عام 2006، نشر المؤرخ البريطاني بيري اندرسون كتابه عن الهند، وهو جزء من مشروع بحثي عن تكوّن النظام الدولي المعاصر، تحت اسم «الايديولوجيا الهندية». المثير في النقد الذي احتواه الكتاب، والردود التي وردت عليه من مثقفين هنود، أنّه يقدّم نقاشاً - متقدّماً - عن الكثير من القضايا التي تواجه، اليوم، «أنظمة ما بعد الاستقلال» في الشرق الأوسط وكلّ أرجاء العالم الثالث.
يعتبر أندرسون أنّ النظام السياسي الهندي، منذ الاستقلال، يقوم على مجموعة «أساطير قومية»، روّج لها الآباء المؤسّسون للبلد، ولم يتم التشكيك بها من قبل النخبة السياسية والأكاديمية في الهند منذ الأربعينيات - حتى في حالة مفكرين يساريين ونقديين، كبانو مهتا وغوها وامارتيا سِن وغيرهم. هذه «الأساطير»، التي تدّعي «وحدة طبيعية» للهند عمرها آلاف السنين، وتوليفة «عبقرية» لإدارة التنوّع في اطار الديمقراطية، وأن الهند قد قامت على «علمانية» دولة الاستقلال هي، مجتمعة، ما يطلق عليه اندرسون اسم «الايديولوجيا الهندية»، التي يرى أن تفنيدها والتحرر منها هو شرطٌ أساسي لفهم تاريخ البلد وحاضره، ولتجاوز النظام النخبوي والإقصائي والعقيم (في رأيه)، الذي يدير المجتمع الهندي اليوم.
هكذا، يكرّس أندرسون دراسته لتفكيك هذه الادعاءات واحداً اثر الآخر. على عكس الصورة المثالية التي يقدمها التاريخ الهندي عن غاندي، يقول الكاتب، فإن سيرة الرجل الحقيقية هي سيرة زعيمٍ هندوسي، متديّن وطائفي، لم يكن يطمح حقيقة الى الاستقلال (شعاره كان الـ»سواراج»، أي الحكم الذاتي فحسب)، ومواقفه السياسية تحفل بالتناقضات (على سبيل المثال، إن غاندي، الذي اشتهر بالدعوة الى اللاعنف، قد أسهم في حملات التجنيد البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى التي كانت تهدف الى ارسال المزارعين الهنود للقتال في الخنادق الأوروبية؛ وهو، شخصياً، قد تطوّع للخدمة العسكرية في الجيش البريطاني في جنوب افريقيا مرتين، خلال حربي «البوير» و»الزولو»).
الا أنّ أكثر ما يتجاهله التراث الهندي المعاصر، الذي يمجّد شخصية غاندي، هو نزعته الدينية الماورائية، التي تحكمت - بالكامل - بنظرته الى السياسة والمجتمع. غاندي، كما تظهر السير الحديثة عنه، لم يكن زعيماً «دينياً» على طريقة الخميني أو سيد قطب، اللذين حاولا «تسييس» الدين أو تطويعه لخدمة السياسة. غاندي كان مهووساً دينياً بالمعنى الحقيقي والبسيط للكلمة، حيث الخلاص الروحي هو، بالنسبة اليه، المبتدأ والمنتهى (والسياسة و»السواراج» والزهد في الاستهلاك كانت، كلها، وسائل للوصول الى الخلاص الروحي، له ولشعبه وللعالم بأسره). غاندي لم يكتفِ، مثلاً، بالامتناع عن الجنس واعتباره عائقاً أمام الارتقاء الروحي، بل كان يريد تطبيق هذه القاعدة على الجموع، مدّعياً، بحسب اندرسون، أن ذلك لن يؤدي الى انقراض الجنس البشري، بل الى انتقاله الى حالة «أرفع»!
هذه المعتقدات الدينية كان لها أثرٌ قاتل في تكوين ثقافة «حزب المؤتمر» الذي كان، أساساً، تجمعاً للنخب الهندوسية، والذي تخيّل (بوعي أو بغير قصد) وطناً أزلياً للهندوس لا مكان فيه للمسلمين. هذا ما قاد الى الاضطرابات الطائفية وكارثة التقسيم ومجازره التي، يقول أندرسون، لم يعترف القادة الهنود بمسؤوليتهم التاريخية عنها الى اليوم، بل بنوا مجتمعاً يواصل اقصاء المسلمين وظلمهم - يمثل الهنود المسلمون، وهم اكثر من 13 بالمئة من الشعب، أقل من خمسة بالمئة من الجهاز الإداري، وواحداً بالمئة من الجيش، ويعيش الكثير منهم في ظروف أسوأ من تلك التي يعانيها أبناء الطوائف الهندوسية الدنيا.
بدلاً من هندٍ «موحّدة منذ خمسة آلاف سنة» كما كان غاندي ونهرو يرددان، فإن القارة الهندية لم تشكل يوماً كياناً سياسياً واحداً، بل عدة ممالك سلالية متجاورة في أقاليم مختلفة من البلد. أجزاء كبيرة من الهند الحالية قد ضمّت اليها قسراً وبالضد من رغبة سكانها؛ وهذا لا يقتصر على كشمير المسلمة، بل ايضاً مناطق قبلية في الشمال والغرب، ومئات الإمارات المحلية التي صارت جزءاً من الهند بالقوة والأرغام.
أمّا «الديمقراطية الهندية»، التي يفترض انها تحضن التنوّع الهائل في البلد ضمن اطارٍ علماني، فإن أندرسون يوضح أنّها، في الحقيقة، ليست أكثر من واجهة لإدارة مجتمع الطوائف وتقسيماته، ما يجعلها أشبه بـ»نظام برلماني قامع» (كان الزعيم الهندي التاريخي بي ار امبدكار يقول عن نظام الطوائف - الذي أعطاه غاندي ونهرو طابعاً «فولكلوريا» ايجابياً - إنّه عدوّ طبيعي لكل مفاهيم العدالة والمساواة والتآخي).
بالنسبة الى أندرسون، فإنّ الإمكانية الوحيدة لتحقيق دولة تلبّي وعود الاستقلال تبدأ بالاعتراف بهذه «الخطايا الأصلية» ورؤية تاريخ الهند كما هو، بعيداً عن الأساطير التوافقية التي يروّجها الحكّام؛ والّا، فإن الهند لن تكون يوماً في سلامٍ مع ذاتها وماضيها، ولن يفهم المراقبون أن حزب الـ»بي جي بي» الهندوسي اليميني هو نتاجٌ «طبيعي» للتطوّر السياسي لنخبتها. على الهامش هنا، فإن بعض الردود على دراسة أندرسون، وبينها مقالٌ مهم لبرابهات باتنايك، استاذ الاقتصاد المخضرم في جامعة جواهرلال نهرو، تقترح حلولاً مغايرة، تبدأ بإحياء «اللغة الخشبية» التي تخلّى عنها حزب المؤتمر في التسعينيات، واعتماد ايديولوجيا «معاداة الامبريالية» كأساس للاجتماع الوطني. وهذا نقاشٌ له تكملة.