متحاصصو السلطة والنفوذ والإدارة والموازنة... الذين توحدوا بشراسة، بالأمس، ضد حقوق أكثرية المواطنين اللبنانيين في تحسين أجورهم المجمَّدة، منذ حوالى عشرين سنة، يتشاجرون، الآن، مرة جديدة، حول «حقوق» أحد الأطراف الذي يعتبر أن تمييزاً يمارس ضده لحساب شركاء آخرين يثابرون على تحجيمه إذا تعذَّر عليهم إقصاؤه بالكامل. وهكذا من أجل «شراكة» عادلة ومتوازنة مضى العماد في تصعيد الشعار والتعبئة الطائفيين إلى الحد الأقصى: التهديد بالانقسام (الفيدرالية) إذا استمرت هذه القسمة الجائرة. هو، لهذا الغرض، طالب بتفعيل وتعميم «المناصفة» الطائفية على كل الحقول والمجالات: السياسية والإدارية والمالية... قاتل من أجل «حقه» في رئاسة الجمهورية وتسمية الموظفين الكبار من طائفته بوصفه القوة المسيحية الأكثر تمثيلاً. تقدم بمشروع قانون انتخابات («الأرثوذكسي») بحيث تنتخب كل طائفة نوابها... وصل الأمر إلى حد إضفاء طابع طائفي على ملف النفط وتوزيع «بلوكاته» ومراحل تنفيذها والجهات التي ستدير وتشرف... ما يجعل النفط ذا مرجعية معينة كما هو الأمر بالنسبة لعناوين أخرى في السياسة والاقتصاد والأمن.
لهذا الغرض، أيضاً، اختبر العماد ميشال عون ومساعدوه محاولات عدة: الانفتاح على تيار المستقبل ورئيسه ومرجعيته الإقليمية أملاً في كسب تأييدهم لـ «حقوقه» وطموحاته وعبر تقديم نفسه مرشح توافق لا صدام. إدارة حوار طويل ومرهق (للطرفين) مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، من أجل سد فجوة يستخدمها خصومه وهي الانقسام بين المسيحيين حول المواقع والتوجهات والتحالفات.
يشعر عون بأنه مستهدف
بسبب موقفه السياسي وهو موقف كان وما زال مميزاً

طبعاً، كان من الوهم الاعتقاد بأن بمقدور العماد عون، وفق مشهد الانقسام الحاد القائم في البلاد، أن يكسب دعم طرف خصم من دون أن يخسر حليف (أو أكثر) قديم. ولم يكن تيار المستقبل، من جهته، في وارد أن يقدم هدايا مجانية للتيار الوطني الحر وزعيمه، بعد أن ارتكب «الكبائر» وتحالف مع حزب الله ودشّن في بيئته، على المستويين السياسي والشعبي، بناء وتكريس نهج جديد متعارض مع نهج تقليدي كان يقوم على الحذر حيال سوريا والعروبة، وعلى المراهنة على «الغرب» والالتحاق بسياساته ومشاريعه.
نجح العماد عون، جزئياً، في تحييد الدكتور جعجع، من دون أن يحصل على دعم ترشيحه للرئاسة (الاستفتاء لكسب الوقت)، بعد أن تبنى بعض سياساته وتوجهاته وبعض مفرداته القديمة (التلويح بالفيدرالية). لكنه فشل تماماً في محاولته كسب تأييد تيار المستقبل. دفعه ذلك، مع مرور الوقت واستهلاك المحاولات والفرص، إلى التصعيد منفرداً. في هذا السياق كان سعيه إلى تعطيل مجلس الوزراء ما لم يستجب لرغبته في وقف اعتماد التمديد في المواقع الأمنية من الفئة الأولى (لموظفين من غير تياره السياسي)، وفي تبني تعيين من يسميهم هو لهذه المواقع، باعتباره صاحب «حق» في ذلك بنفس المقدار الذي يمارس فيه الآخرون «حقوقهم» في تسميه مواقع مشابهة من دون أن ينازعهم فيها أحد.
قد يقال الكثير في التوقيت «غير المناسب» لهذا الشجار الذي أطلقه عون، باعتبار ما يجري حولنا من كوارث ومخاطر، يحتاج فيها لبنان إلى المحافظة على الحد الأدنى من الوحدة السياسية ومن فعالية عمل المؤسسات وخصوصاً منها السياسية الأمنية والعسكرية. وقد تُطرح تساؤلات مشروعة أيضاً بشأن خطورة استخدام التحرك في الشارع في هذه المرحلة حيث التطرف التكفيري والانقسام المذهبي يتقدمان على ما عداهما (إلى حدود الفتنة الشاملة)، مع ما يرافق ذلك من أزمات ودماء ودمار يستغلها الأعداء من أجل إضعاف مجتمعاتنا ووحدتنا ومن أجل النيل من حقوقنا وثرواتنا ومصالحنا.
كل ذلك أمر مشروع النقاش فيه والتحذير من مخاطره. لكن هذين، التوقيت غير الملائم والتصعيد في الشارع، ليسا الأساس. الأساس يبقى في أن أزمة «الشراكة» الحالية، التي يلح عون على الشكوى منها وعدم قبول استمرارها، إنما هي ثمرة صيغة المحاصصة الطائفية والمذهبية التي ما زالت تترسخ وتتعمم في لبنان ومؤسساته حتى بلغت ذروة تفاقمها في المرحلة الحالية عبر تعطيل المؤسسات واستشراء الفساد وتعاظم العجز عن إدارة شؤون البلاد... فيما المنطقة ولبنان يواجهان تحديات مصيرية وبالغة الخطورة بكل ما في الكلمة من معنى.
لم تحصل هذه الأزمة إلا بسبب التمسك بصيغة المحاصصة من قبل النافذين المستفيدين منها. فهؤلاء، بالاستناد إلى هذه الصيغة المتخلفة والمقفلة في وجه التطور والتحديث والمشاركة والعدالة، قد قاوموا أيضاً كل محاولات تطويرها، ولو تدريجياً، كما في وثيقة «الطائف» ومن ثمَّ في الدستور اللبناني الذي لا يُذكر، بالمناسبة، إلا لاستخدامه استنسابياً لا لاستحضار بنوده من أجل صياغة توجه أو تأكيد مشروعية موقف أو رأي. فالدستور يتعرض، سنة بعد سنة، لعملية انتهاك معيبة هي أقرب إلى القرصنة واللصوصية فضلاً عن التشويه والاجتزاء والتعطيل.
إن المسألة موضع النقاش والشجار الآن، والتي يُراد لهل أن تكون قضية القضايا، اليوم وغداً وفي المستقبل، هي «المناصفة» بكل ما يتصل بها من تحاصص المواقع والإدارة والنفوذ. لكن «المناصفة»، في النص الدستوري، إنما تدخل في بند أحكام «المرحلة الانتقالية» أي الموقتة كما نصّت بوضوح قاطع المادة 95 من الدستور الذي جاء في مقدمته، بشكل قاطع أيضاً، أنّ «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية» (استخدام مفردة «مرحلية» في مقدمة الدستور ومادته الأخيرة لا يبدو مجرد صدفة). وقد حددت المواد 22 و24 و95 آليات ومُهلاً لإلغاء الطائفية ولإنتاج مجلس نيابي خارج القيد الطائفي. كما نصّت في المقابل، على إحالة المسألة الطائفية بوصفها مسألة اجتماعية واقعية، في التاريخ والحاضر اللبنانيين، إلى «مجلس شيوخ» مستحدث يكون، هو وحده، المكان الحصري للتداول في الهواجس والشؤون «المصيرية» (من وجهة نظر التركيبة الطائفية وما يتصل بها من أحوال شخصية أو خيارات مهمة تتطلب توافقات مسبقة لاعتمادها).
يشعر العماد عون أنه مستهدف بسبب موقفه السياسي وهو موقف، والحق يقال، كان وما زال مميزاً وشجاعاً لجهة مغادرة «الانعزال» والتخلي عن الرهان على القوى الاستعمارية والرجعية المرتبطة بها. لكن لماذا يلجأ إلى الرد الطائفي في مواجهة استهداف سياسي؟! بكلام آخر، لماذا يستبعد من خياراته «التهديد» بتطوير وإصلاح النظام وبتحريره من المحاصصة الطائفية والمذهبية بدل التلويح بالانقسام بصيغة الفدرالية أو سواها؟ لو فعل ذلك لكان ترجم، بالفعل، شعار كتلته النيابية «التغيير والإصلاح»، ولكان قدّم مساهمة تاريخية يحتاجها كل اللبنانيين وليس المسيحيون منهم فحسب (ولربما وجدنا «تسيبراس لبنان» الذي يبحث عنه الزعيم جنبلاط!). ثم أن التهديد بالفدرلة، التي يمكن أن تقود بدورها الى التقسيم، ليس أمراً يمكن إدخاله في باب المزاح أو التاكتيك أو الانفعال. إنه أمر في غاية الخطورة وخصوصاً في هذه المرحلة التي تنشط فيها أسوأ محاولات التفتيت والفتن. وهي محاولات تديرها قوى كبرى سعت وتسعى من أجل السيطرة على المنطقة وثرواتها ومصائرها بأقذر السبل والأساليب.
في آليات منظومة المحاصصة أن الدويلات أهم من الدولة، وأن نسبة القوى في تحقيق «الشراكة»، هي في موقع أعلى وأفعل من الدستور والقانون. هذا الأمر. يتمادى ويتفاقم إلى أبعد الحدود الآن، مستنداً، من بين عوامل أخرى، إلى اختلال العامل السكاني المتحرك بدوره (لغير مصلحة تطبيق وتكريس «المناصفة» الطائفية بشكل دائم). المحاصصة ستستمر عامل خلل وإعاقة أمام بناء دولة قانون ومؤسسات وأمام إمكانية قيام وطن موحَّد وحصين ومستقل (المحاصصة تستدرج الاستقواء بالخارج والارتهان له) ومستقر ومزدهر وديمقراطي.
تحرك عون، بالكيفية الراهنة، هو إمعان في الأزمة الوطنية لا مدخل الى تطبيق «الشراكة» المسيحية!
* كاتب وسياسي لبناني