بعد مرور ثلاثة أشهر على انتهاء عدوان تموز في عام 2006، كنت عائداً عصر يوم خريفيّ من مدينة جبيل، بعدما لبيت دعوة صديقي الوزير السابق جان لوي قرداحي إلى الغداء، فخطر ببالي استغلال وجودي في المنطقة لأتوجّه إلى الصرح البطريركيّ المارونيّ في بكركي لإلقاء التحية على سيده الصديق الكبير البطريرك نصر الله صفير. عند وصولي إلى بكركي استقبلني الأب ميشال عويط بقامته الممشوقة وابتسامته الهادئة.
اعتذرت منه لكوني قدمت من دون موعد مسبق. وقلت له إنني أرغب في إلقاء التحية على غبطته والسلام عليه لخمس دقائق فقط، ولا أريد أن أزعجه أو أعدّل في جدول مواعيده وارتباطاته. أجابني الأب عويط، وكانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف عصراً، بأنّ غبطته يلتقي في هذه الأثناء قائد الجيش (آنذاك) العماد ميشال سليمان، وبعده لا يوجد لديه مواعيد. واصطحبني الأب عويط إلى الصالون المجاور لقاعة الاستقبالات، حيث كان مدير المخابرات آنذاك العميد جورج خوري في انتظار قائده. بعد دقائق ظهر البطريرك صفير يسير في ممر الصرح مودعاً ضيفَه، وبعدها اقترب مني واصطحبني معه إلى مكتبه الخاص المطلّ على الحديقة الخلفيّة للصرح، والوديان الخضراء المحيطة به. قبل أن نتبادل الأحاديث، خاطبني غبطته قائلاً: «إذا كنت غير مشغول، أدعوك للبقاء حتى تشاركنا العشاء»، اعتذرت منه لارتباطي بموعد سابق، وشكرته على لفتته الكريمة. فقال لي: «أنت تحبّ أن تتمشىّ في حديقة الصرح، فما رأيك لو ننزل معاً إلى الحديقة قبل العشاء في هذا اليوم الخريفي الجميل؟».
نزلنا إلى الحديقة، وما لبث أن بادرني غبطته بانفعال: «صاحبك السيد حسن (نصر الله) قال (يقصد حديث السيد نصر الله لتلفزيون الجديد بعد أسابيع من انتهاء عدوان تموز) إنه لو كان يعرف أنّ ردّ فعل إسرائيل سيكون هيك ما كان قام بالعملية (يقصد خطف الجنود الاسرائيليين). معقول هالكلام غير المسؤول؟».
وأضاف غبطته قائلاً لي بانفعال: «إسرائيل دمرت البلد ببناه التحتية وجسوره، والدولة مفلسة، ومين بدو يدفع للناس التي دمرت منازلها وأرزاقها».
أجبته: «أنا غير موافق على ما تقوله. إسرائيل هُزمت ولبنان انتصر، وهذا الدمار يعوَّض أمام الكرامة الوطنية التي حصّنها السيد نصر الله بدماء شهداء المقاومة الذين أعطوا العزّ للبنان ورفعوا رأس اللبنانيين». فردّ البطريرك: «ولكن يا أستاذ عماد، البلد دُمِّر والدولة مفلسة، شو بينفعنا هيدا الحكي الحلو».
أجبته: «أتوقّع هذا الكلام من كل الناس إلّا منك، لأنّ غبطتك يجب أن تكون منشرحاً، فهذا النصر الذي حققته المقاومة أهداه سيدها إلى كل اللبنانيين. وأنت تعرف أن فريقاً سياسيّاً وازناً في البلد من بعض جماعات 14 آذار كان يتآمر على المقاومة. وهذا الفريق هو الذي يتحمل مسؤولية دمار البلد ببناه التحتية وجسوره وخراب بيوت الناس وتشريد أهل الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. وهذا الفريق هو الذي كان يشجّع على هذا العدوان الواسع على لبنان قبل حصوله من أجل ضرب المقاومة وتدمير مناطق حاضنتها الشعبية وتشريد أهلها. وإذا كان هناك من مسؤولية تقع على دمار البلد، فإنها تقع على هذا الفريق السياسيّ الوازن الذي أنت معه وتؤيده. وإذا كان هناك من محاسبة، فإن المحاسبة يجب أن تطاول هذا الفريق السياسي الوازن الذي يتحمّل كلّ المسؤولية عن عدوان إسرائيل على لبنان، لا حزب الله. وإسرائيل جعلت من خطف جنودها حجّة لتباشر عدوانها، وهي كانت تُعدّ له قبل أشهر بمعرفة بعض أصحابك من جماعة «14 آذار».

أدعو البطريرك إلى إقامة قداس على نية شهداء المقاومة والجيش


هنا قال لي غبطته: «ما بعرف إذا هالشي صح أو مش صح، ولكن كان على حزب الله ألا يعطيهم هذه الحجة أو الذريعة». فأجبت غبطته: «إسرائيل ليست بحاجة لمن يعطيها ذريعة لقيامها بالعدوان علينا، فهي دولة مغتصبة لفلسطين، وتحتل الجولان ومزارع شبعا، ويحقّ لرجال المقاومة وكلّ الشرفاء الوطنيين، مسلمين ومسيحيين، أن يتصدّوا لعدوانها واحتلالها. وهي في اغتصابها لفلسطين تصلب السيد المسيح كل يوم عبر التنكيل بالشعب الفلسطيني. ومع استمرار احتلالها لأرضنا في الجولان ومزارع شبعا تستمرّ في مصادرة كرامتنا الوطنيّة وهويتنا القوميّة. لقد آن الأوان لوضع حدّ لغطرسة إسرائيل التي حولها السيد نصر الله إلى دولة كرتون بفضل مجاهديه الأبطال، ونحن قادرون بوحدتنا وإرادتنا أن ننتصر عليها ونعيد الحق لنا ولأولادنا وأجيالنا من بعدنا».
هنا قال لي غبطته: «ولكن على الشيعة أن يلقوا سلاحهم ويعطوه للجيش اللبناني، لا يجوز أن يبقى فريق من اللبنانيين خارج الشرعية فاتح على حسابه وله أجندات خارجيّة لا علاقة لها بلبنان». أجبت غبطته: «أنا هنا مجدداً أخالفك الرأي. إن الشيعة في لبنان ليسوا خارج الشرعية، بل إنّ الشيعة في لبنان هم الذين صانوا الشرعية وحموا مؤسساتها، ولا سيما الجيش اللبناني».
خلال الحرب الأهلية، صان الشيعة الشرعية من خلال رئيس مجلس النواب السيد حسين الحسيني، ورئيس حركة أمل نبيه بري. وهم يستمرون الآن في حماية لبنان وشرعيته عبر الرئيس بري وحزب الله. الشيعة حرروا الجنوب عام 2000، وأهدوا هذا التحرير لكل اللبنانيين مسلمين ومسيحيين. ويُعَدّون ــ برأيي ــ أبطالَ الاستقلال الثاني للبنان، عنيت به تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي.
وأضفت مخاطباً غبطته: «إن إنجاز تحرير عام 2000 الذي تحقّق بسواعد رجال المقاومة وقبضاتهم هو الذي سهّل لغبطتك إصدار بيان مجلس البطاركة الشهير عام 2001 الذي طالب بالانسحاب السوري من لبنان والذي تحقق عام 2005. وما كان الانسحاب السوري من لبنان ليتم حتى لو اغتيل الرئيس رفيق الحريري، لو لم يحرّر حزب الله ومجاهدو مقاومته الأبطال الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000».
وتابعت قائلاً لغبطته: «إن ما حققه مجاهدو المقاومة خلال عدوان تموز هو نصر مشرّف للبنان يجب أن يُكافأ عليه حزب الله ومقاومته بدل إطلاق السهام عليهم. وأنا اتمنى على غبطتك أن تقيم قداساً في بكركي على نية شهداء المقاومة والجيش اللبناني على غرار القداس السنوي الذي تقيمه على نية فرنسا».
أجابني غبطته بعبسة وتعجّب قائلاً: «قداس على نية شهداء حزب الله؟ أجبته: نعم نعم. لأنّ هذا الانتصار الكبير الذي حققه رجال المقاومة سيحفظ مسيحيي لبنان والمشرق العربي وستقرع أجراس الكنائس في القدس العتيقة ويعيدها إلى مجدها وعزّها. وقريباً سيعود المسيحيون والمسلمون للحج معاً إلى القدس بفضل سواعد المقاومين الأبطال».
أجابني غبطته: «كلامك هذا مثل كلام أصحابك (إميل) لحود و(ميشال) عون: قلت له: معادلة الرئيس لحود الذهبية: الجيش والشعب والمقاومة حررت لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. ومعادلة الرئيس عون التي أرساها في ورقة التفاهم مع حزب الله، هي التي حمت لبنان ورسّخت الوجود المسيحيّ المشرقيّ في أرضه، الذي تسعى إسرائيل إلى تهجيره، لأن مسيحيي لبنان والمشرق، هم الذين يذكرون العالم بصلب اليهود للسيد المسيح. فكان كل من الرئيسين لحود وعون على حق في تفاهمهما مع السيد نصر الله، لأنهما ــ كلٌّ من موقعه ــ حَمَيا لبنان، والرئيسان لحود وعون ساهما في حماية الوجود المسيحيّ المشرقيّ». وأضفت قائلاً: «أريد أن أذكّرك بلقائنا قبل الانتخابات النيابية عام 2000 بأشهر قليلة عندما زرتك موفداً رسميّاً من قبل الرئيس لحود، ونقلت لك رسالة منه، مفادها أنه كان قد طلب من دائرة الإحصاء المركزيّ إحصاء عدد الناخبين المسيحيين في لبنان، في معرض إحصاءات أشمل كان قد طلبها يومذاك. وكانت المفاجأة أنّ نسبة المسيحيين تساوي 23 في المئة من إجمال عدد الناخبين اللبنانيين. فطلب مني فخامته يومها أن أنقلها إلى غبطتك، طالباً مني إبلاغك بأنّ المصلحة الوحيدة للمسيحيين في ضوء هذه الإحصاءات تكمن في تعزيز المواطنة والذهاب نحو تكريس «الهوية الوطنية» بدلاً من البحث عن حصة مذهبية لهم في «نظام سياسي طائفي متهالك لم يعد بمقدوره أن يستمرّ أو أن يحميهم».
لاذ غبطته بالصمت، ولم يعلّق على كلامي، وغادرت حديقة الصرح بعدما حان وقت العشاء.
قررت أن أنشر محضر لقائي مع البطريرك صفير، أطال الله بعمره، لمناسبة التحرير الثاني أيضاً الذي حققه أبطال المقاومة ومجاهدو حزب الله الشرفاء قبل أسابيع على العدوّ التكفيريّ الذي لا يقلّ خطراً وإرهاباً عن العدوّ الإسرائيلي، لأقول إنه إذا كنت شخصيّاً قد أطلقت على تحرير عام 2000 خلال حديثي مع البطريرك صفير أنه «الاستقلال الثاني» للبنان الذي حققته سواعد أبطال المقاومة، فإنني أرى أن انتصار المقاومة على الإرهاب التكفيريّ في تموز 2017، هو أيضاً «الاستقلال الثالث» للبنان الذي تحقق بسواعد المقاومين الأبطال. والأصوات التي خرجت مشككة في النصر على التكفيريين الذي حققته المقاومة والجيش اللبناني لم تكن محقة في موقفها هذا، لأن هذا الانتصار ثبّت «المعادلة الذهبية» المثلثة الأضلاع التي أرساها الرئيس إميل لحود والقائمة على: الجيش والشعب والمقاومة والتي أضاف إليها سماحة السيد حسن نصر الله أخيراً الجيش السوري البطل، لتصبح «معادلة ذهبية» مربعة الأضلاع تحمي لبنان وسوريا معاً من العدوين الإسرائيلي والتكفيري.
من هنا أدعو سيد بكركي الحالي الصديق العزيز البطريرك بشارة الراعي إلى التجاوب معي في الدعوة التي كنت قد طلبتها من البطريرك صفير في خريف عام 2006 بإقامة قداس في بكركي أو الديمان على نية شهداء المقاومة ومجاهديها الذين يسجلون مع الجيش اللبناني قيادة وأفراداً ومع الشعب اللبناني الأبيّ ملاحم البطولة والعزة. وأدعو أيضاً كل بطاركة الكنائس المسيحية أيضاً إلى التجاوب مع دعوتي لإقامة قداس على نية رجال المقاومة والجيش اللبناني معاً.
* مستشار سابق
في رئاستي الجمهورية والحكومة