ثمّة مقاربات مختلفة لأزمة إقليم كاتالونيا، وهذا ما يجعلها عصيّة على القراءة الواحدة. فبالإضافة إلى البعد الانفصالي أو المتصل بالحقّ في تقرير المصير ثمّة أبعاد أخرى لا تقلُّ أهمية، ولكنها تُهمَل لأنها لا تتطرَّق مباشرةً إلى الأبعاد السياسية للنزاع وتفضِّل بدلاً من ذلك قراءة المشهد في تعدُّديته وارتباطه بقضايا الإقليم والعالم. ومن هنا مثلاً يبدو موقف أوروبا أساسياً، لجهة عدم حماستها للتدخُّل وتفضيلها إبداء دعم لفظي وإن يكن أساسياً لحكومة مدريد.
مُحدِّدات موقف أوروبا

بالنسبة إلى بروكسيل، لا يبدو النزاع في كاتالونيا مرتبطاً بالمشكلات الكبرى التي تؤرِّقها (الهجرة، صعود اليمين المتطرف، الموقف من سياسات بروكسل، أزمة الديون ... الخ)، وهو ما يفسِّر من بين أمور أخرى تأخُّرها في إبداء ردود فعل على الأحداث المتسارعة داخل الإقليم. دعمُها للحكومة المركزية في مدريد يأتي في هذا السياق، فهي لا تتدخّل في قضايا يمكن حلّها عبر الحوار الداخلي، وإذا تدخّلت فيجب أن يكون ثمّة ضرورة قصوى لذلك، وهذا لا يحصل عادةً إلا في القضايا التي تمسّ سياسات الاتحاد نفسها (معارَضة اليونان سابقاً لإملاءاتها الاقتصادية). أمّا في الحالة الكاتالونية فليس من بين الأفرقاء من يعارِض هذه السياسات، ولذلك يجري التعامل مع النزاع بين «الانفصاليين» والحكومة المركزية على أنه «شأن داخلي»، وإن كان يؤثّر على العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وإسبانيا لجهة الالتزام بالحزمة الاقتصادية التي اقترحتها بروكسل على مدريد كحلٍّ ممكن لتفادي تكرار سيناريو اليونان. بهذا المعنى تبدو مقاربة بروكسل للمسألة الكاتالونية مرتبطة أكثر بمدى قدرة الحكومة المركزية في مدريد على ضبط النزاع بأسرع وقت ممكن، بحيث تظلّ قادرة على الوفاء بتعَهُّداتها المالية للاتحاد. الأوروبيون يولون أهمية قصوى لاستمرار تطبيق السياسة المالية التي أخرجت إسبانيا جزئياً من حلقة المديونية لمصلحة دول أخرى لا تزال عالقة فيها (مثل اليونان). وهذا مرهون طبعاً بقدرة الدولة هناك على التحكّم بالتدفقّات المالية، بالإضافة إلى السيطرة على الموارد التي تأتيها من الأقاليم الغنية.

اقتصاد النزاع

وباعتبار أنّ كاتالونيا هي الإقليم الأغنى اقتصادياً فهذا يجعلها محورية بالنسبة لعملية التراكم التي تقودها الحكومة الإسبانية لمصلحة الاتحاد الأوروبي. ذلك أن الانفصال الذي تدعو إليه حكومة الإقليم مدعومةً بالاستفتاء الذي جرى في الأوّل من الشهر الجاري سيقلِّص من حجم الاقتصاد الإسباني، ويحرمه من المساهمة الكاتالونية التي يصل حجمها إلى 20% من الناتج المحلّي الإجمالي. وأهمية هذه المساهمة الاقتصادية تأتي من كونها تعتمد على البنية الصناعية القائمة في كاتالونيا، فاقتصاد هذا الإقليم الغني لا يقوم على السياحة والثروتين الزراعية والحيوانية فحسب، بل يمكن اعتباره أحد أهمّ خطوط الإنتاج الصناعي في إسبانيا. فقد تطوَّرت هناك إلى حدّ كبير الصناعات الغذائية والكيميائية التي تجعل البلاد مكتفية ذاتياً، وتساهم فضلاً عن ذلك في قطاع التصدير الذي يعتمد عليه اقتصادا الإقليم والبلاد عموماً. وكون الإقليم يمتلك بنية تحتية كبيرة لتصدير هذا الناتج إما عبر المطارات أو الموانئ فهذا يسهّل أكثر عملية التبادل التجاري، ويزيد من تمسّك الحكومة المركزية به، ليس كرافد أساسي للخزينة فحسب، بل كبنية تحتية لا يمكن الاستغناء عنها في مجالات الصناعة والسياحة والتجارة. كلّ ذلك يجعل من قرار حكومة الإقليم إجراءَ الاستفتاء، ثمّ التصعيد باتجاه إعلان الاستقلال أمراً يتعلّق بحرمان الدولة الاستفادة من الموارد الاقتصادية المتوافرة فيه أكثر منه نزعة انفصالية، على الرغم من أنّ دوافع الانفصال لأسباب قومية موجودة بدورها، ولكن تأثيرها ينحصر على الأرجح في تحريك الشارع ودفعه إلى الصدام مع الحكومة المركزية.

تطوُّر الأزمة سياسياً

والحال أنّ الدوافع الاقتصادية للانفصال تغيب هنا لمصلحة الاستقطاب السياسي المتصاعد، وهذا طبيعي في ضوء الطريقة التي اتبعتها حكومة مدريد «لاحتواء الأزمة». خيار التفاوض استُبعِد منذ البداية، وهذا ساعد حكومة الإقليم في تصعيد تحرُّكاتها، وخصوصاً بعد الإجراءات التي اتُخذَت لمنع حدوث الاستفتاء وأدّت إلى حصول هذا الكمّ من الإصابات في صفوف المقترعين ومؤيِّدي الاستفتاء. وحتى بعد إعلان النتيجة وإبداء حكومة كاتالونيا مرونةً في التفاوض على حصيلة الاستفتاء ظلّت السلطة في مدريد على موقفها، وأُضيف إلى موقف الحكومة المتشدِّد لاحقاً خطاب الملك الذي بدا أكثر تشدُّداً من حكومته في خيار الرفض، إلى درجة التلويح باستخدام القوّة ضدّ قادة الإقليم في حال عدم تراجعهم عن الانفصال. كلُّ ذلك أجّج التوتر في كاتالونيا أكثر فأكثر، ودفع حتّى بالمتردّدين الذين لم يؤيِّدوا خيار الانفصال في البداية إلى الالتحاق بالحركة الجماهيرية العارمة التي تطوَّرت بدورها، وانتقلت من حركة محدودة في إطار المؤيِّدين للأحزاب الداعية للانفصال إلى حركة تحتضن بالإضافة إلى جمهور الأحزاب أوسع تمثيل شعبي عرفه الإقليم في تاريخه، ويضمّ الى جانب هؤلاء النقابات العمّالية والحركات الطلاّبية والنسوية والمثقفين والفنانين ولاعبي الكرة الذين يحظون بجماهيرية كبيرة و... الخ.

خاتمة

لم تكن الدعوة إلى استقلال الإقليم أو انفصاله عن اسبانيا لتصل إلى هذا الحدّ، ولبقيت في إطار الأحزاب التي تتبنّاها في ظلّ انقسام شعبي واضح ومعارضة أحزاب أخرى لها لولا أخطاء حكومة ماريانو راخوي، وتبنِّيها النهج الأمني بدلاً من المقاربة السياسية التي أفلَحت سابقاً في احتواء أزمة إقليم الباسك. وهذا الإقليم بخلاف كاتالونيا، لم يكن يعارض الحكومة المركزية سلمياً أو يطالب بالانفصال عنها سلمياً أيضاً، بل كان يمتلك ذراعاً عسكرية خاضت مع الحكومة الاسبانية أطول نزاع مسلَّح عرفته البلاد بعد انتهاء الحرب الأهلية. ومع ذلك قبلت الحكومة آنذاك بالجلوس والتفاوض معه على حلّ سلمي للنزاع وجنّبت البلاد انفصال أحد أهمّ أقاليمها عنها في حين أنّ الحكومة الحالية لا ترفض التفاوض على حلّ سلمي فحسب، بل ترفض الاعتراف أساساً بوجود أزمة، وهو ما سيتسبّب ليس فقط بتصاعد النزاع، بل أيضاً بدفع معظم الكاتالونيين إلى المطالبة بالانفصال. وعندها لن تكون حكومة راخوي والملك في مواجهة قادة سياسيين في كاتالونيا يدعون إلى الانفصال فحسب بل في مواجهة شعب بأكمله، وبالتالي لسنا هنا إزاء أزمة «تمثيل سياسي» بل إزاء حكومة لا تعرف كيف تتعامل مع حراك شعبي تطوَّر وتجذَّر بسب أخطائها، وسيتطوَّر أكثر ويتجذّر أكثر إذا استمرّت في رفضها للحلّ السياسي القائم على التفاوض والاعتراف بمطالب الإقليم، وأوُّلها الاستفتاء مع الأسف والذي لم يعد بعد حملة القمع التي شُنَّت مجرَّد مطلب بل أصبح مكسباً سيجري بناءً عليه التفاوض على مطالب أخرى.
* كاتب سوري