات من حق الشعب السوري بأن يطالب بضمانة حول استمرار النظام في النظر اليه كشعب واحد وليس كمجموعات طائفية ومناطقية، يستعدي بعضها ويتخلّى عن بعضها الآخر في سبيل الدفاع عن بعض ثالث.
والحقيقة أن التصدي لهذه الممارسات ولغيرها من مشاريع الهندسات الديموغرافية التي يبدو أنها تدغدغ مخيّلات البعض في طرفي الحرب السورية، كما دغدغت المخيلات لدى أطراف الحرب اللبنانية كافة من قبل، هو أكثر من ضرورة لحزب الله. ذلك لأن مقاومة الحزب القائمة على العداء المطلق لإسرائيل لا يمكن أن تتعايش مع التخلي عن مجموعات كاملة من الشعب السوري. فالتخلي عن هذه المجموعات سوف يحولها إلى عدو لفكرة الدولة السورية من أساسها ويحولها بكل بساطة الى حرس حدود لإسرائيل في جنوب سوريا ولتركيا في شمالها. بل ويمكن أن تصل خطورة هكذا تخلّي عن مجموعات كاملة من الشعب السوري إلى حد أن يساهم في خلق دولة «سنّي-ستان» جديدة في المساحة الممتدة ما بين شرق دمشق وغرب بغداد، لأنه سوف يرمي بمجموعات طائفية بكاملها في أحضان الجماعات التكفيرية، ويمكن عندئذٍ أن تقرّر الولايات المتحدة الأميركية أن استيلاد دولة كهذه هو أقصر الطرق لاستحداث توازن رعب بين السنة والشيعة في المنطقة ليحل مكان التوازن النسبي القائم الآن بين حزب الله وإسرائيل. و«الحرب» القائمة حالياً بين جماعة «داعش» والتحالف الذي أنشأته أميركا لمواجهة هذه الجماعة تزيد القلق من سيناريو كهذا بدل أن تنقصه. فقد توسعت المساحة التي تتحكم بها «داعش»، في سوريا والعراق معاً، بدل أن تنكمش منذ البدء بهذه «الحرب» التي لم تُدحر في أي معركة من معاركها إلا أمام الأكراد الذين يرسمون دولتهم بتأنٍ شديد في الشمال السوري بمساعدة الطيران الأميركي. وللتوضيح أكثر، إذا كان هناك من إمكانية للدفاع عن انجرار حزب الله للحرب السورية بالتركيز على أن المعركة المفتوحة هي مع الجماعات القاعدية التكفيرية التي تشكل خطراً وجودياً ليس على المقاومة فقط بل على المجتمع اللبناني ومجتمعات المشرق العربي بكاملها، فإن سكوت حزب الله على التخلّي عن مكوّنات كاملة من الشعب السوري واستعداء بعض هذه المكونات بشكل شامل ونهائي سوف يكون – بكل صراحة – جريمة كبرى بحق المقاومة ومنطقها من أساسه.
إن السيد حسن نصر الله مُطالب، بما له من رصيد، بأن يمنع تقسيم الشعب السوري إلى جماعات صديقة وجماعات عدوة، وجماعات تستأهل الدفاع عنها وجماعات لا تستأهل ذلك. أي بمعنى آخر أن السيد مُطالب بأن يمنع استعداء جماعات بأسرها من الشعب السوري، بل ومن شعوب المشرق العربي ومن ضمنها الشعب اللبناني، على المقاومة ومنطقها وعلى فكرة العداء لإسرائيل من أساسها. وما نطالب به للشعب السوري في هذا المجال لا يختلف عمّا طالب به الوزير السابق طراد حمادة أخيراً على صفحات «الأخبار» لأهالي عرسال. فالممثل السابق لحزب الله في الحكومة اللبنانية «توقع» أن يعمد الحزب إلى احتضان عرسال وأهلها، وأن يطالب بإنماء المدينة وتمثيلها وأهلها تمثيلاً حقيقياً في الدولة والبرلمان، بعد تحرير جرودها من التكفيريين. ونحن نريد أن «نتوقع» للشعب السوري، بجميع مكوناته، أن يلقى نفس المعاملة التي توقع الوزير حمادة لأهالي عرسال أن يلقوها من قِبل حزب الله.
لقد طالبنا السيد نصر الله منذ عام 2013 بأن يضمن تحولاً ديموقراطياً في النظام السوري، وها نحن ما زلنا نطالبه اليوم بهذه الضمانة ونزيد عليها مطالبته بضمان الإبقاء على الشعب السوري شعباً واحداً. ذلك إننا بصراحة نعتقد بأن تقديم هاتين الضمانتين من السيد هو وحده الكفيل بإعادة توسيع «البيئة الحاضنة» للمقاومة لتعود بيئة عابرة للمذاهب في المنطقة كما كانت بعد التحرير في عام 2000 وبعد حرب تموز في عام 2006. وهذا بنظرنا هو وحده ما يمكن أن يؤدي إلى الانتصار النهائي على الفتنة المذهبية الدائرة في طول المنطقة وعرضها. فالانتصارات العسكرية لا تكفي في هذا المجال بالذات، والعداء المطلق لا يجوز أن يُشهر الا بوجه إسرائيل.
* كاتب لبناني