جاء الإعلان المفاجئ عن التفاهمات التي حصلت في القاهرة بين الحكومة المصرية ووفد قيادة حماس، ومن ثم مع وفد قيادة فتح (السلطة)، ليضع مجدداً قاطرة «الانقسام» الفلسطيني على سكة الحوارات الداخلية المشمولة والمحاطة بالرعاية الرسمية/ الأمنية المصرية. يأتي هذا على أمل الوصول إلى محطتها النهائية في تحقيق المصالحة بين الحركتين والسلطتين، والتي ستنعكس بالتالي على عموم البيت الفلسطيني بقواه الفصائلية ومكوناته المجتمعية.
ما زال صدى المفاجأة يتردّد في المشهد السياسي الفلسطيني، ويحتل المركز الأول بالاهتمامات، إلى أن جاءت رصاصات الفدائي الاستشهادي نمر محمود أحمد جمل، والتي أردت ثلاثة قتلى من جنود الاحتلال، لتؤكد مجدداً لكل المتفاهمين والمراقبين والداعمين، وقبلهم جميعاً الغزاة المحتلين، أن الطريق الوحيد لاستعادة الوحدة، هو وضوح الموقف من العدو المحتل وضرورة إدامة الاشتباك معه. وبحكم التجربة، فإن أي اتفاق لا ينطلق من برنامج سياسي كفاحي، لا يعدو كونه تكراراً واجتراراً لتجارب سابقة باءت بالفشل.

مأزق الأطراف المشاركة وحاجتها إلى التوافق

كان الإعلان عن التزام حماس بحل اللجنة الإدارية، والذي كان ضمن البند الأول في شروط حركة فتح (السلطة) للبدء برفع العقوبات والتوجه إلى الحوار، إشارة البدء بفتح بوابة العبور باتجاه تحقيق طلبات سلطة رام الله المحتلة، للبدء بأيّ خطوة تصالحية مع الحركة. وأتى هذا الإجراء ضرورياً لوقف وإلغاء كل أشكال العقاب الذي لحق بالشعب المحاصر في القطاع، وليس بسلطة حماس فقط، نتيجة القرارات المجحفة التي أصدرتها حكومة رامي الحمدالله.

انهيار رهانات حماس على استمرار دورها المتفرّد بالقطاع
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كل ذلك – الإعلان والاستجابة – لم يكن له أن يتحقق من دون دور مصري فاعل ومؤثر بل ومقرر، جاءت مقدماته منذ أن بدأت القاهرة برعاية تفاهمات حماس ودحلان («التيار الإصلاحي في فتح» كما يسميه أصحابه). هذه الرعاية حرّكت المخاوف في غرف المقاطعة في رام الله المحتلة من سيناريو مختلف هذه المرة، سيأخذ القطاع بعيداً عما تريده فتح برعاية مصرية!
لكن الخطوة المصرية الحالية، والمدعومة بالتوافقات مع الإمارات والسعودية في تعزيز خطوات التنسيق بين حماس ودحلان، كانت مرسومة بدقة، بحيث تقلل من تفرد وتشدد محمود عباس وطاقمه تجاه غزة (سلطة وشعباً)، وتعطي لحماس إمكانية التخفيف من أثر سياسات الضغط الاقتصادية والحياتية التي تمارسها السلطة. وقد ترافق كل ذلك مع عدة عوامل ساعدت على استجابة الحركتين للمبادرة المصرية والتي يمكن الإشارة إلى أهمها:
ـ رفع الفيتو الأميركي والإسرائيلي عن إنهاء الانقسام والبدء بإجراءات وحوارات تقود إلى المصالحة، كما جاء في حديث القيادي في حركة حماس موسى أبو مرزوق لتلفزيون القدس بعد الإعلان عن التفاهمات. وهذا يشير إلى وجود الطرفين ــ الأميركي والإسرائيلي ــ كضامنين غير معلنين.
ـ انسداد الأفق، وهذا ليس جديداً، بوجه المتحمسين على التمسك باتفاق أوسلو في رام الله، ووصول أولئك إلى حائط مسدود بحيث تتساقط كل يوم رهاناتهم على الدور الأميركي وتوابعه الغربية.
ـ الحصار المطبق على قطاع غزة وعلى قيادة حماس، بما ينعكس على وضع اقتصادي سيئ جداً، تتولد عنه وترتبط به أزمات اجتماعية تقترب من لحظة انفجار لا يستطيع أحد التنبؤ بنتائجها.
ـ انهيار رهانات حماس على استمرار دورها المتفرد بالقطاع بعد الهزائم المتلاحقة التي أصابت قواها الداعمة (سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وتعثّر وفشل مشروع الإخوان في سوريا، ثم انكفاء الدور القطري والتركي بعد مؤتمر الرياض الذي وضعت فيه إدارة ترامب أسس التوجهات القادمة، والتي ظهرت مفاعيله بالأزمة الخليجية مع قطر).
ـ حرص مصر على عودتها إلى الإمساك بالملف الفلسطيني وسحبه من التداول والتحكم به من قبل قطر أو تركيا انطلاقاً من إعادة الاعتبار لدورها ومكانتها الإقليمية وموقعها الجغرافي. كما أن طبيعة المعركة الدائرة مع الإرهاب الفاشي في محافظة سيناء، ومن ثم امتداداته في المحافظات الأخرى، تتطلب من القيادة السياسية والعسكرية والأمنية ــ كشرط لتحصين الأمن القومي المصري ــ التعامل مع قطاع غزة وحماس من أجل ضمان أمن الحدود المشتركة وتحسين شروط الحياة الإنسانية الكريمة في القطاع، خوفاً من وصول درجة الأزمة داخله إلى لحظة الانفجار الذي ستصيب حممه الجار المصري.

بطء بالحركة وتسارع بالأزمات

مع وصول وفد حكومة رام الله إلى غزة، لا تزال تنتاب المواطن في القطاع أولاً، وأبناء الشعب الفلسطيني كافة، حالة من القلق لبطء الإجراءات التي تتحكم بحكومة الحمدالله وقيادة المقاطعة، وخاصة بعد تصريحات جمال محيسن عضو اللجنة المركزية في حركة فتح، لتلفزيون فلسطين قبل عدة أيام، والتي قال فيها إن "القرارات التي اتخذها الرئيس محمود عباس لن ترفع إلا بعد تمكين عمل الحكومة بالكامل". والمخاوف لم تأت فقط من «تمكين عمل الحكومة» العبارة الملتبسة حمالة الأوجه، بل من كلامه عن أن "قرار السلم والحرب تحدده القيادة الفلسطينية بقيادة الرئيس أبو مازن، وليس من حق أي حزب أن يتخذ هذا القرار". اللافت هنا أن ذات الكلام عن قرار السلم والحرب جاء على لسان القيادي في حركة حماس موسى أبو مرزوق في مقابلة مع مراسل جريدة الحياة اللندنية في موسكو بتاريخ 22/09/2017، إذ اعتبر أن "قرار الحرب والسلام مسؤولية وطنية وقرار جماعي، وحماس مستعدة لالتزام المسؤوليات الوطنية... والحركة مستعدة لتقاسم المسؤولية عن قرار الحرب والسلام بشكل إيجابي". هنا لا بد من تفكيك ما جاء في حديثَي المسؤولَيْن في الحركتين، من أجل الوصول الى جواب عن سؤال يفرض ذاته على كل المتفائلين بقرب المصالحة وهو: أن قيادة سلطة المقاطعة في رام الله المحتلة، والملتزمة باتفاق إعلان المبادئ ــ «اتفاق أوسلو» ــ وبكل ما نتج منه ويرتبط به أمنياً ــ «التنسيق الأمني» ــ واقتصادياً، لها موقف معلن تجاه المقاومة المسلحة خاصة، وأن الكلام المتكرر عن السلاح المقاوم ــ وحتى سكاكين الطعن ــ في أحاديث قادة السلطة لا يحتاج إلى تفسير. إذاً، أي «قرارات حرب» يمكن لهذه السلطة الناتجة من التفاهمات أن تقررها؟
إن التوصل إلى حل القضايا العالقة في كل التفاهمات والاتفاقات السابقة بين الحركتين، والتي شكلت عقبات جدية في آلية التنفيذ، كموضوع الأجهزة الأمنية والعديد من القضايا الإدارية، كالوظائف الرئيسية وتقاسم كوتا التوظيف ومؤسسات المنظمة ــ «لجنة تنفيذية ومجلس وطني ومجلس تشريعي» ــ التي تحتاج إلى إعادة تجديد وإنعاش بعدما انتهت صلاحيتها القانونية، كما منصب الرئيس، يجب أن تسبقها وقفة نقدية تساهم فيها ورشات عمل تحضرها، بجانب الفصائل، قوى شعبية وطنية (هيئات وشخصيات وإطارات شبابية مناضلة) لإسقاط اتفاق أوسلو – الذي لم تتعامل معه حكومات العدو ولم تعترف ببنوده ــ وسحب الاعتراف بالكيان. وذلك من أجل توفير أرضية صلبة للانطلاق بالحوار من مواقف واضحة لا تقبل التأويل، وبالتالي الوصول الى صياغة برنامج سياسي وطني، وكفاحي يشكل المنارة التي تنير طريق النضال بكل أشكاله.
في ظل هذا المشهد، يتأكد الحضور الميداني والكفاحي لقوى الحراك الشعبي داخل الضفة والقدس المحتلتين، والذي أكدته دماء وبطولات شابات وشباب الهبّة الشعبية التي تتجدد في كل مرحلة، كما حدث أخيراً في معركة البوابات حول المسجد الأقصى، وكما هو متوقع في المعركة الجديدة المنتظرة في مدينة الخليل. هذا الحضور، هو الذي سيقرر مع عوامل أخرى، مسارات النضال الوطني ومآلاته.
* كاتب فلسطيني