«من الواضح أنهم لم يسمعوا أبداً أن الجندي العربي من المفترض أن يهرب بعد اشتباك قصير مع الإسرائيليين». (جندي من وحدة «ماغلان» التي قاتلت في مارون الراس)

على إثر هجمات 11 أيلول 2001 وحتى عام 2003، خرج الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن بسلسلة من الخطابات رسمت صورة لعالم جديد قيد التشكيل، لا وجود فيه لمن لا يؤمن «بالحريّة الأميركيّة». فكانت الجملة الشهيرة من خطاب حالة الاتحاد في 28 من كانون الثاني عام 2003، حين قال بوش: «الأميركيون شعب حر، يعرفون أن الحرية هي حق كل شخص ومستقبل كل أمة. الحرية التي نصدّرها ليست هدية أميركا للعالم، هي هدية الله للبشرية». حينها وقف العالم أجمع أمام رئيس لأقوى دولة ينوي أن يؤدّي «هديّة الله للبشريّة» بالحديد والنار.

شرق أوسط جديد لعالم جديد

كان لمنطقتنا نصيب وافر من خطط «تصدير الحريّة»، بداية باجتياح العراق وليس نهاية بالتخطيط لاجتياح سوريا وإيران عبر ضمّهما إلى محور الشّر الشهير. ولم تكن نُذر تطبيق خطط إدخال منطقتنا في هذا العالم الجديد أكثر وضوحاً من العدوان الإسرائيليّ على لبنان في شهري تموز وآب عام 2006. ولا زالت كلمات كونديليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركيّة في حينه، في مؤتمرها الصحافي الشهير في 21 تموز 2006 في بيروت، حاضرة في ذاكرة معظم اللبنانيين. ولعلّ أبرز جملة قالتها، وأوضحت فيها الهدف من ذلك العدوان، كانت: «ما نراه هنا، بمعنى ما، هو النمو... مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد». وفي المؤتمر الصحفيّ نفسه شرحت رايس كيف يمكن لبلد صغير كلبنان أن تشكّل الحرب فيه مخاضاً لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، فمما قالته أنّ الضغط على إسرائيل لإيقاف الحرب من دون تحقيق أهدافها يعني العودة إلى «الوضع القائم» السابق، وهذا ما سيمنع قيامة شرق أوسط جديد.
من الواضح أنّ الإدارة الأميركيّة كانت ترى في لبنان امتداداً لباقي دول المنطقة المستهدفة بالتغيير، أي إيران وسوريا. ويشرح مؤلّفو بحث «الشرق الأوسط الجديد» (نايثان براون ومارينا أوتاواي وعمر حمزاوي وكريم سجّادبور وبول سالم) المنشور عام 2008، نظرة إدارة بوش للشرق الأوسط، على أنّه مقسّم إلى ثلاث كتل هي: الكتلة الأولى «إيران ــ العراق»، والثانية «سوريا ــ لبنان»، بينما الثالثة الصراع «الفلسطيني ــ الإسرائيلي»، وترتبط الكتلتان الأولى والثانية عبر التحالف السوريّ الإيرانيّ الوثيق. ومن ضمن ما يشرحه البحث، هو «الوضع القائم» لكلّ من دول الكتلتين الأولى والثانية من وجهة نظر الأهداف الأميركيّة الموضوعة للمنطقة عام 2003 قبل احتلال العراق، حيث أنّ إيران أصبحت اللاعب الأقوى في كتلتها بعد سقوط صدام حسين، بينما سوريا لم تُهزم إثر محاصرتها وإخراجها من لبنان، وكانت لا زالت لديها النزعة للعب دور «مفسد الخطط» في المنطقة. ويضيف البحث، «الواقع أنّ كتلة (سوريا ــ لبنان) كانت تقع على تقاطع صراعي (الديموقراطية ـ الطغيان)، وإيران ـ الولايات المتحدة. وكانت الأخيرة ترى في سوريا وحلفائها في لبنان وكلاء إيران في المنطقة، ويضاف إلى هذا ما لإيران من تأثير في مجرى الأمور في الكتلة الثالثة، أي القضية الفلسطينيّة».

كانت المقاومة تعرف عدوّها جيداً كما عرفه المماليك في عين جالوت


يتضّح من كل ما سبق ذكره أنّ الهدف من محاولة تدمير المقاومة في لبنان عام 2006، كان كسر «الوضع القائم» في الكتلة الثانية والنفاذ منه إلى كسر الوضع القائم في الكتلة الأولى. ويمكننا أنّ نستنتج أنّ مجرّد بقاء الوضع القائم في هاتين الكتلتين كما هو، كان سيُعدّ في حينه هزيمة أميركيّة ونهاية مشروع الشرق الأوسط الجديد.

الالتحام المباشر

في السنوات الإحدى عشرة الماضية، وُضعت مآلات عدوان 2006 الإسرائيلي على لبنان تحت المجهر، وخضعت للكثير من التقييمات على جانبي الحدود، بينما أصبحت مساراته العسكريّة مادة دراسية دسمة في الكثير من الكليات والمؤسسّات العسكريّة حول العالم. ولكن عند تناول هذه الحرب في الحيّز العام في لبنان والعالم العربي يتمّ التركيز على المفاجآت التي أربكت الإسرائيليين كعوامل رئيسيّة في تشكيل النتيجة النهائية، ولا سيّما أنواع الصواريخ (أرض ـ أرض وأرض ـ بحر) والأسلحة المضادة للدروع. ولكن قلّما نرى تقييمات موضوعيّة تنصف العامل الرئيسي في تحقيق الانتصار، وهو الالتحام المباشر. والالتحام المباشر حصل منذ اللحظات الأولى للعدوان في بلدة عيتا الشعب، ولكن في التقييم الإسرائيليّ أول الالتحامات المؤثّرة كانت في بلدة مارون الراس الحدوديّة. في بحثه لمركز الجيش الأميركي للأسلحة المشتركة، تحت عنوان «لقد أُخذنا على حين غرة: حرب 2006 حزب الله ـ إسرائيل»، يحدّد مات ماثيوز بداية العمل العسكريّ الإسرائيليّ البريّ في 17 تموز في بلدة مارون الراس. ويستند في بحثه إلى تقرير فينوغراد الشهير، فيشرح أنّ الهدف من احتلال مارون الراس كان تثبيت موطئ قدم للانطلاق نحو البلدات المحيطة، ويعدّد الوحدات التي دخلت تباعاً في معركة احتلال البلدة، ومنها: وحدات من «ماغلان» و«إيغوز» التابعتين للواء «غولاني» وكتيبة مشاة من المظليين، بالإضافة إلى المدرعات من ثلاثة ألوية مختلفة. ولكن هذه القوات، وبحسب سرد ماثيوز، لم تتمكن من السيطرة على البلدة حيث ازدادت ضراوة القتال في الأيام التالية، وفي انعكاس واضح لمسار المعركة أُعلن عن استدعاء قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيليّ في 21 تموز.
أما ثاني نقطة التحام مباشر يركّز عليها ماثيوز، فهي معركة مدينة بنت جبيل. ويسرد أنّه في ليل 24-25 تموز تمركز عناصر من لواء «غولاني» ومن لواء «35 مظليين» على أطراف بنت جبيل، وفي 25 تموز تقدم عناصر اللواء الـ35 الى الشمال الغربي للمدينة في محاولة تثبيت «موقع صد». وفي 26 منه تمكّنت الكتيبة 51 من لواء «غولاني» من المناورة والدخول الى المدينة من الشرق في ظل قصف مدفعي مكثّف، ولكن تحت وابل القصف المدفعي الإسرائيليّ تمكنت المقاومة من إدخال المزيد من المقاتلين الى المدينة، وأوقعوا القوّات الإسرائيليّة المتقدّمة في كمين عند الفجر. لا يكمل ماثيوز سرده لمجريات المعارك في مارون الراس وبنت جبيل إلى ما بعد أحداث الالتحام الأولى، ولكن بالعودة إلى يوميّات عدوان عام 2006 يمكننا أن نرى التحامات مباشرة في هذا المحور إلى آخر أيام الحرب. ويذكر موقع قناة «المنار» في سلسلة «يوميات الانتصار» (وهي سلسلة تستعرض يوميّات عدوان 2006 من إعداد منال ضاهر) أن يومي 24 و25 تموز شهدا قتالاً عنيفاً مع الوحدات الإسرائيلية الخاصة وسرية المظليين المصحوبين بمدرعات ودبابات على محور بنت جبيل ــ مارون الراس، أما في 26 من ذلك الشهر فيذكر الموقع أنّ اشتباكات عنيفة وقعت عند مثلث عيترون مارون الراس بنت جيبل (وهي منطقة شرق بنت جبيل) وكبّدت الإسرائيليّين خسائر كبيرة. هذا ويعدّد التقرير الاشتباكات العنيفة التي استمرّت في بنت جبيل ومحيطها حتى الثاني عشر من آب في داخل المدينة والثالث عشر في محيطها (عند أطراف بلدة عيترون). ويعترف ماثيوز نفسه أنّه مع حلول الخامس من آب لم تكن القوّات الإسرائيليّة قد أمّنت مارون الراس بعد، ولم تكن قد تقدّمت أكثر من أربعة أميال في العمق اللبناني، بتقدّم محصور في محور القتال المنطلق من مارون الراس نحو بنت جبيل، بينما وصل عديد جنوده على ضفتي الحدود إلى 30000 جندي (10000 منهم داخل الأراضي اللبنانيّة) في مقابل 3000 مقاوم (هذا الرقم الأخير مبالغ فيه).
بينما يشرح ماثيوز فشل الإنزالات التي صحبت الاندفاعة نحو الليطاني في الأيام الأخيرة من العدوان، لم يذكر في الفصل الذي خصّصه في بحثه عن الحرب البرّية، الكثير من الالتحامات الأخرى التي حصلت على طول الحدود، والتي كان لها أيضاً تأثير جوهري على مجرى الحرب. وقد يكون أهم هذه الالتحامات معركة عيتا الشعب التي بدأت من الساعات التالية لعمليّة الأسر ولم تنته إلا مع انتهاء الحرب في 13 آب، حيث كان آخر اشتباك عند محاولة تسلل قوّة إسرائيليّة إلى البلدة؛ علماً بأنّ العدو لم يتمكّن من الدخول إليها مطلقاً طوال فترة الحرب. وعمليّاً لم يتمكن العدو من الثبيت في أي منطقة دخلها، وبحسب ماثيوز، حتّى في نقاط الإنزال أصبحت القوات محاصرة بمجرّد وطئها الأرض وكانت ستتعرّض لكارثة عسكريّة لولا الإعلان عن وقف إطلاق النار. هذا الكم من الإنجاز لم يحصل بسبب تحصينات أو أسلحة متطوّرة، فيشرح ماثيوز انطباعاً إسرائيليّاً تشكّل منذ أول التحام في مارون الراس، حيث أذهلت الكفاءة التكتيكية للمقاومة ضباط وجنود العدو، فهي لم تتمترس وتستعمل التحصينات للدفاع عن الأرض، بل استعملت الأسلحة الخفيفة والهاون والصواريخ والمضاد للدروع (لا نتحدّث عن الكورنيت الذي لم يظهر إلا في الأيّام الأخيرة من الحرب بل عن ساغر وأسلحة أقدم منه) للمناورة ضد وحدات الجيش الإسرائيلي المتقدمة ومن ثم الانقضاض عليها. ويستشهد ماثيوز باقتباس لجندي إسرائيليّ قاتل في محور مارون الراس بنت جبيل حيث قال: «إنّهم لا يقاتلون مثلما توقعناهم، إنهم يقاتلون بصلابة أكثر على أرضهم».

عين جالوت أم خليج «هاكاتا»؟

الحقيقة أنّ هذه الصلابة هي الأساس، فلإظهار الكفاءة العالية في تنفيذ التكتيك في بنت جبيل ومارون الراس وعيتا الشعب وعيترون والعديسة والطيبة، وغيرها الكثير من القرى الحدوديّة في تموز وآب 2006، كان لا بدّ من الصمود تحت حمم نار أقوى آلة عسكريّة في المنطقة، حيث تحوّلت كل منطقة اشتباك إلى جحيم على الأرض بفعل القصف المدفعي والطيّران. كان على المقاومين في تلك القرى أن يتنقّلوا ويقاتلوا تحت رصد الطائرات من دون طيّار الإسرائيليّة التي لم تفارق سماء مناطق الاشتباك ولو للحظات، وكانت تلاحقهم صواريخ العدو على الطرقات وفي البساتين من جلّ إلى آخر وداخل المباني من غرفة إلى أخرى.
إذا ما أردنا أن نرسم خطوط تشابه بين معركتي عين جالوت وخليج هاكاتا من جهة وبين عدوان 2006 من جهة أخرى، يُمكننا القول إنّ المقاومة كانت تعرف عدوّها جيداً كما عرفه المماليك في عين جالوت. ولكن، على عكس المماليك، لم تكن إمكانيات وموارد المقاومة في حينه بأي شكل قريبة من إمكانيات وموارد إسرائيل. وفي المقابل، ظروف وشكل قتال المقاومة في ذلك العدوان كانت أشبه بتلك في معركة خليج هاكاتا، حيث قاتل المقاومون بدمائهم وجسارتهم. وتحت سماء مكشوفة قد تحمل لهم الموت في أية لحظة، أطلقوا الصواريخ وكمنوا ودمّروا دبّابات الميركافا الواحدة تلو الأخرى، والتحموا بسلاحهم الخفيف مع قوات تفوقهم عديداً وتسليحاً تسير بحماية أكثر المدرّعات رعباً في العالم، ليُنهوا أسطورة جيش لا يُهزم، كان قد كوى وعي العرب لعقود، وسطوة غاز أميركيّ، كان قد جمع عالمه الجديد كلّه لسحق مقاومة تتألّف من بضعة آلاف من الرجال.
في تموز وآب من عام 2006 حافظ مئات من المقاومين على «الوضع القائم» الذي سمح لكلّ المنطقة بتحدّي ورفض عالم جديد أراد لأهلها أن يكونوا خاضعين فيه «لهدية الله» على يدي الرئيس بوش. التحموا مع العدو ومنعوه من أن يؤمّن أيّ موطئ قدم، ولو بضعة كيلومترات مربّعة، بعد أن كان هدفه سحق مقاومتهم. فكان لنا نصراً إلهيّاً مهّد لوقف مدّ العالم الجديد في منطقتنا.
* باحث لبناني