هناك أيام من التاريخ... لها تاريخ؛ ومن مكره أن بعضها قدَريّ السمات، وكأن حبلاً سرياً يصل بين ميلاد أو غياب شخص «عام» وبين حدث مأساوي، أو ربما بهيج، طبع بصمته فوق سيرته على مدى الزمان.28 أيلول 1961 هو أحد يومين هما الأشد قتامة في حياة عبد الناصر؛ الثاني هو 5 حزيران 1967. والحال أن الأول هو الميْل الأول على طريق الوصول إلى الثاني، بل لولاه لما كان ذلك الثاني... ثم جاءت مفارقة التواقت لتكثّف ذلك المدلول.
ما ضاعف من إيلام يوم الانفصال عند عبد الناصر كان فرط تعلقه بالإقليم «المنفصل» عن سواه من بلاد العرب، وبما يعدُل حبّه لإقليمه الأم بل ربما يفيض.

والحاصل أن ذلك اليوم من التاريخ لم يكن – بكل شواهد وقرائن، بل وأدلة الوقائع - منتوىً له، ممن تحركوا فيه، أن ينتهي بانفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة... فمثلاً: تقول الوثائق الغربية إنّ مفاجأة حكوماتها بالحدث كانت كاملة، وكذلك كانت حال الملك حسين الذي حاولت أجهزته قبل عام ــ إثر اغتيال رئيس حكومته هزاع المجالي ــ التواصل مع ضباط وضباط صف، عاملين ومسرّحين، بأمل قيامهم بانقلاب على الوحدة... وفشل المسعى. ثم إن الثابت هو أن أياً من ضباط الانقلاب الـ37 لم تظهر عليه آثار نعمة طارئة، لا وقته ولا بعده.
لكنّ مكر التاريخ يشهد على كيف أن محصلة اجتماع الخفّة والحنَق والرعونة والسطحية كفيلةٌ بأن تُجاوز قصد التآمر والتخابر أذىً وإيذاءً.
هم ضباط أصاغر اعتملت في نفوسهم عوامل السخط على معاملة ضباط مصريين منتدبين لهم باستعلاء وكِبَر، وعزموا ــ منذ صيف 1961 ــ على القيام بحركة عسكرية تزيل من أمامهم من يرَونه من ذلك الصنف... مكثوا يدبّرون أمرهم شهوراً ثلاثة جنّدوا فيها مقدّماً ــ هو نائب مدير شؤون الضباط، المصري ــ لقيادتهم، والذي بدوره فاتح في ــ الآونة السابقة على التحرك ــ عدداً ممن هم أرفع منه رتبةً حتى يكتمل بهم نصاب الحركة.
بداية تحرك «الأصاغر» سبقت قرارات التأميم في تموز وتوحيد الحكومة في آب (كلاهما كان غير موفّق)، لكنه تسارع مع تفجّر الصراع بين عبد الحكيم عامر وعبد الحميد السراج ــ ما بين أواخر آب إلى نهايات أيلول ــ كونه شكّل الفرصة الأعظم سنوحاً للنفاذ إلى الفوز.
توافرت لعامر فرصة إنذار ثمينة دامت شهرين بحالهما، عندما علم هاني الهندي ــ وقريبه مهيب كان من نفّذ الانقلاب لاحقاً ــ في تموز بما يدبّر في ليل، فأخطر عامر والسراج: الأول اعتبر المعلومة كيدية ومن أحابيل الثاني، إذ فيها أسماء موثوقي عامر (وهم أنفسهم أصحاب الانقلاب!)، والثاني أشار على الهندي بإيصالها إلى عبد الناصر مباشرةً، وفعل... لكن تحرّي عبد الناصر كان بإحالة المعلومة إلى عامر للتحقق من صحتها!
كان الأسبوع الثالث من أيلول زاخراً بمشاهد الصراع المستعر بين عامر والسراج، والذي وصل حدّ «نفي» مرؤوسي السراج من ضباط المخابرات إلى القاهرة قبالة تحرك النقابات والتنظيم السياسي احتجاجاً على تدابير الأول.
استدعى عبد الناصر الرجلين مرتين إلى القاهرة: لم يستطع في الأولى – 18 أيلول – إقناع السراج بمزاولة عمله نائباً له من القاهرة بغية إفساح المجال لعامر كي يمارس سلطاته نائباً من دمشق... ثم وصل الأمر في الثانية أن أصرّ السراج على الاستقالة والعودة للإقامة في دمشق – 22 أيلول. كانت رسالة الاستقالة من سطر واحد يقول: «أُهنت، فلم تحمني ممن أهانني، وعليه أستقيل». منذ ذلك التاريخ وطريق أيّ انقلاب أو تآمر أو اضطراب قد فُتح عريضاً، وقد كان.
ما فاقم من جلل ما وقع في ذلك اليوم البائس كان سوء إدارة الأزمة الطارئة، من أولى لحظاتها وطيلة ساعاتها الخمس عشرة، ولعل استعراض شريط الحوادث بتكثيفٍ يجلو المقصد:
لم يُخطر عبد الحكيم عامر قائده الأعلى ــ رئيس الجمهورية بحدوث اضطراب عسكري حول دمشق وفيها حال تلمّسه في حدود الثانية فجراً، بل وعلى مدى ساعات خمس ثمينة، إذ لكان منطق الأمور أن يهرع عبد الناصر الى دمشق ليعالج الأمر بنفسه، وهو الذي له من المكانة والقدْر ما تحتاج إليه أزمة وجودية كتلك. كذلك ليس مبرراً القولُ بمخاطر رحلة كهذه، فطائرة يوغوسلافية مثلاً كان يمكن أن تكون طوع بنانه ضمانة أمن.
ثم لما عقد عبد الحكيم عامر اتفاقه مع ضباط الانقلاب في ساعات الصباح الباكر، كان عليه أن يحصل من عبد الناصر على تفويض بالبتّ وفق ما يمليه واقع الحال، وأن يقنعه بتأجيل إلقاء خطابٍ إلى حين التثبّت من ترتيبات حل الأزمة.
ما جرى هو أن بعض الوزراء العسكريين السوريين الذين اشترط ضباط الانقلاب إبعادهم إلى القاهرة في الصباح، صوّروا لعبد الناصر الأمر وكأن استخدام القوة لإفشال الحركة هو السبيل المتاح والأمثل... ولم يكن ذلك دقيقاً.
كانت «التسوية» التي توصل إليها عامر مع لولب الحركة: عبد الكريم النحلاوي ــ من أقرب موثوقيه ــ (مصحوباً بعدد من العمداء تبنّوا الحركة قبل برهة من موعدها) عسكرية الطابع (تغيير قيادة الجيش السوري ــ الأول ــ، وتنقلات ضباط، وإلغاء تبادل ضباط الإقليميْن)، ولم تتطرق إلى مسائل الاشتراكية ولا الحريات ولا شيء من هذا القبيل... الأمر «المدني» الوحيد الذي حرص ضباط الحركة على استجلائه كان موجودات ذهب البنك المركزي السوري، وأكد لهم عامر أنها في دمشق.
في المقابل، كان طيشاً غير مبرر إشهار الحركة في نشرة الأخبار الأولى، حوالى السابعة صباحاً، ثم تكراره... إذ، حتى بمنطقهم، كان بالإمكان الاكتفاء بالسيطرة على الإذاعة وحسب.
ما جرى هو أن تسوية الصباح، التي أُشهرت في الواحدة بعد الظهر، لاقت حتفها بعد هنيهة لم تزد على ساعة أو ساعتين. صحيحٌ أن تمرداً عسكرياً أمرٌ ليس في مقدور حاكمٍ ملاينته وإلا ضاعت هيبة الحكم وذهب التمرد مثَلاً، لكن الحالة السورية يومذاك كانت غير تقليدية بامتياز: وحدةٌ بين قطرين لا تماسّ جغرافياً بينهما، بل وكالإسفين بينهما عدوّ الكل: إسرائيل، فضلاً عن أن الأسابيع السابقة حفلت بكل ضروب الشقاق والتنازع في قلب مؤسسة الحكم، ومن ثم فإكسيرٌ من الحضور والكياسة والحزم كان كفيلاً بمقاربةٍ تحفّظ الوحدة قبل أيّ شيء وبعده.
التراوح والمراوحة أطال الأزمة وتسبّب في انفلات الأعصاب وتشنّج العقول؛ فمثلاً كان للبلاغ التاسع (إعلان تسوية الأزمة) فعل تململ بين سلك الضباط السوريين نحو من تصدّر (37 ضابطاً، معظمهم دماشقة) الواجهة، وهو ما أدى ببعض أولئك إلى الضغط باتجاه التشدد قبل أن يفلت «الملقّ» ويخرج الأمر برمّته من بين أيديهم.
هو مشهد سوريالي، عجائبي، مأساوي، ذاك الذي ارتسم على ملامح دمشق يومها:
ضباطٌ لم يدركوا جيداً فداحة ما تورطوا فيه، وقيادةٌ تفتت بين عسكريٍ ــ على الأرض ــ أراد لملمة المسألة بسرعة حالما أدرك وقع ما حوله، وتصرف نحوه بمعقولية، لكنه أهمل ما كان ينبغي من تنسيق مبكّر مع رئيس البلاد، الذي كان لمسارعته في الحضور ــ لو تمّ ــ فعل السحر، ثم لم يحُز منه ــ بعد هذا التأخر ــ تفويضاً بالبتّ، لحرجه من هوية الانقلابيين (ركبه الحرج ولوم النفس لمّا اكتشف أن لولب الانقلاب هو «كاتم أسراره»)، وبين سياسيٍ ــ عن بُعد ــ يرى في تمرد ضباطٍ على دولة الوحدة عملاً لا يجوز نحوه إلا الحسم بالقوة: مبدأ ــ من حيث المبدأ ــ لا تثريب عليه، لكن هناك لحالاتٍ استثنائية كهذه خصائص واعتبارات.
والثابت أن النحلاوي قد طلب من عامر حين مغادرته دمشق في الخامسة من عصر ذلك اليوم الكارثي أن يحضُر الى القاهرة للقاء رئيسه وقائده (حسب وصفه) عبد الناصر، ولحل الأزمة والحفاظ على الوحدة، وفعلاً حاول عامر إقناع عبد الناصر بالأمر، لكنه رفض.
بعدها بشهرين ونيّف، أوفد النحلاوي بعضاً من زمرته إلى القاهرة أملاً في فرصة استماع، فلم تلقَ إيجاباً توخّته، فأعادت الكرة في يناير 62 مع إصرارٍ على لقاء عبد الناصر لا يلين.
كان اللقاء فرصة للصفح والغفران، لكنه لم يتعدَّ ذلك إلى ما أملته زمرة أيلول من عودة سريعة للوحدة. لكن وقائع الربع الأول من ذلك العام شهدت إلغاء اليمين السوري لقرارات تأميم تموز 61، ثم هجوم عبد الناصر الضاري على ذلك اليمين بتهمٍ دامغة بالعمالة لبعض أقطابه، ثم انتفاع النحلاوي من حجّة الظَرفين للقيام بانقلاب يحاول به غسل عار الانفصال عنه، وييمّم به شطرَ القاهرة مقبولاً هذه المرة.
حدث ذلك بعد ستة شهور منه: 28 آذار 62. لكن خفّة المدبِّر (مجسّدةً في تيمّنه بانقلابه الأول، وسلسلته بلاغات الثاني بتوالٍ معه) وتفرّد الضباط الوحدويين ــ بالتحالف مع البعثيين ــ بالعمل من خارج سبيل النحلاوي بل وبالضد منه، قاد الى متواليةٍ هزلية ــ مبكية في حمص وحلب، ما بين 30 آذار و2 نيسان، انتهت بتوافق كل الأطراف على الخلاص من النحلاوي وزمرته.
لم تكن وحدة مصر وسوريا في 1958 فعلاً أخرق خارجاً عن ناموس الجغراسياسة، بل هو كان تحدي الاستجابة لضروراتها عند لحظة تاريخية فارقة في حياة المنطقة، عنت في الصدارة حفظ سلامة سوريا. ما كان ينبغي أن تنتهي بانفصال، مهما كانت التعلّات والمعاذير، ليس عن حماسة وجدان بل عن ضرورة حساب.
صحيحٌ أن اندماجية بنيانها بدلاً من اتحاديته: حكومة مركزية يرأسها رئيس الجمهورية وقبالته مجلس أمة من حجرتين: واحدة من عدد أعضاء متساوٍ عن كل إقليم ــ ويرأسه النائب الوحيد لرئيس الجمهورية ــ وثانيةٌ من أعضاء يتحدد عددهم نسبةً إلى عدد سكان كل إقليم... ثم لكل إقليمٍ مجلسٌ وزاري قبالته مجلس تمثيلي منتخب، ثم هزال التنظيم السياسي الوحيد عن توفير جبهة ائتلاف شعبي: تضم البعث والقوميين العرب وقوميي الشيوعيين ومستنيري الاسلاميين وتقدميي الوطني والشعب تتمتع بفعالية المشاركة السياسية، ثم تغوّل جهازي المخابرات والمباحث بما تجاوز سقف دوريهما بقدْر، ثم مقايسة الاقتصاد السياسي لسوريا على نظيره المصري واختطاط نهج تأميمي غير مبرر في ضوء سياقات الاجتماع السوري، وأخيراً آخر الأثافي: توحيد حكومتي الإقليمين في واحدة... كلها كانت من عوامل الحتّ والتعرية التي نخرت في جسد نظام الوحدة، لكن أمراض الوحدة لا تُعالج بالانفصال، بل بمزيد من تمتين أواصرها عبر تقويم مثالب إدارتها.
ذات يوم من مطالع 1960، شنّت إسرائيل هجوماً كبيراً على جبهة الجولان (في قطاع التوافيق) وتحت ستار كثيف من السكون تحركت فرقتان عبر القنال إلى سيناء لتنضما إلى ثالثة مقيمة فيها، وليحتشدوا على مقربة من خط الهدنة الفاصل تأهّباً لإنجاد إقليم الشمال ــ سوريا... أُخذ بن غوريون على حين غرّة وطار صوابه من وقع المفاجأتين الاستراتيجية والتكتيكية، فما كان منه إلا أن بلع كبرياءه وخفض جناح الذلّ من المسكنة وقفل أدراجه عائداً و... خائباً.
ليت ذات المسار كان ما اتُّبع بعدها بأعوام سبعة! لكن الدرس المستفاد بجلاء هو أن نجاح 60 كان لوجود وحدة، وفشل 67 كان لغيابها.