شكّل طرد تنظيمي «داعش» و«النصرة» (القاعدة) مهزومين من جرود لبنان الشمالية الشرقية (عرسال والقاع ورأس بعلبك) علامة إيجابية جديدة في مسار أمني متواصل. وهو مسار بدت فيه «السياسة» متخلفة، نسبياً، عن الأمن، وبدا السبب الخارجي راجحاً على الأسباب الداخلية: في توفير الحاضنة لقرار الإجهاز على الإرهابيين التكفيريين في المناطق اللبنانية التي احتلوها.
يعترض البعض على استخدام وصف تكفيري من قبل كتاب يساريين أو من قبل منظمات ذات بنية واستهدافات علمانية. سياسة النعامة لا تنفع خصوصاً في هذا الحقل. القول: ما شأن العلمانيين بمصطلحات يستخدمها أو يتبادلها غير العلمانيين من المتطرفين دينياً أو طائفياً أو مذهبياً، لم يحل دون اغتيال المفكِّر المصري فرج فوده ولا دون عزل وإرهاب المفكر، المصري أيضاً، نصر حامد أبو زيد، وكذلك دون استهداف سواهم في مصر وغيرها... التكفيري هو الذي يحكم بالقتل على كل من يخالفه في إيمانه أو بعض إيمانه: سواءً كان المخالف مؤمناً أو غير مؤمن، من دينه أو من غير دينه، من مذهبه و«فرقته» أو من غير هذا وتلك... التكفير، المعني هنا، هو ثمرة عملية جمع، بصورة شديدة التطرف والتوحش، ما بين تشدد عقائدي أعمى وهمجية مفرطة في التطبيق. فكيف إذا أضيفت إليه عناصر الشبهة والتعصب والجهل والأجندات الاستعمارية التآمرية...
هزيمة وطرد التنظيمين الإرهابيين توَّجا، في الوضع اللبناني، سلسلة خطوات إيجابية اجتمع على تحقيقها، وفق تناغم وتنسيق مسبق (غالباً)، جهد الأجهزة الأمنية اللبنانية وجهد جهاز المقاومة. ولقد مكّن ذلك من كشف شبكات إرهابية وتعطيل عمليات واعتقال استباقي لمتورطين كثر، تبيّن، أيضاً، أنهم على شيء من الهشاشة، لجهة تفاعل العصبية في دوافعهم مع الغرضية والارتزاق والبلطجة. لم تكن قليلة الخسائر التي نجمت عن العمليات الإرهابية التي جرى تنفيذها. وأمكن في نطاق سياق أمني متماسك ومثابر جسد توافقاً سياسياً خارجياً وداخلياً أيضاً، ضرب حصار أمني وعسكري متصاعد أفضى، في ظروف تقدم شعار محاربة الإرهاب على ما عداه، وفي ظروف التحولات النوعية في الوضع السوري، إلى جعل التنظيمات الإرهابية تتكبد خسائر ضخمة متواصلة: من العراق وليبيا إلى سوريا ولبنان...
لا جدال في أن انتصارات باهرة قد تحققت ضد الإرهابيين التكفيريين. لا شك أيضاً أن تضحيات جسيمة وبطولات مؤكدة قد حصلت في مجرى الحرب على الإرهاب. في التضحيات، يشكل مصير العسكريين المخطوفين نموذجاً على فداحتها. وفي البطولات قدم الجيش اللبناني، وقبله المقاومة، نموذجاً في تحقيق إنجازات جديدة إذا توفرت الإرادة السياسية، وإذا توفر السلاح والاحتضان والكفاءة في حسن إدارة العمليات من جوانبها كافة.
لكن، للأسف الشديد، أن هذه النجاحات، في الحقلين الأمني والعسكري، قد شكلت استثناءً في مسار انحداري متواصل على مستوى السياسة بشكل عام، وعلى مستوى الإدارة الداخلية بشكل خاص.
لا يمكن الموافقة على ما يزعمه البعض من إنجازات ذات شأن بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة، قبل حوالى عشرة أشهر. بشكل عام، ترسَّخت المحاصصة. وما يُعدُّ إنجازاً غير مسبوق مجسداً بإقرار قانون الانتخابات الجديد، قد جاء ليكرس ما هو قائم من اختلالات، لجهة عدم صحة التمثيل وعدم احترام الدستور، لا ليلغيها. برزت الاختلالات، أول ما برزت من خلال إقرار مرسوم النفط. وقد انطوى المرسوم على تقاسم أقرَّ مسبقاً من ضمن صفقتيّ الرئاسة والحكومة، فضلاً عن تفريط مخيف بحقوق الدولة اللبنانية وبإشرافها ورقابتها، لحساب الشركات الخاصة. أما أزمة الخدمات الضرورية فما زالت تراوح في نطاق دائرة الفساد نفسها لجهة صفقات هي أقرب إلى نهب فج وفاجر من أي أمر آخر. هذا ينطبق على صفقة بواخر الكهرباء التي يجري الإصرار على تمريرها مهما كان الثمن! ولا نضيف جديداً إذا ذكّرنا بأن أزمة النفايات مرشحة للانفجار في القريب العاجل. ويشكو المواطن الآن من أزمة مياه شبه شاملة ومن شلل الإدارة وفئوية السلوك والتعيينات فيها. أما سلسلة الرتب والرواتب، التي فرضت على السلطة، ومعها بعض الضرائب على أرباح المصارف والتوظيفات مرتفعة الفوائد، فما زالت موضع رفض حاد من قبل حيتان المال وممثليهم. هذا فيما ترتفع الأسعار على كل السلع بدون رحمة، وتباشر المدارس الخاصة رفع أقساطها بدون رقابة. والأخطر ما جرى من «هندسات» مالية بلغت تكاليفها، لحساب المصارف، بضع مليارات من الدولارات فقط لا غير!
لم يوفر وباء الفساد المؤسسات الأمنية نفسها. ما كُشف من اختلاسات في بعض مديريات الأمن الداخلي، ورشى في أسلاك عسكرية أخرى إنما يؤكد أن الفساد قد أصبح «ثقافة» سائدة لا يخلو منها قطاع أو مرفق. بدورها فضحت التعيينات، حجم المحسوبية والفئوية في الاختيار وسط كلام «نحوي» عن الإصلاح والشفافية وتفعيل الإدارة وخدمة المواطن...
في مجرى ذلك تصبح المحاسبة والرقابة كلمتين غريبتين على قاموس السياسة والإدارة اللبنانية. يستمر أيضاً خرق الدستور في حقول عديدة. ويستمر كذلك التأجيج الطائفي والمذهبي وينظر كثيرون، عن حق بتشكك كبير إلى احتمال إجراء الانتخابات النيابية في الربيع القادم بعد تطيير الانتخابات الفرعية الواجبة الحصول دستورياً، وسط صراع على الآليات والبطاقة الممغنطة وإشارات الى تعديل القانون الجديد نفسه، ونحو الأسوأ طبعاً! إلى ذلك يستمر تهميش القضاء والإمعان في منعه من أن يتحول إلى سلطة مستقلة غير تابعة للسلطة السياسية ولمنظومة المحاصصة المتفاقمة.
«طبيعي» (!) في مثل هذا المناخ، أن تعقد صفقات لتضييع ارتكابات سابقة: في عدم إعداد وإصدار الموازنة السنوية في موعدها القانوني (أكثر من عشر سنوات)، وفي عدم المحاسبة عن عمليات هدر ونهب موصوفة بالمليارات، وفي تحويل الإدارة إلى أداة انتفاع ومحسوبيات ونهب لموارد الدولة في محاصصات كبيرة وسرقات متنوعة لا حسيب عليها ولا رقيب...
ويبقى الغائب الأكبر عن المشهد السياسي تيار المعارضة الشعبي المستقل الذي يستمر عاجزاً عن تزخيم وتنظيم تململ وتعبيرات الاحتجاج المتنوعة في صفوف المواطنين المتضررين، وهؤلاء يشكلون الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني. هذا التيار هو الذي ينبغي أن يشكل، من خلال حضوره وبرنامجه وتأثيره، الرقيب الشعبي المتصدي للأخطاء والارتكابات والفاضح للمسؤولين عنها أمام الرأي العام بدون تباطؤ أو تمييز... وأن يشكل، كذلك، البديل المتوخى لنظام المحاصصة والفئوية والدويلات والتبعية.
* كاتب وسياسي لبناني